الخميس، 31 يوليو 2014

على الفكر الإسلامي أن يتحرر من سارتر وفرويد ودوركايم


الأستاذ أنور الجندي - رحمه الله

استطاع فرويد أن يخدع الفكر البشري أكثر من سبعين عاماً قبل أن تكتشف هويته. وبالرغم مما أوردته بروتوكولات صهيون من إشارة إلى أنه – هو وماركس – من مخططات اليهودية العالمية، فقد ظل كثير من الرازحين تحت أحمال التبعية الفكرية الوافدة ينظرون إليه في تقدير كبير وخاصة أولئك الذين احترفوا تدريس مادة علم النفس في الجامعات وفي البلاد العربية. كان سلامة موسى في مقدمة من دعا إلى هذا الفكر وظل يكتب عنه يوماً بعد يوم - لا على أنه نظريات أو فروض - وإنما على أنه حقائق علمية وصلت مكان الكمال المطلق وجرت على الألسنة كلمات: مركب النقص، والعقل الباطن، وغيرها من مصطلحات، حتى جاء الوقت الذي استطاع علماء النفس أنفسهم أن يضعوا الحقائق كاملة بين أيدي المثقفين والباحثين عندما أعلن المتخصصون منهم أن ما أورده فرويد من أصول لنظريته جرت مجرى العلم الصحيح ما هي إلا أصول الفلسفة التلمودية الصهيونية اليهودية مجددة ومصاغة في قالب علمي براق استطاع أن يخدع الكثيرين. وقد كشف الدكتور صبري جرجس في كتابه (التراث التلمودي الفرويدي) عن هذه المؤامرة الخادعة. أما سلامة موسى فلم يكن عالماً متخصصاً بقدر ما كان مروجاً للفكر الغربي الصهيوني في عشرات من النظريات والأفكار التي دعا إليها ورددها في مؤلفاته (وسوف يأتي الوقت الذي نحصي هذه الشبهات). بل إن الدكتور صبري جرجس بوصفه مسيحياً – يرى مدى الخطر الذي يحيط بعقيدته من جراء استسلامه لزيوف الفكر التلمودي اليهودي الذي قام أساساً لضرب المسيحية الغربية وتدميرها والذي استغل كلمات (نيتشة) ورينان وأوجست وماركس وفرويد وسارتر ضد الدين والتي كانت موجهة أساساً إلى المسيحية الغربية وحدها باعتبارها "الموقف" العقلي لمرحلة من الفكر الغربي إزاء العقيدة القائمة في مجتمعه. ومن هنا كانت حملة الدكتور صبري جرجس الذي لم يكن يكتشف هذا الخطر لولا أن بعض مؤرخي اليهود أعلنوا أن فكر فرويد هو من صميم مذهبهم التلمودي الذي يقوم على أساس إثارة روح التحلل والفساد.
 في حياة فرويد نفسه ما يوحي بأنه كان صديقاً (لهرتزل) الذي حمل لواء الدعوة إلى الصهيونية والذي كان على رأس مجموعة الحاخامات الثلاثمائة في بازل عام 1892 م ومعهم صحائف (بروتوكولات صهيون) التي أشارت إلى هذا المخطط والتي لا يزال كثير من الذين يكتبون بالعبرية يدافعون عن الصهيونية وينفسون نسبة هذه البروتوكولات إليها (ولا ريب أن كل دعاة الفصل بين اليهودية والصهيونية وهؤلاء المدافعين باسم التحقيق العلمي المضلل إنما هم من أتباع الماركسية التي هي وليدة الصهيونية أساساً والتي تحاول أن تحافظ على هذه العلاقة السرية).
ولقد كان علينا نحن العرب والمسلمين أن نتحرر من مفاهيم فرويد الذي لم يتوقف عند التحليل النفسي (وله فيه آراء صائبة مستمدة من الفكر الإسلامي أساساً) ولكنه مضى حتى وضع أيديلوجية كاملة شملت الأدب والفن والمجتمع والعقائد جميعاً، وحاولت في أهم ما رمت إليه إلى التركيز على الفصل بين الاعتقاد والعمل، أو بين العلم والسلوك وذلك بالقول بأنه هناك عقل باطن منفصل عن العقل الظاهر، وفي ذلك محاولة خطيرة للإخلال بحقيقة أساسية في تكوين الإنسان وهي الترابط بين المعرفة والإرادة، وتعد هذه النظرية ضربة موجهة إلى الفطرة وإلى اليقين النفسي الذي جاءت به الأديان، هذا بالإضافة إلى مؤامرته تحت اسم الجنس. ولعل هذا الاتجاه كله هو نتاج من التوزيع الدقيق للأدوار في مسألة الصراع الفكري، فحيث كانت آراء ماركس في أساسها من مخططات التلمودية اليهودية مصاغة في قالب اقتصادي عصري، فإن هذا يتمثل الجانب الاجتماعي، وبذلك يسيطر الفكر اليهودي التلمودي على الفكر البشري كله في مجالات الاقتصاد والاجتماع والنفس والأخلاق ومنها يمتد إلى الأدب والفن ولا يبقى شيء بعد ذلك صالحاً لأن تقال فيه كلمة حق.
كل هذا الذي نقول يعد الآن من البديهيات التي ليست في حاجة إلى إعادة، ولكنا نريد أن نرى إلى أي حد واصل البحث طريقه في الكشف عن زيف فرويد.
1-     هذا كتاب جديد تأليف بول روزن أستاذ علم النفس بجامعة هاروفارد تحت عنوان (قصة فرويد وتايزك) يزيح فيه فيكتور تايزك معاصر فرويد وأحد رواد علم النفس حقائق خطيرة.
ويكشف عن مدى أحقاد فرويد التي ساقها حرباً شعواء ضد هذا الباحث نتيجة غيرته منه، وفي سبيل عرقلة جهوده وأبحاثه في حقل علم النفس مما دفع به (دفع بتايزك) في النهاية إلى الانتحار بإطلاق الرصاص على نفسه في 3 يوليو 1919 م، وكان قد رحل إلى فيينا لدراسة علم النفس، وقدر لأبحاثه الرواج والانتشار، مما لفت نظر فرويد. وقد كشف المؤلف عن غيرة وحسد فرويد من تايزك لنبوغه وأصالة أبحاثه، حتى أنه رفض معالجته عندما اشتدت أزمته النفسية وحين أوكل علاجه إلى تلميذه فرويد (هيلبي ديتش) بل إن فرويد وصل إلى حد تهديد تلميذته ومنعها من مساعدته مما دفعه في نهاية الأمر إلى نوع من اليأس القاتل بإطلاقه الرصاص على نفسه.
2-     وفي فرنسا صدر كتاب عن فرويد بقلم (لوس إيرا جراي) التي تنتمي إلى المدرسة الفرويدية ، والكتاب اسمه (المنظار الطبي للمرأة الأخرى) وقد أحدث ضجة كبرى رغم أن مؤلفته قد طردت بسببه من الجامعة. لاحظت المؤلفة أن فرويد عندما يتكلم عن المرأة يضيع عقله ويشتد شريط تحليله ومنطقيته فهو يشعر دائماً أنه السيد، وهو عندما يتكلم عن المرأة يتجه إلى الرجال على أساس أن المرأة لا يجب عليها معرفة شيء من أمورها حين يناقش الرجال الموضوع وأن مشكلة الأنوثة تهم الرجال ولكنه بالنسبة للمرأة الموجودة معهم، وترى المؤلفة أن المرأة عند فرويد لغز عجز الرجال عن اكتشافه. وبذلك بقيت المرأة بمثابة (الأرض الموحشة) في علم النفس وتحاول المؤلفة أن تصل من هذا إلى أن فرويد بالرغم من كل ما يحاول إعلانه من استقامة البحث لا يرى في المرة كائناً إنسانياً، وأنه لم يأت بجديد سوى أنه صقل تحاليل أفلاطون، وتقول المؤلفة أنه ربما كان فرويد مريضاً ويعاني عقدة إزاء المرأة. وتقول أن تحويل المرأة إلى لغز عند فرويد يعتبر سلباً لطابعها الإنساني وتحويلاً لها إلى شيء خارجي.
وعندنا أن رأي فرويد مستمد أيضاً من مفهوم التلمود، فهو يحاول أن يصورها على أنها أداة جنسية للمتعة، ولذلك فهو ينكر إنسانيتها واستقلالها ويرى فيها رأي الفسلفات القديمة التي تحتقر المرأة.
4- عالج فيلكس وجاناري في كتابهما (إنني أوديب) نظريات فرويد وأشارا إلى أن فرويد هو مفتاح الإمبراطورية البروسية، وأن علم النفس التحليلي الذي أسسه فيما بعد. كما أشار بنيامين نيلسون في كتابه فرويد والقرن العشرين إلى أن فلسفة فرويد مادية صرفة، تنكر الروحانية والحرية، وأنه يعد الحالات النفسية العليا كالإلهام الشعري والحب الصوفي مجرد تحويلات وأقنعة للغريزة الجنسية.
وأن رأي فرويد في قصور الإنسان دون الوصول إلى الكمال لم يستمده من المسيحية بل من دارون وأن فرويد قد اعتمد على أساطير قديمة كالمأساة اليونانية في عقدة أوديب وعقدة الكترا والصراع بين إيروس إله الحب والحياة وثاناسوس إله الموت، وأنه غارق في فكرة الخطيئة الأولى.
ولا ريب أن هذه الحقائق التي لم يكتشفها الفكر الأوروبي إلا أخيراً كانت واضحة في عقل الباحثين المسلمين منذ اليوم الأول لنظزرهم في فكر فرويد، بل إن كتاب الإنسان بين المادية والإسلام الذي كتبه مؤلفه في سن باكرى وهو يدرس في قسم الفسلسفة وعلم النفس في كلية الآداب ما زال حتى الآن بالرغم من مضي أكثر من ربع قرن على ظهوره واضح الدلالة في عجز نظرية فرويد عن فهم النفس الإنسانية، وأن معطيات القرآن والسنة النبوية والفكر الإسلامي في هذا المجال بالغة القوة والحيوية والصدق.
ولكن الفكر الغربي لم يتنبه إلا أخيراً لفساد نظرية فرويد يعرف أن أي نقد لها اليوم لا قيمة له لأنها قد تغلغلت تغلغلاً كاملاً في كل أعمال الأدب والفن والقصة والمسرحية حتى لم يعد هناك تراجع في أثر هذه النظرية التي أرادت تدمير الفكر الغربي المسيحي ورده إلى الوثنيات والأساطير والخرافات.
ونحن نعرف أن فرويد حين بدأ مع (ادلرويونج) في أوائل هذا القرن كان عنيفاً في فرض اتجاهه بالتفسير الجنسي الذي خالفه فيه صاحباه وانفصلا عنه كما اختلف مه جيمس حين التقى به في أمريكا بعد ذلك، وأنه لم يبق معه إلا اليهود: رانك وجونز وبريل.
ولكن إذا كان فرويد على خطأ – وهو على خطأ معارض للفطرة والعلم والعقل في دعواه – فلماذا أتيح له هذا النفوذ الخطير وهذا الدور المدوى، لم يكن ذلك لوجه العلم وحده، ولم يكن ذلك طبيعياً، ولكنه كان بقوة من الدفع اليهودي الصهيوني المسيطر على النظريات والمذاهب، القادر على فرض ما يشاء منها ومن قبل كان والاس قد سبق دارون وكان أقرب منه إلى الفطرة والعلم الصحيح ومع ذلك فقد دوى صوت دارون لأنه اتخذ منطلقاً إلى النظرية المادية وإلى فرض نظرية التطور الاجتماعي المطلق وكانت نظريته قاصرة على مجال البيولوجيا وحدها.
وكذلك كان الأمر بالنسبة لفرويد من أدلرويونج، فقد قالا بأن العامل الجنسي ليس هو المصدر الأوحد للتصرف الإنساني ولكنه واحد من عوامل كثيرة منها تأكيد الذات ومركب النقص، ولكن دعوى التحدي بالجنس وحده كمصدر لتصرفات الإنسان هي التي شاعت وذاعت.
ونحن نجد النظرية تسقط اليوم سقوطاً علمياً شديداً، ولكن أصحاب الفلسفة المادية يحاولون تمديدها بربطها بالماركسية من ناحية، وبالدعوة إلى ما يطلق عليه الثورة الجنسية وبربطها بالوجودية وهذا ما سنتحدث عنه بعد.
ثانياً: سارتر:
إن أي نظرية يتقدم بها فيلسوف أو مصلح تتمثل فيها حقائق هامة:
أولاً: إن هذه النظرية هي فرضية افترضها هذا الفيلسوف بناء على نظرته إلى الأمور.
ثانياً: إنها نظرية تتصل اتصالاً تاماً بالتحديات الخاصة بشخصية هذا الفيلسوف وبيئته وعصره ومجتمعه وظروف معينة قائمة.
ثالثاً: إن الإنسان على أعلى درجة من التفكير والنظر لا يستطيع أن يخرج عن أبعاد وجوده البشري والعقلي والنفسي ولا يستطيع أن يشرع للمجتمع الإنساني كله.
ومن ثم فإن كل ما يقدمه الفكر البشري هو فرض يقبل الخطأ والصواب، ويصلح لمجتمع ولا يصلح لآخر، وينفع في عصر ولا ينفع في جميع العصور، ولقد اعتورت النظريات والمناهج أسباب القصور وحل بها النقص واحتاجت إلى الإضافة والحذف على مدى قريب من ظهورها وذهب بعضها وأنطوى عجزاً وفساداً وليس أدل على ذلك من ناحية أخرى على نحو يوحي بإنقاذ المراكب الغارقة، العصر الذي اضطربت وعجزت في بيئاتها الخاصة واضطرب أصحابها إلى تعديلها بالإضافة والحذف ومحاولة الربط بين الوجودية والماركسية من ناحية وبين الفرويدية والماركسية من ناحية أخرى على نحو يومي بإنقاذ المراكب الغارقة، وعلى بعد ما بين الأيديولوجيات الثلاث من تناقض واختلاف.
ونحن نعرف أن الوجودية "صيحة أزمة" تعالت في فرنسا بعد انهيارها في الحرب العالمية الثانية حين هوت تحت سنابك خيل الألمان صريعة الانحلال الخلقي. فجاءت الوجودية التي دعا إليها سارتر ليطلق للشباب أمر التهالك على الشهوات تحدياً للخطر الماحق الذي يعيش تحته العالم، وبعد أن أفقدت الحرب أمم أوروبا زهرة شبابها التي تجاوزت المائة مليون. ولقد كانت وجودية سارتر وجودية ملحدة نابعة من الفكر المادي وإن حاولت أن توجد للإنسان منطلقاً عاصفاً حيث جردته من مسئوليته الفردية وإلزامه الأخلاقي وأحالت ذلك كله على المجتمع.
ومن ثم أنطلقت تلك الصورة المدمرة في كل أنحاء العالم توحي بالتفكك والتحلل والتمزق والضياع. ولقد صدق جاك بيرك حين قال أن الوجودية ظاهرة زمنية عابرة لن يلبث الإنسان أن يتخطاها، وهي ليست روحاً "وأنا لا أستنتج منها نتيجة متشائمة بل واقعاً يجب أن يعترف به" وهي في تقديرنا علامة على دخول أزمة الإنسان المعاصر في مرحلة الانحدار، ودخول أوروبا والغرب والفكر الغربي كله مرحلة التمزق الذي فرضته عليه الفسلفة المادية التي قادها فلاسفة اليهود التلموديين، وإن كانت لا تخلو من تمثل أخطر ما أطلقته التعبيرات المسيحية حول نظرية "الخطيئة الأصلية" ذلك السوط الذي ما زال يلهب ظهور الفريقين ويسوقهم إلى الدمار النفسي.
ولا ريب أن فلسفة سارتر الوجودية الملحدة هي بديل "الإيمان" الذي عجز الغرب عن الحصول عليه عجزاً مطلقاً، ولا ريب أن البشرية حين انطلقت لترسم لنفسها طريقاً بعيداً عن طريق الله فإنها ستظل تائهة في مضارب الصحراء، وما دام الإنسان قد شرع لنفسه ورفض الأسس التي قدرها الحق تبارك وتعالى لينظم المجتمع البشري فإنه ليس هناك قواعد ما يمكن أن تفرق بين الحق والباطل ذلك تداخلت أهواؤه  ومطامعه وشهواته، وأصبحت الأمور كلها نسبية وليس لها ضوابط أو حدود أو قيم ثابتة راسخة تحاكم إليها، أو ليس هناك من نقطة بداية ونقطة نهاية وإنما يصبح الكون دائراً في دوامة لا نهاية لها ولا غاية منها وقد جهل الإنسان سر وجوده وهدفه في الحياة ورسالته في الأرض ومسئوليته وجزاءه وحسابه وتلك هي الحيرة التي تذوب فيها البشرية نفسها اليوم بعد أن خالفت عن منهج الله. ومن ثم تصبح حياة الإنسا نليس بها طعم، حياة القلق والتمزق والألم والإحساس بالغثيان والضياع، ذلك أنها فقدت المعنى الذي وضعه الحق تبارك وتعالى لها، والذي هو سر الحياة نفسها، الأمل والإيمان والهدف والمسئولية والرسالة التي وجد الإنسان من أجلها في الحياة.
إن الوجودية تثور على مفاهيم سحق الإنسان التي تقدمها الماركسية ولكنها مع الأسف تسحق قلب الإنسان ولا تراه إلا من وجهة النظر المادية الصرفة: وهم حين ينكرون أن يصبح الإنسان ترساً في آلة، يحيلونه إلى شعور بالضياع والفراغ، ويفرغونه من معناه الاجتماعي ويجعلونه أنانياً لا هم له إلا مطامعه التي تقوده إليها غرائزه كالحيوان في الغابة.
ولا تزال الوجودية تدفع أهلها من قيد إلى قيد ومن تمزق إلى مزيد من التمزق نراه الآن في الهيبية والخنافس.
وحين يقولون أن الوجودية تحرر الإنسان نجد كتابات أهلها لا تحمل إلا اليأس القائم: فهم يقولون عن أنفسهم أنهم جيل بلا أمل، بلا عمق، بلا مستقبل وأن عمقهم هو الهاوية، وحبهم هو الوحشية، وحياتهم علب من الورق فراغة وقابلة للتمزق، وليست الوجودية إلا تعبيراً عن هذا الهوان أين هذا من الإسلام الذي يقدم للبشرية الأمل وللنفس الإنسانية السكينة والإيمان، حيث يرفض اليأس والقلق والشك والحقد، وهو لا يترك الناس صرعى في أوهامهم، ولكنه يقدم لهم الترياق، يقدم لهم العون، يطلب لهم المبررات، ويفتح لهم الآفاق التي تخفف الشهوات، ويحررهم من قيود الحيوان، ويراوح بينهم دين السماء والروح والمعنويات، هو لا يحرمهم رغائبهم الجسدية ولكنه يبني فيهم الروح والعقل.
إن أخطر ما تقدمه الوجودية التشاؤم وهو طابع عام لكل معطيات الفكر الغربي البشري، الضال عن الإيمان بالله والروح والمعنويات. إن مصدر التشاؤم في الفكر الغربي هو عدم الاقتناع العقلي لوراثة البشر جميعاً لما يطلق عليه الخطيئة الأصلية" هذه التي ينكرها الإسلام إنكاراً كاملاً ولا يرى أن إنساناً مسئولاً عن خطأ الآخر، (ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى).
ومن خلال أيديولوجية الخطيئة الأصلية السوداوية المتشائمة تنشر على أوسع نطاق في الفكر الغربي نظرة "لا معقولية الحياة" وعبث الوجود، ثم جاءت الوجودية لتكون أعلى مراتب التشاؤم.
وهذه كلها أفكار غريبة عنا كل الغرابة، مختلفة عن طوابع الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي، ولا تتصل بسبب إلى ثقافتنا أو قيمنا أو عقائدنا وهي توحي بأن الفكر الغربي والمجتمع الغربي يمر بمرحلة انهيار كامل يتمثل في الأسرة والفكر والمجتمع، وأن طوابع المادية الخالصة قد صرعته تماماً، وأن إنكاره للروح والدين والخلق والإيمان بالله قد دمره تماماً.
ولذلك فهي تبدو غريبة عنا دخيلة علينا متناقضة مع جوهر الإنسان، ومع فطرته وأغرب ما فيها أنها حين تعتز بحق الفرد في الوجود – وهو مفهوم إسلامي، فإنها تغطي عن أعظم معطيات الإنسان والركن الركين في وجوده على الأرض ولبس المسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي الذي يحاسب على أساسه ويقرر جزاؤه. ولا ريب أن إفسادها يتمثل في أنها ترى أن الإنسان يكون نفسه مستقلاً عن الدين والتقاليد والمجتمع، وأن الزواج نظام عتيق، وأن الطلاق لا يبقي بإرادة الزوج فضلاً عن إنكارها "قوامة الرجل" ودعوتها إلى حرية الصداقة، وإسقاط الدين كله من حساب الحياة. وهي لأنها تعارض الفطرة الإنسانية لم تجد قدرة على البقاء وتساقطت جوانبها، إلا من تلك النزوات التي يقوم بها المنحرفون ولا ريب أن المفاهيم الوجودية كلها إنما هي تعبير فكري ونفسي وأخلاقي عن الفراغ الروحي المخيف.
ذلك أن رفض فكرة الالتزام، وفكرة الرقيب النفسي "الضمير" وفكرة الفضيلة وفكرة الخير، وفكرة الإيثار وفكرة العدل وفكرة المسئولية إنما تجرد الإنسان من كل قدراته ومعطياته التي تجعله قادراً على أداء دوره الحق في الحياة وأن أخطر ما تدعو إليه الوجودبية هو "أنانية" الفرد في مواجهة المجتمع بإنكاؤ دوؤه في العطاء والبذل والإنفاق والعطاء للآخرين، ومن فسادها قولها أن الإيثار يعني أن يصبح الإنسان مجرد أدارة للآخرين، بينما يدعو الإسلام إلى أن الإيمان هو انتقال الإنسان من الأنانية إلى الغيرية.
ولا ريب أن موقف سارتر من الألوهية موقف أشد عنفاً وخطراً مما يقول به الملحدون أو المشركون، فهو يضع الذات الإلهية في مقام التزاحم مع الإنسان وأن وجود أحدهما يلغي وجود الآخر، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، والإنسان ليس في الحقيقة إلا خلق الله وعبده وفضل من فيض فضله وعطائه.
وإذا قيل أن الوجودية تحمل مفهوم الحرية، فإنما هي الحرية بمفهوم تحرير الإنسان من مسئوليته وإطلاق أهوائه إلى أبعد مدى وكيف تستقيم أمر نظرية تدعي أنها علمية حين تنكر وجود الحق تبارك وتعالى وكيف يمكن أن تعلل وجود العالم، وكيف يمكن القول مع الوجودية بأن العالم وجد بلا داع ويمضي لغير غاية ونحن نقرأ قول الله تبارك وتعالى (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون).
ولا ريب أن الفرد هو موضوع هام شغل الفلاسفة وأصحاب الأيديولوجيات ولكن أهم ما هنالك: هو مسئوليته وموقفه من الجماعة، وتلك هي القضايا التي تتلاعب بها أهواء الفكر البشري، وحين تراه سيداً مؤلها، وحين تراه حيواناً وحين تراع ترساً في آلة، وقد برأ الإسلام من ذلك كله ووضعه في موضعه الحق، واعترف برغائبه المادية وأشواقه الروحية جميعاً، فليس الفرد مؤلهاً ولا معبوداً ولا حيواناً ولكنه من أعظم ما خلق الله لو استقام على الطريقة واهتدى إلى الحق، وقد حدد الإسلام موقفه من ربه ومن الكون ومن المجتمع وحدد مسئوليته ورسالته وجزاءه، وعلاقته بالدنيا وبالآخرة وبالوجود كله، على نحو تعجز كل الفلسفات والمذاهب عن الوصول إليه. أما الغرب فإنه حين أنكر الألوهية والدين والوحي فإنه ذهب وراء الأهواء كل مذهب في سبيل مفهوم للحياة وللإنسان.
ولكن الإسلام وهو وحي الله ورسالة السماء كان أصدق من كل هذه المذاهب والأيديولوجيات وأقربها إلى الفطرة وأبعدها عن الغلو والاضطراب، ومن ثم فهو أصلح المناهج للبشرية على مدى العصور وعلى اختلاف البيئات لأنه قدم الشريعة المحكمة الخالدة القائمة على إطار ثابت مع القدرة على التغير والحركة والتطور، رابطاً بين العقل والقلب، والروح والمادة، والدين والعلم، والدنيا والآخرة.
ولقد سقطت الوجودية وتجاوزها الزمن لأنها خالفت الفطرة، ولم تستطع أن ترضي العقل، ولم تعترف بالروح، فهي تجعل الإنسان في عزلة عن الجماعة أنانياً غاية الأنانية أولاً وتجعله يستطيب أبرز القبيح من جوانب الطبيعة الإنسانية؛ ثانياً، وتجعله يفصل نفسه عن ربه وعن السماء وعن الدين ويتنكر لكل القيم الخالدة؛ ثالثاً ولأنه يؤوس قنوط قلق ممزق لا يجد قرارة ولا راحة ولا طمأنينة ولا أمنه النفسي، بينما الإسلام هو ما عكس هذا كله، نوراً وهدى.
ثالثاً: دوركايم:
منذ سنوات ومن خلال الضباب المخيم على آفاق الفكر الإسلامي ارتفعت صيحة صاعقة ثم سرعان ما انطفأت وساد الصمت بعدها. كان صاحب هذه الصيحة هو أستاذ العلوم الاجتماعية في إحدى الجامعات العربية، قال الدكتور عاطف غيث: إن علم الاجتماع الذي يدرس بجامعاتنا بصورته ومادته الحالية أداة انهزامية في مجتمعنا العربي. إن مدعم علم الاجتماع الذي نعتمد على نظرياته في جامعاتنا هو العالم اليهودي الفرنسي إميل دوركايم الذي حاول مع من ردد آراءه أمثال "ماكس فيبر" الألماني "وظفر" الإيطالي، أن يطمسوا فعالية الإنسان ويجعلوه عبداً لمصير مجهول، وحاولوا كذلك أن يميعوا حركة التاريخ ويبعدوا الأحداث التاريخية عن مضمون الواقع المعاصر حتى لا يتعرف الباحث على حقيقة مسيرة التاريخ نحو هدفه الذي لابد منه وهو ضرورة تحرير المجتمع الإنساني من القيود التي كبلته قروناً عديدة.
ودوركايم هو صاحب الأفكار التي تعوق النزعات الحرة كلها ويقف حائلاً أمام تخطيط الإنسان لمستقبله.
إن خطر علم الاجتماع يتضح عندما تعلم أن موضوعه الرئيسي هو دراسة بناء المجتمع وعوامل تغييره وهو ما نعتبره أساس معركة النضال للخلاص من الثغرات التي خلفها الاستغلال والاستعمار في المجتمع العربي.
ولاشك أن علم الاجتماع الذي يدرس الآن في جامعاتنا بوضعه الحالي عاجز تماماً عن متابعة التغيرات فهماً أو تقويماً ولذلك فإن بناء قيم جديدة وصناعة جيل جديد، لا يمكن أن يحظى من علم الاجتماع بوضعه الحالي بأدنى اهتمام وهو بوضعه الحالي أداة لتحويل الأنظار عن أوجه النضال الاجتماعي والاقتصادي. ولذلك فإننا نعتبر نقله دون تغيير إلى بلادنا يعتبر أداة إنهزامية يجب القصاء عليها.
هذه هي الصيحة التي استعلنت منذ عشر سنوات ثم سرعان ما انطوت: صيحة لا تقف عند علم الاجتماع وحده ولكنها ستصل بعدد من العلوم التي ندرسها في جامعاتنا وهي في ذاتها علوم وافدة ونظريات أجنبية صممت على مقاييس مجتمعات أخرى في الشرق أو في الغرب وسيطر عليها فلاسفة لهم اتجاهات واضحة وأهداف صريحة ويجرون في موكب "الصهيونية وأهداف بروتوكولات صهيون التي يقودها دوركايم وليفي بريل وغيره من اليهود ولكن الأمر يتصل بعلوم الأخلاق والنفس والتربية والعلوم السياسية والتاريخ والفن... ففي كل مجالات هذه العلوم تجد نظريات وافدة تقتضي الأمانة بعلمائنا أن يعرضوها على أنها ليست العلم العالمي كما يدعون ويقولون أو أنها نتائج أعلى العقول البشرية فليس الأمر كذلك في الحقيقة، ولكنها نظريات وفروض وضعها مجموعة من الباحثين والفلاسفة في ضوء عاملين خطيرين:
العامل الأول: عامل البيئة الغربية التي صنعتها عوامل ثقافية ودينية واجتماعية معينة.
والعامل الثاني: عامل العصر المعين الذي يقع في منتصف القرن العشرين الميلادي.
وفيما قبل ذلك بعقد أو عقدين من الزمان كانت هناك مواهب أخرى وحلقات متصلة بذلك الزمن، كما كانت هناك مذاهب فلسفية مختلفة ولا تزال في ألمانيا لها طابعها الوجودي وفي فرنسا لها طابعها الماركسي وفي أمريكا لها طابعها البرجماتي وهكذا.
فكيف يصح في الأذهان أن تنقل هذه المذاهب إلى مجتمع كالمجتمع العربي الإسلامي الذي يعيش عقيدته وآدابه وأخلاقه ومفاهيمه وطباعاته الخاصة التي ما زالت تستمد جذورها من القرآن والتوحيد والشريعة الإسلامية، بالرغم من مرحلة الاضطراب التي فرضتها ظروف الاستعمار والغزو الثقافي، كيف يمكن أن ننقل هذه المناهج فتدرس في الجامعات على أنها علوم مقررة وأن فروضها ونظرياتها تعلم على أنها حقائق نهائية.
وكيف يمكن لمجتمع ناهض مختلف عن المجتمعات الغربية التي استكملت وجودها، وتعيش الآن مرحلة الرفاهية والاستهلاك وقد وضعت نظرياتها في ظل هذه الأوضاع كيف يمكن أن تطابق هذه النظريات مجتمعنا وكيف تستطيع أن تعطيه، وهذه العقلية العربية الإسلامية التي تقوم على مفهوم الإيمان بالله وإرادة الفرد والالتزام الأخلاقي والمسئولية والجزاء كيف يستطيع أن يتعامل مع نظريات تقوم على الجبرية وتحاول أن تصور المجتمع بصورة الصراع وأن تقيم التناقضات أساساً بينما تقوم المجتمعات العربية الإسلامية على التقاء العناصر والأجزاء في كل متكامل، دون صراع بينها أو جبرية.
ذلك هو الخطر الذي يصل إلينا، لا عن طريق الفكر المفتوح حتى نناقشه ونكشف عن زيفه، ولكن عن طريق الجامعة فإذا هو من المسلمات في عقول أبنائنا بينما هو في الحقيقة ليس كذلك في نظر أصحابه الذين طالما غيروا لأن الزمن لا يدعهم في راحة، إن ما ذهب إليه – دوركايم – في مذهبه الاجتماعي الذي يضمه كتابه "قواعد المنهج في علم الاجتماع" ليس إلا نظرية وفرضية بناها عقله في ضوء تحديات كثيرة منها التحديات العامة ومنها التحديات الخاصة ولكل فيلسوف من ظروفه الخاصة ظل وأثر على آرائه لا ريب في ذلك. أما التحديات العامة فذلك أن دوركايم هو ربيب الثقافة الماركسية أو المذهب الماركسي والنظرية المادية أصلاً، ومفهومه معارض تماماً لكل القيم الأساسية التي جاءت بها الفطرة، أو صاغتها الأديان في منهجها الرباني القائم على الفطرة، وهو في كل دعاواه يأخذ الطرف الثاني المعارض فإذا أعانت الأديان أن الدين فطرة وأن الأسرة فطرة أعلن هو عكس ذلك تماماً فقال أن الجريمة هي الفطرة، ولكن الدين والأسرة ليسا من الفطرة في شيء.
وهو في كل ما يدعو إليه تابع للمدرسة التي بدأها سنبسر وكانت وهو تابع في نفس للوقت للمدرسة التي بدأها ماركس في التفسير المادي للتاريخ، فهو واحد من كبار الدعاة إلى إنكار الفرد ومسئوليته ودوره وإلغاء شأن الظاهرة الاجتماعية وتحميلها كل النتائج على النحو الذي يؤدي إلى أخطر الآثار التي يترتب عليها إنكار مسئولية الفرد والتزامه الأخلاقي وجزاؤه.
ومن شأن هذا أن يبرر للأفراد تصرفاتهم ويحررهم من التبعية ويلقيها كلها على المجتمع ولا ريب أن هذا الاتجاه معارض معارضة جوهرية لمفهوم الدين الحق ولقاعدة أساسية من قواعد الإيمان بالله التي يقوم عليها المجتمع العربي الإسلامي.
يقول دوركايم: إن الفرد لا قيمة له ولا معنى للتشبث بالحرية الفردية، وإنما القيم كلها للمجتمع الذي يخلق الأديان والعقائد والقيم الروحية وكلها عبث لا قيمة لها.
وهو في هذا يحاول إرساء قاعدة فاسدة تتعارض مع الفطرة البشرية ترمي إلى القول بأن التحلل والانحلال أمر حتمي.
وأهم ما يريد دوركايم أن يصل إليه هو:
أولاً: إقامة فكرة التطور التي تلغي مفهوم الإسلام القائم على إطار من الثوابت في داخله حركة وتغيير.
ثانياً: الدعوة إلى فكرة القهر الخارجي الذي يقهر الفرد على غير رغبة منه وذلك ليلغي مفهوم الإسلام القائم على الإرادة الفردية والمسئولية الفردية والجزاء الفردي.
ثالثاً: تفسير الإنسان وفق مذاهب المادة وعالم الحيوان وذلك في مواجهة مفهوم الإسلام الذي يكرم الإنسان ويجعل له منهجاً خاصاً لفهمه يختلف عن المادة وعن الحيوان.
رابعاً: إنكاره القواعد الخلقية وثبات القيم الأخلاقية وهو ما يقرره الإسلام.
خامساً: إنكار فطرة الدين والأسرة والزواج وفي ذلك معارضة لأصول أصيلة من النظام الإنساني.
سادساً: لا يعترف دوركايم بأن الحياة البشرية يمكن أن تفسر عن طريق نفسية الفرد وطبيعته وكيانه الفردي وإنما يفسرها العقل الجمعي وهذا الرأي معارض مع مفهوم الإسلام الذي يقرر أن كل إنسان مسئول عن نفسه مسئولية خاصة. وأن تعلله بفساد المجتمع أو اضطرابه لا ينجيه من الجزاء.
سابعاً: نحي القداسة عن الدين والأخلاق والأسرة والتشكيك في قيمها وهو يدعو إلى تحطيم الدين لأنه قد يعوق التطور، وليس فطرة إنسانية وتحطيم قيود الأخلاق لأنها لا وجود لها في ذاتها.
هذه هي النظرة المادية الخالصة التي تقوم عليها مفاهيم علم الاجتماع كما دعا دوركايم وكما يدرس الآن في الجامعات العربية حيث ينشئ أجيالاً تقوم عقليتها على أساس النظرة المادية الخالصة إلى الإنسان، وحيث ننظر بسخرية إلى الأخلاق والدين والأسرة، وترى أن هذا الذي تدرسه هو الحقائق العلمية والمسلمات التي لا مرد لها، بينما هي لا تعرف وجه الحقيقة بالنسبة لمفهوم الإسلام الحق الذي هو فطرة الله التي فطر الإنسان عليها، والمفهوم الأصيل الذي يقرر أن الإنسان روح وجسد وعقل وقلب وأنه لا يمكن تفسيره عن طريق المذاهب المادية التي تعامله كالحيوان أو التجريبية التي تعامله كالمادة الصماء.
ولا ريب أن نظرية دوركايم في علم الاجتماع حين تلتقي بنظرية فرويد في علم النفس ونظرية ماركس في الاقتصاد من شأنها أن تشكل إنساناً مضطرباً مزعزع الوجدان، واليهود الثلاثة هم القادة المسيطرون على هذا الفكر العربي الذي يفرض الآن على أنه هو الفكر العالمي. بينما تختفي مفاهيم الإسلام في النفس والأخلاق والاجتماع وتتضاءل ولا تعرض حتى على أنها وجهة نظر أخرى. بل لعل شبابنا في الجامعات يرى أنه ليس هناك مفهوم إسلامي هو أعمق وأصدق وأكثر أصالة من هذا المفهوم الذي يقوم عليه مجتمعات الغرب والذي به وصلت إلى الأزمة الطاحنة المستحكمة التي يعانيها الآن من تخلخل المجتمع إلى اضطراب الأسرة التي تمزق النفس البشرية.
وبينما يجد المسلمون عندهم منهجاً صادقاً متكاملاً تترقبه البشرية كلها وتتطلع إليه، ويجد كل مطلع شمس من يؤمن به من أهل الغرب، فإن العرب والمسلمين محجوبون تماماً عن منهجهم هذا في مدارسهم وجامعاتهم، ولقد كان من الضروري أن يكون للعرب والمسلمين منهجهم الاجتماعي الأصيل المستمر من فكرهم وعقائدهم وبيئتهم، ومنهم خرج مؤسس علم الاجتماع الذي يعترف الغربيون بريادته وأثره وهذا ما قاله الدكتور غيث ما هي الحقيقة التي تختفي وراء ترك علمائنا لواجب البحث والتألف في علم كعلم الاجتماع الذي نشأ عندنا وترديد النظريات الأجنبية بكل علاتها. لقد كان من الضروري أن يقوم علم اجتماع عربي إسلامي في بلادنا على أساس يختلف عما علمه الغرب لأبنائنا. وهناك فارق بين منطق العلم وحقائق العلم "إن منطق العلم ومنهجه لا يختلف عليه اثنان مهما كان لونهما وأيديولوجيتهما ولكن تفسير الحقائق وإبراز بعضها وإغفال بعضها الآخر، واستخراج نتائج متميزة هو الذي يجب "أن نتنبه إليه تماماً".
إن أخطر ما يفرضه منهج دوركايم في علم الاجتماع هو "إن إرادة الإنسان ليست بالانطلاق الذي يمكنه من تغيير المجتمع وأن الأفراد وهم ورثة النظام الاجتماعي ليسوا إلا صوراً متشابهة متكررة كما أن إطار الدراسة فيه يدور حول مجموعة من المسلمات" هذه المسلمات الباطلة الزائفة التي لا يقرها الفكر الإسلامي.
ويقول الدكتور غيث: إن الرد على دوركايم ومن قبله أوجست كونت يقوم على أساس أنهما في تفسيرهما للعوامل الموجهة لحركة التاريخ والمجتمع الإنساني يغفلان عمداً الصراع الذي خاضه الإنسان المغلوب على أمره ضد طغيان العبودية.
لا ريب أن دوركايم ومعه زملاؤه اليهود، قد صدروا في مذهبهم عن هدف واضح وجرياً في نطاق واضح بدأه ماركس، وأكمل شطره فرويد، وجاء دوركايم ليحكم الحلقة. ولا ننسى في هذا ما كتبه الأستاذ محمد قطب في كتابه "التطور والثبات في حياة البشرية" فإنه بلا ريب قد كشف وجوهاً كثيرة وخلفات خافية مما يريده مفسرو البروتوكولات من أهداف وغايات بالبشرية. وليس هناك انتصار أكبر من أن نظرياتهم وفروضهم تدرس الآن على أنها (حقائق العلم) والجديد في هذا الأمر أن الجزائر قد حاولت في مؤتمر علم الاجتماع الذي عقد بها عام 1974 م أن تدعو إلى إنشاء علم اجتماع عربي والتحرر من منهج علم الاجتماع الوافد الاستعماري الطابع وقد دعا عدد من علماء الجزائر إلى:
"الرجوع إلى الأصالة" باعتباره أحد الحلول المطروحة الآن... غير أن الأمر ما زال في حاجة إلى نظرة إسلامية تكشف عن جوهر مفهوم علم الاجتماع الإسلامي ولذلك فإني أتوجه إلى الدكتور علي عبد الواحد وافي راجياً أن يدلي بدلوه في هذه القضية التي تعد إحدى معضلات الفكر الإسلامي المعاصر وبوصفه من رجال الفكر الإسلامي وممن درسوا علم الاجتماع الفرنسي.


إن التحديات التي تواجه المسلمين اليوم عن طريق العلوم الاجتماعية والنفسية والأخلاقية هي من أخطر التحديات لأنها تمثل في الحقيقة يد الصهيونية التلمودية الطائلة في داخل عقولنا وفكرنا ومجتمعنا في حاجة إلى أن نتحرر عقلياً من هذه المدرسة التي صاغتها بروتوكولات صهيون وغزت بها الفكر العربي المعاصر الذي ما زال يقاوم، ونحن أولى بأن نكسر هذه القيود ونحرر فكرنا ومجتمعنا من مذاهب هدامة أثبتت فشلها وزيفها في بيئاتها وما أحق أن نكشف عن مفاهيمنا الأصلية وأن ندعو الإنسانية إليها فإنها ستتطلع الآن إلى ضوء كاشف لن يأتيها إلا من عالم الإسلام.

الأربعاء، 30 يوليو 2014

تحديات في وجه المجتمع الإسلامي

الأستاذ أنور الجندي - رحمه الله

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد؛ فمنذ كانت البشرية والفكر الرباني في صراع مع الفكر البشري وعلى مدى التاريخ ولما جاء القرآن نسف هذا الفكر كله وصيره ركاماً وكشف زيفه وضلاله وفساده ودعا البشرية من جديد إلى التوحيد بوصفه المنطلق الوحيد إلى إقامة المجتمع الرباني الأمثل. فهزم الإسلام العبودية البشرية في حضارات اليونان والفرس والهند والفراعنة وأقام حرية الإنسان متطلعاً إلى الإخاء البشري وجعل عبوديته لربه وحده دون الخلق جميعاً .. ثم هزم العبودية الوثنية لغير الله وحرر العقل البشري وأطلقه ليجد طريقه إلى معرفة سنن الله في الكون، ومن هذه النقطة أنشأ المسلمون المنهج التجريبي الذي هو قاعدة الحضارة المعاصرة.

غير أن محاولات الهدم لم تتوقف وتجددت مرة أخرى وأخذت تصوغ من ذلك الركام القديم مذاهب جديدة عرفت في العصور السابقة بأسماء كثيرة منها الغنوصية والتناسخ والدهرية وإخوان الصفا والسبئية والحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وظهرت فرق متعددة تحمل لواء هذه الدعوات.

ولقد واجه علماء المسلمين الأبرار هذه المذاهب الهدامة بقوة وحطمت أعمال الشافعي وابن حنبل والأشعري والغزالي ثم ابن تيمية وابن القيم هذه الأعمال الزائفة التي كان لهما زخرف ولمعان يخطف الأبصار الساذجة.

حتى جاء عصرنا فتجددت هذه الدعوات مرة أخرى عن طريق القوى الثلاث التي تواجه عالم الإسلام اليوم: الاستعمار والصهيونية والماركسية والتي تحمل لواءها دعوات: التبشير والاستشراق والتغريب والغزو الثقافي. ومنذ جاء الاستعمار وهو يعمل على هدم ثلاث قيم أساسية:

التعليم الشريعة اللغة.

وهي التحديات الحقيقية التي تواجه مجتمعنا اليوم وما زالت قائمة بالرغم من التحرر السياسي والعسكري الذي قضى على النفوذ الاستعماري. ذلك أن الاستعمار كان يعد قبل خروجه محاولة لبقائه واستمراره تمثل في هذا السلطان الفكري والاجتماعي الذي مازال يحول بيننا وبين امتلاك إرادتنا الحقة. ومن هنا فإننا مطالبون أن نواجه هذا المخطط بقوة ليس على مستوى المفكرين المسلمين فحسب؛ بل على مستوى كافة المسلمين.

ومنطلق هذه المواجهة هي أن نعرف خلفيات ما يُعرض لنا مما هو مكتوب ومذاع ومنشور. سواء أكان صحيفة أو كتاباً، أو مسرحية أو فلماً سينمائياً. ذلك هو العمل الحقيقي الذي يمكننا من معرفة الأصالة من الزيف، والحق من الباطل، والخير من الشر.

ولذلك فقد أردت أن أطلق اسم "قبل أن تقرأ" عليك أن تكون واعياً لمِا تقرأ: مَن الذي يقدمه لك، ما مدى سلامته، ما مدى صلته بأمتنا وديننا وعقيدتنا، إننا يجب ألا نضع ثقتنا إلا في الفكر الأصيل. إن هناك اليوم قوى كثيرة تطرح فكرها وتنفث سمومها، وشبابنا في حاجة إلى ضوء كاشف يهديه، إنه ينظر فيرى هذه الكتب مكدسة في كل مكان، مترجمة أو مؤلفة، كُتابها مسلمون أو عرب أو أجانب فيقرؤها دون أن يلتفت إلى الغاية أو الخلفية ويظن أن كل ما يقرأ صحيح أو حق، فيأخذ به، وهذا هو مصدر الخطر.

لذلك أردت أن ألقي بعض الأضواء الكاشفة حتى لا تنخدع بالأسماء اللامعة أو الكتب الأنيقة أو العبارات الخلابة، لقد دخل إلى فكرنا زيف كثير، وفُرضت مسلمات كثيرة، في حاجة إلى أن نعيد النظر فيها.

نحن نعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال، وهذا الحكم قانون يضئ لنا الطريق.

إن علينا أن نعرف أن أمتنا تقع في مكان الصدارة من العالم كله، ولذلك فهي مطمع الغزاة من قديم، ونحن نعيش الآن الغزوة الصهيونية بعد غزوة الاستعمار الفرنسي الإنجليزي الإيطالي الهولندي.

ومن قبل جاءت موجة الحروب الصليبية وحروب الفرنجة.

كل هذا يقنعنا بصدق الوصية التي دعانا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "ستفتح عليكم بعدي مصر فاتخذوا منها جنداً كثيفاً؛ فإنهم خير أجناد الأرض، وهم في رباط إلى يوم القيامة".

وهكذا نرى من عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة" وأن المواجهة لن تتوقف بين أهل الإسلام وبين خصومه أبداً، وان علينا أن نكون مرابطين إلى يوم القيامة ندافع عن أرضنا وقيمنا وعقيدتنا.

ولقد خدعنا الاستعمار حين دعانا إلى مناهجه وهجر مناهجنا حين حجب الشريعة الإسلامية والتربية الإسلامية واللغة العربية، ودعانا إلى مفاهيمه وخدعنا رجاله ورجال مِنا أمثال طه حسين وغيره، حين قالوا لنا أن أسلوب الغرب هو الأسلوب القادر على إعطاء صفة التقدم.

وكذبوا؛ فإن الغرب لم يكن ليسيطر على بلادنا ويدعو إلى تغريب فكرنا ثم يسمح لنا بأن نصل إلى وسائل التقدم وامتلاك الإرادة.

لقد خدعنا بأسلوب الغرب في الحكم والتربية والاجتماع وجرينا وراء التجربة الغربية حتى نهايتها التي كانت سقوط فلسطين في يد الصهيونية، ثم جرينا وراء التجربة الماركسية حتى كانت نهايتها سقوط القدس في يد الصهيونية وتعرية المجتمع العربي تعرية كاملة، حتى تعرف أن الهزيمة والنكبة والنكسة التي توالت منذ 1948 حتى 1967 إنما كان مصدرها التماس أسلوب الغرب وحجب أسلوب الإسلام.

وعندما حطمنا هذا القيد والتمسنا أسلوب الإسلام لمن تمضِ إلا سنوات قليلة حتى كان نصر رمضان المؤزر الباذخ الذي هو علامة على الطريق الجديد الذي يجب أن يسلكه المسلمون والعرب: طريق الأصالة، طريق الجهاد والقوة، طريقة الشريعة الإسلامية والتربية الإسلامية، طريق (الله أكبر)، ذلك السلام الكوني الذي تدرسه الآن الأكاديميات العسكرية؛ لترى أنه كان أشد خطراً من القنبلة الذرية والهيدروجينية معاً.

لقد اعتدل الطريق بنا وكان حقاً علينا أن نحطم قيود التغريب والغزو الثقافي التي تتكاتف الآن؛ محاولة أن تردنا مرة أخرى إلى الاحتواء والسيطرة.

يجب أن نقف موقف الحذر من كل ما تقليه إلينا هذه المصادر الغربية الوافدة، ولقد واجه المسلمون مثل هذه التجربة وانتصروا فيها وعلينا نحن أيضاً أن ننتصر. نحن المسلمين، لا يمكن أن تؤكل ولا أن تحتوينا المذاهب، إن مذهبنا هو مذهب القرآن الجامع الذي لا يحرف، ليس هو مذهب الفلسفة ولا العقلانية الخالصة، ولا الجبرية الصوفية ولا الحدس الوجداني، كل ذلك ركام باطل جددته الباطنية والمجوسية والشعوبية، وأعادت صياغته من جديد لتضرب به مفهوم التوحيد الخالص.

إن أخطر ما يتحدى المثقف المسلم هو النظرة الجزئية، أو الرؤية المحدودة، التي تقف عند حادث من الأحداث، أو خبر من الأخبار، أو موقف من المواقف، فتنظر إليه وتحاول أن تحلله أو تحكم عليه دون أن تبحث عن خلفياته أو أبعاده أو أرضيته، ومن هنا تكون تلك النظرة ناقصة، أو جزئية أو غائمة، وليس كذلك يفعل الناصحون الذين رباهم القرآن وعلمهم الإسلام، وإنما تكون النظرة فاحصة ويكون الحكم سليماً إذا ما استوفى شرائط التقدير والبحث عما يتصل بالحدث أو الخبر أو الموقف مِما سبق في الزمن، ومِما جرى وأوشك أن يغيب وراء الأفق؛ ذلك لأن الأمور لا تجري منفصلة عن سوابقها ولواحقها، خاصة فيما يتعلق بتحديات الغزو الفكري والتغريب.


أضواء كاشفة لأبعاد الغزو الفكري ومخططات التغريب

وهذه أضواء كاشفة وخيوط عامة لنا جميعاً، ولكننا ننظر إليها مع الأسف مفرقة وموزعة، ولا نستحضرها عند النظر أو البحث في حادث ما أو خبر ما أو موقف ما، ولذلك يفقد الأمر خطره، ولقد عرف خصومنا فينا هذه النظرة الجزئية فباعدوا بين الأحداث اعتماداً على أننا لن نربطها بعضها ببعض أو ننظر إليها نظرة كلية، هذه الجزئيات المبعثرة للنظر السريع هي في حقيقتها عناصر كاملة لخطة عامة وخطيرة، فلننظر.

 

ثلاث قوى

(أولاً): هناك ثلاث قوى لها أثرها البعيد في أزمة المسلمين:

"التعليم الثقافة الصحافة".

وما تزال مؤسسات التبشير والاستشراق تعمل من خلالها.

وهناك خطة واضحة للغزو الفكري وخطة للتغريب وخطة للشعوبية.

وهناك أساليب متعددة لإثارة الشبهات حول الإسلام: (القرآن الرسول تاريخ الإسلام).

وهناك دعوة إلى إخراج المسلمين من "ذاتيتهم" باسم "المعاصرة". ودعوة إلى إخراج المسلمين من "قيمهم" باسم "التحرر". فيجب ألا تخدعنا الأسماء البراقة فنسلم بكل ما تقول؛ لأن في ما تقوله زيفاً كثيراً وحقاً قليلاً. ويجب ألا نخاف عبارات الرجعية والجمود والتخلف؛ فنها كلمات فقدت معناها وهي تطلق دائماً على أهل الأصالة والحق.

علينا ألا تخدعنا الأسماء البراقة؛ لأنها ليست أصيلة، ولا نصد عن الأسماء الزائفة؛ لأن الدعوى المُدعاة لها ليست صحيحة.

نحن طلاب (أصالة) تكون منا بمثابة (الإطار الثابت) والحجاب الحاجز نتحرك من داخله إلى المعاصرة والتقدم والتحرر.

إن قيمنا القرآنية الإسلامية الربانية هي الأعمدة الثابتة التي يقوم عليها البناء، ثبات في الأسس وحركة من فوقه أو من حوله. ثبات (القطب) وحركة كحركة الأرض حول محورها.

إن كل المؤامرات قد أثبتت حقيقة واحدة: أن الإسلام هو الهدف الذي تعمل القوى الخفية لضربه: (الصهيونية والليبرالية والماركسية).

الهدف: هو أن يظل الإسلام بعيداً عن دائرة العمل والتنفيذ وألا يمتلك المسلمون إرادتهم القادرة على الانتقال من الدائرة الضيقة التي حبسهم فيها الغزو الثقافي والتغريب إلى الدائرة المرنة التي أنشأها لهم الإسلام.

إن هدفنا اليوم هو تحطيم هذه الدائرة الضيقة والتماس دائرتنا ومنهاجنا ومصادرنا ومنابعنا الثرة الخالدة.

والأمل هو أن يعرف المسلمون أنه ليس ثمة طريق آخر.

لقد جربوا: مختلف الأساليب والسبل والمناهج التي راوحت بينهم وبين الفكر الغربي والفكر الماركسي: ودخلوا البوتقة وفشلت التجربة وتأكد لهم بعد سبعين عاماً وهم تائهون بين الشرق والغرب، حائرون بين الأيدلوجيات الوافدة أنه لا سبيل لهم غير منهجهم الأصيل. لقد عجزت هذه المذاهب والمناهج جميعاً أن تعطيهم التقدم أو التحرر أو امتلاك الإرادة وأعطتهم بدلاً من ذلك: الهزيمة والنكسة والنكبة، وعرضتهم للفناء، ومن ثم تبينوا أنه ليس غير الإسلام "سبيل ونصير ونور".


حقائق

(ثانياً) إن بين أيدينا حقائق طازجة يجب أن تكون موضع نظركن وتقديركم وأنتم بسبيل دراساتكم:

أولى هذه الحقائق ما أعلن منذ وقت قصير من "إلغاء" الاستشراق. فقد اجتمع المستشرقون في مؤتمرهم السنوي بعد أكثر من سبعين عاماً ليعلنوا انهم قد ألغوا الاستشراق وإن الاجتماعات القادمة ستكون تحت اسم "مؤتمر العلوم الإنسانية".

ومعنى هذا في نظر أصحاب اليقظة: أن الاستشراق يغير جلده، كما سبق أن غير التبشير جلده، الهدف واحد والأساليب تتغير مع الأزمة والظروف، وإذا كانت سمعة الاستشراق قد ساءت فإن على أهله أن يغيروا أسلوبهم وإن لم يغيروا هدفهم.

ونحن نذكر الآن: كيف يتحرك "الاستشراق اليهودي" بعد أن تقدم للسيطرة خلفاً أو شريكاً للاستشراق الغربي المسيحي، وتعرف المخططات التي يقوم بها في سبيل "احتواء" الفكر الإسلامي والتاريخ الإسلامي.

ومن ذلك ما نجده من بروز أسماء لامعة خطيرة في مجالاته المتعددة:

"جولد زيهر" في الشريعة الإسلامية.

"مرجليوث" في التاريخ الإسلامي.

"برنارد لويس" في مفاهيم الأمم والقوميات؛ مستهدفاً إيجاد صراع بين العروبة والإسلام.

وفي العام الماضي أنعمت (إسرائيل) على "برنار لويس" بلقب الدكتوراه؛ تحية له عن محاولاته لهدم المفاهيم العربية الإسلامية.

وعلينا أن نذكر في هذا المجال أن معظم كراسي الأدب العربي والدراسات الإسلامية في أغلب جامعا تالغرب يسيطر عليها مستشرقون يهود.

ويتصل بهذا محاولات السيطرة على دوائر المعارف العالمية، وخاصة دائرة المعارف الإسلامية، والسموم التي حملتها مادة "عرب" ومادة "إبراهيم" ومادة "إسماعيل"؛ في محاولة لتزييف الروابط الأساسية بين سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل وبين سيدنا إسحق، وفصل إسماعيل عن ميراث إبراهيم لجعله كله في نسل إسحاق.

وتلك مؤامرة ضخمة في حاجة إلى عناية شديدة.

كذلك فإن الأمر يتصل بمؤامرات تحريف التاريخ الإسلامي، وفي مقدمتها (مؤتمر بلتيمور) الذي عقد عام 1948 والذي حضره لفيف منقادة الصهيونية، وفي مقدمتهم بن جوريون؛ لوضع خطة تستهدف تنظيم ومضاعفة عمليات تزييف تاريخ العرب وإخراج دراسات جديدة تحمل الشبهات التي تتصل بمؤامرة القرامطة والزنج والباطنية، وإعادة طرح أفكارها وتاريخها في أفق الفكر الإسلامي بوصفها حركات تهدف إلى العدالة الاجتماعية. وقد ظهرت مؤلفات كثيرة بعد ذلك المؤتمر تحاول أن تطبق ما استهدفته هذه التوصيات.

ويتصل بهذا مؤتمر البهائيين العالمي الذي عقد في القدس المحتلة عام 1968 وما كشف عنه من صلة جذرية بين تاريخ البهائية وبين الحركة الصهيونية. كل هذا يجب أن نكون على وعي به ونحن نقرأ وندرس ونتابع.


دلالات خطيرة

(ثالثاً) يجب أن يكون أمامنا ونحن نطالع تاريخ المسلمين والإسلام في العصر الحديث عدة حقائق من شأنها أن تشكل قاعدة أساسية للبحث:

هذه الحقائق لا توردها كتب التاريخ التي بين أيدينا إلا لماماً، وربما أوردت ما يخالفها من شبهات ظلت تتردد حتى أصبحت في منزلة المسلمات.

أولى هذه الحقائق ما طرحه (غلادستون) رئيس وزراء بريطانيا على مجلس العموم البريطاني عام 1883 حين حمل المصحف وقال: "مادام هذا الكتاب باقياً في الأرض فلا أمل لنا في إخضاع المسلمين، بل ونحن على خطر في أوطاننا".

وعلينا أن نفهم معنى هذا ومداه.

يُضاف إلى هذا قول اللورد اللنبي حين دخل القدس عام 1917 حين قال:

"اليوم انتهت الحروب الصليبية".

فإذا ذكرنا أن الحروب الصليبية كانت قد انتهت قبل ثمانمائة عام، عرفنا ماذا كان يريد أن يقول اللورد اللنبي متابعة مع خطة لويس التاسع بعد هزيمته في "المنصورة" حين دعا في وثيقة رسمية معروفة إلى بدء حرب الكلمة على المسلمين بعد فشل حرب السلام، وأن ما أشار إليه اللورد اللنبي إنما يعني نجاح هذه الخطة، فهذا قول خطير له أبعاده ومداه ولم يدرس بعد الدراسة الكافية.

فإذا ذكرنا كيف أن وزير خارجية بريطانيا (بترمان) تقدم عام 1907 بوثيقته المعروفة التي كانت خلاصة خبرة المفكرين والسياسيين من أجل دعم وحماية الاستعمار الغربي والتي تقول:

"لكي يظل الاستعمار قادراً في السيطرة على المسلمين والحيلولة دون توحدهم ونهوضهم، لابد من إقامة حاجز بشري معادِ للمسلمين في مكان ما بين أفريقيا وآسيا، على أن يكون هذا الحاجز من جنس غريب عنهم. ومن شأن هذا الحاجز أن يحول دون وحدة المسلمين".

وقد كان الجواب حاضراً؛ فقد تقدم اليهود وقالوا: "نحن الحاجز الغريب".

كل هذه الخطوط مجتمعة ترسم صورة وتخلق تحدياً وتكشف عن خلفيات لا توردها كثيراً كتب التاريخ التي بين أيدنا أو التي تُدرس في مدارسنا، ولكن هذه التحديات ذات دلالات خطيرة، ويجب أن تكون واضحة أمامنا ونحن نقرأ وندرس ونستوعب، وهي تعطينا فكرة واضحة وهي:

أن هناك تعصباً وحقداً وخصومة ورغبة في ألا يستعيد المسلمون حقهم ولا يستكملون إرادتهم.

 

مناهج تخريبية

(رابعاً) يجب أن تكون أمامنا نظرة واضحة لعلاقة الفكر الإسلامي مع الفكر الغربي:

الفكر الغربي يعمل في محاولة دائبة منذ بدأ الاستعمار من أجل "احتواء" الفكر الإسلامي والحيلولة دون سيطرته على المجتمع الإسلامي، ويبدو ذلك في عدة مواقع:

1- التعليم: وهو خاضع للمناهج الغربية وهو الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون.

2- الجهاد: جربت المحاولات لتأويله وإقصائه عن حياة المسلمين.

3- الشريعة الإسلامية: سواء في مجال القانون أو الاقتصاد، وقفت الحوائل دون تحقيقها.

4- اللغة العربية: جرت المحاولات المتصلة للهجوم عليها وانتقاصها؛ محاربةً للقرآن الكريم.

ثم جاءت الموجة التالية وتتمثل في الغزو الثقافي والتغريب:

1- محاولة السيطرة على البلاد الإسلامية بالنظم الديمقراطية والقومية والماركسية.

2- محاولة سيطرة مفاهيم النفس والاجتماع والأخلاق على أسلوب العيش الإسلامي.

وقد جاء هذا مرحلة تالية لسيطرة الصهيونية العالمية على الفكر الغربي سيطرة كاملة. فقد برز زعماء اليهود كمفكرين مسيطرين على جميع مجالات الفكر الغربي؛ حيث حولوا المفاهيم التلمودية اليهودية إلى نظريات حديثة لها طابع علمي زائف ولكنه براق.

وسيطر اليهود الأربعة: هرتزل وماركس وفرويد ودوركايم، وجاء بعدهم سارتر وهو يهودي الأم.

الأهداف:

1- تحويل الفكر البشري ناحية الطعام والمادة.

2- تدمير النفس الإنسانية عن طريق الجنس.

3- إعلاء العنصرية والقوميات والدماء.

4- تأكيد الانشطارية بين الروح والمادة مع إعلاء المادة.

وبرزت الفرويدية والماركسية ومدرسة العلوم الاجتماعية (دور كايم وليفي بريل) ومدارس مقارنات الأديان وعلم اللغة وعلم الأنتثروبولوجيا، وكلها علوم تستهدف إعلاء الفكر التلمودي الوثني المادي الإباحي وبعث تراث التلمود والغنوصية والفكر البابلي القديم.

أما بالنسبة للمسلمين فقد وقعوا تحت تأثير الاحتواء فترة ثم بدأوا يستفيقون، ونحن نرجو أن يكون "عصر التبعية" قد انتهى، وبدأ "عصر الترشيد"، ويمكن القول بأننا الآن في مرحلة الفهم والعلم والوعي بالخطر الذي يراد بنا ويجب علينا الانتقال بقوة وفوراً: إلى مرحلة الإرادة والتغيير.

كذلك يجب أن تكون نظرتنا إلى الغرب واقعية.

العالم الغربي الآن يمر بمرحلة "الأزمة" وبدور "النهاية"؛ فقد عجزت الحضارة عن أن تعطيه سكينة النفس أو طمأنينة القلب بعد أن فصل بين الروح والمادة، ومن ثم كانت أبرز مظاهر حياته الآن:

التمزق والضياع والعبث:

فهل المسلمون في حاجة إلى فتات الموائد وحثالات الأطباق !


البروتوكلات

(خامساً) إن الأخطار التي تواجهنا الآن هي بمثابة مؤسسات ظاهرة ومنظمات خفية، فلا نغفلن أبداً عن ذلك.

أمامنا: الماركسية والاستعمار والصهيونية مؤسسات ظاهرة، ولكن هناك منظمات خفية، هي الماسونية والروتاري والليونز.

وهناك أخطار فكر فرويد وساتر ودور كايم، تبدو واضحة الأثر في نفسيات الشباب وفي مفاهيمهم. وفي مفاهيم المرأة وقضاياها، وكلاهما تتمثل في أخطر قضيتين:

1- إيجاد الصراع بين الآباء والأبناء وتغذية روح الكراهية بينهما.

2- إثارة الشبهات حول قوامة الرجل على المرأة وخلق روح الكراهية بينهما.

وهما قضيتان بالغتا الخطورة، فيجب أن تدرسا بدقة وأن تعرف أبعادهما وخلفيات الخطر القائم وراءهما، وهو يتمثل في (بروتوكلات صهيون) وما كشفت عنه من هدف الاستيلاء على العالم وتدميره أخلاقياً قبل السيطرة عليه.

 

وبعد: فهذه خلفيات وأبعاد أرجو أن تكون في تقدير مثقفينا وهم يناقشون ويدرسون، وهي تحديات حقيقية؛ فإنها إذا ما استحضرت سوف تعطيهم فهماً أعمق وقدرة أوسع على الإحاطة بالأزمة وعلى إيجاد الحلو الناجعة.

لقد تبين تماماً أن التجربة التي قام بها المسلمون والعرب للنظم الغربية، سواء الليبرالية أو الماركسية، قد فشلت تماماً في تحقيق المطمح الأسمى لأمة القرآن، وبذلك أصبح الطريق أمامهم مفتوحاً نحو خط واحد لم يجربوه وهو خطهم الأصيل وهو ملاذهم الوحيد الذي لن يجدوا دونه محيصاً الذي صاحبهم أربعة عشر قرناً وحماهم وأكد وجودهم ودافع عنهم، وسيظل يحميهم من عاديات الزمن وأحداث الأيام ما استمسكوا به.


نقاط هامة

(سادساً) في التاريخ الإسلامي الحديث "نقاط" ما تزال في حاجة إلى توضيح وبيان:

وأبرزها العلاقة بين المسلمين والعرب، وبين الدولة العلمانية والعرب، وبين العروبة والإسلام في مواجهة دعوات القومية والعنصرية والإقليمية وغيرها.

أما السلطان عبد الحميد فقد رد إليه اعتباره الآن بعد أكثر من ستين عاماً كان فيها في نظر المؤرخين مستبداً وسلطاناً أحمر، مع أنه كان من أشرف الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم وملكهم في سبيل دفع جائحة الصهيونية العالمية عن السيطرة على فلسطين. ومذكرات هرتزل تثبت ذلك وتكشف عن مدى الدور الذي ظل خافياً عن العرب والمسلمين سنوات طويلة وإن كانت القضية ما زالت في حاجة إلى نصوص أوفى ووثائق أخرى لتحرير تاريخ السلطان تماماً من كل ما علق به.

أما الخلاف بين العرب والدولة العثمانية: فهو في الحقيقة خلاف مع الاتحاديين الذين حكموا من عام 1909 إلى عام 1918، وورثوا مصطفى كمال نظامهم التلمودي الماسوني الصهيوني، هؤلاء هم رجال "الاتحاد والترقي" الذين تشكلوا في أحضان المحافل الماسونية والذين عملوا لخدمة الصهيونية العالمية، فأسقطوا عبد الحميد ومهدوا لإلغاء الخلافة وسلموا طرابلس الغرب لإيطاليا، وفتحوا الطريق أمام اليهود إلى فلسطين وكانوا حاضرين في ضمير اللورد اللنبي عندما قال بعدد سيطرة الإنجليز على القدس: "الآن انتهت الحروب الصليبية".

ثم جاءت المؤرخة اليهودية فقالت: "إن وصول الإنجليز إلى القدس عام 1917 كان يعني أنها أصبحت في قبضة اليهود، وقد تم ذلك فعلاً عام 1967 ...".

فالخلاف إنما كان مع الاتحاديين وليس مع الدولة العثمانية نفسها.

ومن هنا يجري الحديث عن القوميات وعن تمزق "وحدة العالم الإسلامي" إلى كيانات بادئة بالطورانية في تركيا ومقابلها القومية العربية ..

وما اتصل بعد ذلك بمفاهيم الغرب وبسيطرة النظرية الغربية في القوميات على النحو الذي عرف في كثير من الدراسات، وقد فشلت هذه المفاهيم تماماً في ضوء الوحدة الإسلامية التي تبين أنها الطريق الصحيح والأوحد وذلك بعد التجربة المريرة وبعد هزيمة 1967.

هذه مجموعة من الحقائق لا أعتقد باحثاً أو مثقفاً يستطيع أن يستغني عنها في مواجهة قراءاته ودراساته سواء في تاريخ الإسلام أو التاريخ الحديث. وفي مواجهة الاستعمار والمذاهب السياسية والنظريات العربية بشطريها، ولهذه الأضواء الكاشفة والنقاط السريعة تفصيل واسع وأبعاد هامة يجب أن تتابع، ومن هذه الخيوط المجمعة الآن في كلمة واحدة نستطيع أن نستكشف الآفاق البعيدة ونعرف الخلفيات الظاهرة والخفية ونتابع الأحداث والأخبار في وضوح وفهم.

وهذا ما أعددته وأردت أن أقوله لشبابنا المثقف حين دُعيت لإلقاء كلمة في جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة.