السبت، 13 أغسطس 2016

السبت، 4 يونيو 2016

صدى انتصارات شاميل في القاهرة: شهادة فنلندي

بقلم: كاج أوهرنبرغ (باحث في معهد الدراسات الآسيوية والإفريقية، جامعة هلسنكي، فنلندا)
نقله إلى العربية عبد الرحمن كيلاني
----------------

في حربها مع السويد خلال عامي 1808و 1809 انترعت روسيا فنلندا من السويد. وفي شهر آذار/مارس من عام 1809 أصبحت فنلندا دوكية كبرى ذات حكم ذاتي متحدة مع الإمبراطورية الروسية. هذا بدوره فتح روسيا على الفنلنديين، حيث إن العديد منهم تابعوا الدراسات الاستشراقية في المقاعد الرئيسية في المعاهد الاستشراقية في روسيا: سانت بطرسبرغ، وموسكو، وقازان. إضافة إلى ذلك، فإن كرم الأكاديمية الملكية للعلوم تجاه العلماء من أية قومية مكّن الفنلنديين بالقيام برحلات استكشافية وبالحصول على مهمات علميةذات أهمية في مناطق نائية من الإمبراطورية الروسية.[1]
كان جورج أوغست والين (1811-1852) أحد الفنلنديين الذين استفادوا من مكانة فنلندا الجديدة. ولد والين في جزر آلاند، ودرس اللغات الكلاسيكية والشرقية في جامعة هلسنكي من1829 إلى 1836، ودرس في سانت بطرسبرغ من 1840 إلى 1842. وفي عام  1841حاز على مكافأة للسفر ليوسع معرفته باللهجات العربية وليبحث في اعتقادات الوهابيين.
وقد حدث في أربعينات القرن التاسع عشر (1840ت)، عندما تأثرت الدوائر الأكاديمية الفنلندية بالحركة الرومانسية وروح النهضة القومية، وكانت مهتمة بشكل كبير في سيبيريا— "مستعمرة الدراسات الإنسانية الفنلندية"— أن رحالة منهم سافر إلى الجزيرة العربية على ظهر جمل باحثاً عن "المتوحش النبيل" الرومانطيقي في مخيمات البدو الواحد تلو الآخر.
في شهر تموز/يوليو من عام 1843 أبحر والين من هلسنكي ووصل القاهرة في كانون الثاني/يناير من عام 1844 حيث اتخذها مقراً له، وقام بثلاث رحلات إلى الصحراء ومن ثم أصبح له صيت كلغوي ومستكشف. وخلال أسفاره وإقامته في القاهرة، كان هذا الباحث الشمالي متنكراً بزي المسلمين وباسم عبد الوالي من بخارى في أسيا الوسطى. ومع ذلك، فإن الناس الذين التقوه خلال أسفاره كان لديهم آراءهم الخاصة فيما يتعلق بأصوله. وقد ذكر والين في رسائله ويومياته الشخصيات التالية التي نسبت إليه: ففي دمشق كان بدوياً؛ وفي حيفا كان مسلماً من بخارى يتكلم بلسان الفرس؛ وخلال إقامته المؤقتة في فارس كان طبيباً مصرياً؛ وفي المدينة المنورة كان مغاربياً؛ وإحدى خليلاته في القاهرة كانت تعتقد أنه كان مسلماً من الهند.
وقد يكون من الطرافةأن  أصدقاءه المسلمين في القاهرة كانوا يعتقدون أنه جركسي من القفقاس. وفي الاستعمال المصري المعاصر وكذلك العثماني، فإن "الجركسي" يطلق على أي شخص من القفقاس بشكل عام، وليس بالضرورة أنه من القبائل الأديغية. هذا الارتباك حول مفهوم "الجركسي" وقع فيه المراقبون الأوروبيون المعاصرون. فعلى سبيل المثال، في خمسينات القرن التاسع عشر، كان البريطانيون ينظرون في مساعدتهم "الأمير الجركسي" شاميل (والذي في الحقيقة كان من الآفاريين) في نضاله ضد الروس.[2]
لم تكن هناك وكالات أنباء عالمية تتكلم عن الأحداث في العقد الرابع من القرن التاسع عشر.  إن  وكالة "هواس" الفرنسية التي أنشئت في عام 1835 والتي تعتبر أول وكالة أنباء في العالم، كانت نشاطاتها في الأصل مقتصرة على توزيع الأنباء بين العواصم الأوروبية الرئيسية فقط. أما وكالة الأنباء الثانية في أوروبا، فكانت وكالة "وولف" الألمانية التي بدأت عملياتها فقط في نهاية العقد الرابع عام 1849. وفي باريس أسس جوليوس رويتر وكالته للأنباء في الوقت نفسه الذي تأسست فيه وكالة وولف الألمانية، لكنها اضطرت إلى الانتقال أولاً إلى مدينة آخن ثم إلى لندن حيث بدأت عملياتها فقط في عام 1851.[3]
لكن حتى بدون وجود الوكالات العالمية، كانت الأخبار تنتقل من سانت بطرسبرغ إلى العواصم الأوروبية الأخرى في الوقت التي بدأت تتكشف فيه "اللعبة الكبرى" أو "مسابقات الظلال"، حيث يمكن لأحد ما أن يتأكد من أن تفاصيل التوسع الروسي في منطقة القفقاس كانت معروفة جيداً في أوروبا. أما في العالم الإسلامي فكانت القناة الرئيسية التي يمكن من خلالها وصول أخبار آسيا الوسطى وقفقاسيا إلى الشواطئ الجنوبية والشرقية للبحر المتوسط كانت عن طريق الحجاج المتجهين إلى مكة. إن أشهر الحجاج القفقاسيين في 1840ت ربما كان كونتا حاجي[4] – الذي كان غير معروفاً عندئذ- والذي كان عمره ثمانية عشر عاماً عندما حج للمرة الأولى.
في يوميات والين هناك أربعة تدوينات حول الحرب بين روسيا وأهل الجبال:
(1)
28 أيلول/سبتمبر، 1844: "ذهبتُ إلى برونر[5] [...] وقرأت في الصحيفة أن الروس أصابتهم خسارة عظيمة في قفقاسيا".[6]
(2)
1 تشرين الأول/أكتوبر، 1844: "جلست [مع الشيخ علي وصديقه  شهاب[7]] وسمعت – مستغرباً- شهاباً يقول إن الجراكسة انتصروا على أعدائهم الروس. هذه القصة التي أستطعت أن أتأكد من صحتها، أوصلها صديقاي المسلميْن بصلاة ودعاء من القلب إلى الله بأن يعين إخوانهم في الدين ضد الكفار، وكذلك بتعجب تقي وحمد لعظمة الإسلام."[8]
(3)
24 تشرين الأول/أكتوبر، 1844: " بينما كنا نتناول القهوة، ذكر الشيخ علي كيف انتصر الجراكسة على الروس وفتحوا وأخذوا أراضيَ كثيرة منهم. وذكر أيضاً أن شيخاً معيناً اسمه محمد من مكة كان يقود الجراكسة إلى النصر، بعد أن شجعه النبي خلال زياراته الثلاث لقبره. ويُزعم أن هذا الرجل عنده كرامات عظيمة من بينها أنه كان يجعل جيش العدو يظهر وكأنه محاصر بجدار. وهناك قصة تروى بأن الجراكسة استولوا على مدينة تفليس بعد استخدامهم حيلة حربية حين لف كل أفراد الجيش المسلم أجسادهم بجلود الشياه وزحفوا إلى المدينة على أطرافهم الأربعة يقودهم راع وكأنهم قطيع من الخرفان. هذه القصة أثارت حواراً حيوياً، مع أن الشيخ علي كان على ما يبدو يعتبر قصة تنكر الجنود هذه موضوعة."[9]
(4)
20 كانون الثاني/يناير، 1845: "[التنباكجي من الجميلية] كان يتكلم كثيراً ونحن نسير، وسألني فيما لو كانت الأخبار المتعلقة بالحرب بين الروس والجراكسة صحيحة، وفيما لو كان شيخ قد بعثه النبي ليرفع من معنويات الجراكسة وبكرامات عظيمة أدت بهم إلى الانتصار، إلى أخره. كان من الطبيعي أن أوكد له اعتقاده ، وكان مبتهجاً جداً لأن التأكيد جاء مني، بكوني رجلاً من تلك المناطق، وعلى هذا فأنا أكثر علماً ومعرفة من الآخرين."[10]
من الممكن الإشارة إلى أي نصر لأهل الجبال ضد الروس أثار هذه المشاعر، أم هل أنها كانت مجرد موجة من التفاؤل والأماني الفارغة تردد صداها في قلوب القاهريين؟ وكما لاحظنا سابقاً، فإن والين ذكر في 28  من أيلول 1844 أنه قرأ – من المفترض بالألمانية- صحفاً عندما زار الدكتور برونر. الآن، إن عام 1844 لم يشهد أية انتصارات إسلامية مثيرة في قفقاسيا، لذلك فإن تلك المشاعر – إن كانت مبنية على حوادث حقيقة- فهي تشير إلى أحداث العام الذي سبقه.
وفعلاً، ففي نهاية شهر آب/أغسطس 1843، هجم شاميل بعد فترة عام من الهدوء الكامل، وخلال فصل الخريف قاد أكثر عملياته الهجومية نجاحاً. وفي أقل من أربعة أشهر خسر الروس 2620 رجلاً  ما بين قتيل وجريح وأسير؛ و27 مدفعاً، و2152 بندقية؛ و 12 أو 15 موقعاً محصناً، ومعظم المنطقة التي كانوا يسيطرون عليها في أفارستان (في وسط داغستان).[11]  وقد عبر عن هذا جون ف. باديلي بقوله: "لقد كانت حقاً سنة كارثية في روسيا، و سنة نجاح لا مثيل له لشاميل."[12]
وبعد سفر والين إلى هلسنكي مباشرة، في حزيران/يونيو 1850، بدأ بالتجهز لرحلة إلى الجزيرة العربية، ولكنه واجه صعوبات في تحقيق خططه بسبب المنافسة بين الجمعية الملكية الجغرافية (في لندن) والجمعية الملكية الروسية، والتي أدت إلى "سوء فهم" مقصود. كان الروس يريدون إرسال والين إلى أواسط آسيا، مسرح توسعهم الرئيسي في 1850ت، ليجمع لهم استخبارات عسكرية، لكن والين رفض هذا "العرض". وقبل إمكانية تسوية الأمور، توفي والين في هلسنكي في 23 تشرين الأول، 1852.

Central Asian Survey  (2002) 21(3), 279-282


[1]  للاستزادة، انظر بنتي آلتو، الدراسات الشرقية في فنلندا، 1828-1918 (هلسنكي، 1971)
[2]  H. Wentker, Zerstörung der Grossmacht Russland? Die britischen Kriegsziele im Krimkrieg (Göttingen, 1933), pp 206 n. I, 221.
[3]  انظر على سبيل المثال، ترهي رانتانن:
‘Foreign news in Imperial Russia: the relationship between international and Russian news agencies, 1856-1914’, Annales Academiae Scientiarum Fennicae; Disserationes Humanarum Litterarum, No. 58 (Helsinki, 1990), pp 25-31.
[4]  كونتا حاجي قدم الطريقة القادرية الصوفية كبديل عن الطريقة النقشبندية التي كانت سائدة آنذاك في قفقاسيا. انظر:
Anna Zelkina, In Quest for God and Freedom: the Sufi Response to the Russian Advance in the North Caucasus (London, 2000), pp 229-230.
هناك وصف متعاطف لكونتا حاجي في كتاب يوآف كارني:
Highlanders: a Journey to the Caucasus in Quest of Memory (New York, 2000).
[5]  حسب كتاب لافرن كونكه:
Lives at Risk: Public Health in Nineteenth-Century Egypt (Berkeley, 1990), p 31
فإن الدكتور فرانز برونر كان بافارياً متخصصاً في الطب الباطني في الكلية المصرية للطب.
[6] S.G. Elmgren (ed.), Georg August Wallins reseanteckningar från Orienten åren, 1843-1849, Vol. 1-4 (Helsingfors, 1864-1866): ‘[ … ] begaf mig till Prunner, [ … ] last tidningar der jag bland annat såg att Ryssarne lidit stora nederlag i Kaukasus’ (quotation from Vol 2, p 191).
[7]  كان الشيخ علي الندا البراني مدرس العربية لوالين. وبينما كان والين في مصر كان هو ومدرسه يلتقيان تقريباً يومياً لدراسة ألفية ابن مالك. وخلال هذه المدة (1844) ألف الشيخ علي تعليقاً نحوياً على كتاب الرسالة للشبراوي (ت. 1758)، وصحح هذا التعليق جاكو حامين-أنتيلا، وأضاف إليه شروحات غزيرة وسماه: أسمى المطالب لهداية الطالب (Studia Orientalia, No 66; Helsinki, 1989). لا يعرف شيء عن شهاب (الدين) المذكور هنا، وهو بالتأكيد ليس بالشاعر والمصحح الباشا في مطبعة بولاق شهاب الدين محمد إسماعيل (ت. 1857) والذي كان من معارف والين أيضاً.
[8]  النص باللغة الفنلندية، المرجع:
Elmgren, op cit, Vol 2, p 206.
[9]  النص باللغة الفنلندية، المرجع:
Elmgren, op cit, Vol 2, pp 260-261.
[10] النص باللغة الفنلندية، المرجع:
Elmgren, op ci, Vol 3, p 8.
[11] Moshe Gammer, Muslim Resistance to the Tsar: Shamil and the conquest of Chechnia and Daghestan (London, 1994), pp 141-146; N.I. Pokrovskii, Kavkazskie voiny i imamat Shamilia (Moscow, 2000), pp 314-321.
[12] John F. Baddeley, The Russian Conquest of the Caucasus (London, 1908), p 374.

الثلاثاء، 24 مايو 2016

حرب الاستنزاف التركية مع تنظيم «الدولة الإسلامية»: تهديد الصواريخ


بقلم جان قصاب أوغلو 
17 مايو/أيار، 2016
وصل عدد الضحايا المدنيين الذين سقطوا في تركيا نتيجة الهجمات الصاروخية التي شنها تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»)، مؤخراً رقماً مزدوجاً. ومنذ كانون الثاني/يناير، استهدف حوالي 70 هجوماً من هذه الهجمات العابرة للحدود الأراضي التركية، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 21 شخصاً، وإلحاق أضرار نفسية جسيمة، وتعطيل الحياة اليومية في مدينة "كيليس" الحدودية إلى حد كبير. وبالتالي، تجد أنقرة نفسها الآن منزلقة في حرب استنزاف غير محددة وتبذل جهود من أجل طمأنة الجمهور الذي يعاني بالفعل من الهجمات الإرهابية الكبيرة التي يشنها تنظيم «داعش» في اسطنبول وأنقرة. وبناءً على ذلك، فإنها بحاجة إلى التحلي بمزيد من القدرات لتغيير قواعد اللعبة على الصعيدين الدفاعي والهجومي لمواجهة تهديد الصواريخ الملحّ.
قدرات صواريخ تنظيم «الدولة الإسلامية»
تعتبر منظومات الإطلاق المتعددة لصواريخ كاتيوشا هدية رديئة السمعة من المجمع الصناعي العسكري السوفياتي للكثير من ساحات المعارك المعاصرة، بشكل يشابه إلى حد كبير بندقيات "إيه كيه-47". ففي أواخر أربعينيات القرن الماضي، بدأ العمل على تطوير أشكال متعددة للكاتيوشا أصبحت تستخدم غالباً اليوم، وهي "بي إم-21 غراد" عيار 122 ملم البديل لنموذجي 82 ملم و132 ملم اللذين لعبا دوراً هاماً خلال الحرب العالمية الثانية. يُذكر أنه يمكن للكاتيوشا أن تحمل مجموعة متنوعة من الرؤوس الحربية مثل الأجهزة المتشظية الشديدة الانفجار وقنابل الدخان والقنابل العنقودية، وحتى الألغام المضادة للدبابات. وبشكل عام، يبلغ مداها العملياتي حوالي 20 كم.
وقد حصل تنظيم «الدولة الإسلامية» على غالبية ترسانته من صواريخ الكاتيوشا من خلال استيلائه على هذه الأنظمة من القوات الحكومية في سوريا والعراق، على الرغم من أنه يمتلك أيضاً خط تعديل وإنتاج مزدهر خاص به. ويستند هذا المنطق التكتيكي الكامن وراء حملة الصواريخ قصيرة المدى التي يشنها التنظيم ضد تركيا على تنقلية القوة النارية وتركيزها. ويتم نقل صواريخ الكاتيوشا التي يملكها على منصات أبعادها 4×4 أو 6×6 ذات قدرة حركية فائقة، مما يجعل حمايتها أسهل بكثير عن طريق النقل السريع. كما أن الصواريخ ذاتها تتمتع بإشارات منخفضة نسبياً، بحيث يصعب كشف عمليات الإطلاق. حتى إنه يمكن أن يتم إطلاق الكاتيوشا من قاذفات مجهزة تسير على سكك حديدية مع جهاز توقيت بحيث لا تشمل العملية أي فريق إطلاق. بالإضافة إلى ذلك، في الوقت الذي تفتقر سلسلة "بي إم-21 غراد" إلى الدقة، إلا أنه يمكنها أن تركز قوة نيرانها الشديدة على ضرب التشكيلات العسكرية أو التسبب بالخوف في المناطق الحضرية.
تهديدات كيميائية وحرارية؟
على الرغم من أن تهديد الصواريخ التقليدية يتسبب بالفعل بمشاكل ضخمة، إلا أن أنقرة لم تواجه بعد أسوأ السيناريوهات. أولاً، لا ينبغي التقليل من خطر استخدام تنظيم «الدولة الإسلامية» للصواريخ التي تحمل رؤوس كيميائية. إذ تم تصميم بعض تشكيلات الرؤوس الحربية لصاروخ "بي إم-21 غراد" خصيصاً لتوفير غازي الأعصاب "في إكس" و"السارين" (حوالي 3 كلغم في كل رأس حربي من عيار 122 ملم)، وكذلك سيانيد الهيدروجين. كما وأنّه من المسلّم به إلى حد كبير أن اتفاق نزع الأسلحة الكيميائية ما بين واشنطن ودمشق لم يحقق هدفه، إذ إن جزءاً من الترسانة الكيميائية لنظام الأسد لا يزال سليماً، وقد سبق ان أثبت تنظيم «الدولة الإسلامية أنه يطرح تهديداً ملموساً بالأسلحة الكيميائية من خلال استيلائه على مخزون الكلور في سوريا وغاز الخردل في العراق.
ويقيناً، أن وجود نماذج من صواريخ "بي إم-21 غراد" التي تحمل أسلحة كيميائية في ترسانة التنظيم لا يزال أمراً غير مؤكد، وأن أي استعمال فعلي لهذه الأسلحة ضد تركيا سيؤدي إلى انتقام هائل، وربما حتى من "حلف شمال الأطلسي" ("الناتو"). ولكن، نظراً إلى العقلية المروّعة والمعروفة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» وإلى المعرفة بوجود مثل هذه الأسلحة وسط مناطق الحرب التي لا تنفك تشهد تبدلات مستمرة، لا ينبغي التقليل من الخطر المطروح.
ثانياً، إذا كان تنظيم «داعش» قادراً بطريقة أو بأخرى على الاستيلاء على الرؤوس الحربية الحرارية (القنابل الفراغية) في سوريا، فإن عدد الضحايا في تركيا يمكن أن يزداد إلى حد كبير. فالقنابل الفراغية تعمل بطريقة مختلفة جداً عن الرؤوس الحربية التقليدية الشديدة الانفجار. وهذه الأسلحة الوقودية - الهوائية تسبب أضراراً قاتلة من خلال سحب الأوكسجين من المنطقة المستهدفة، مما تُحدث حرق قوي وضغط زائد مكثف. وقد استخدمت القوات الروسية هذه الأسلحة لتأثيرها المدمر في المناطق الحضرية في الشيشان؛ وتشير أدلة مرئية إلى أن موسكو قد استخدمت عدداً غير معروف من منظومات الإطلاق المتعددة للصواريخ الحرارية من طراز "تي أو أس-1 إيه" في ساحة المعركة السورية. وتحمل أنظمة "تي أو أس-1 إيه" أربعة وعشرين صاروخاً عيار 220 ملم على هيكل دبابة من طراز "تي-72" ويمكنها إطلاق العديد من القذائف الهائلة في أقل من عشر ثوانٍ. وعلى الرغم من أن المنظومة تضم مجموعة ذات مدى أقصر من مدى "بي إم-21"، إلا أن آثارها المدمرة في المناطق التركية المأهولة يمكن أن تكون كارثيةً.
ودون أدنى شك، سيواجه تنظيم «الدولة الإسلامية» صعوبة كبيرة في الاستيلاء على أنظمة "تي أو أس-1 إيه" من القوات الروسية المنتشرة في سوريا. ومع ذلك، ففي تشرين الأول/أكتوبر 2015، ظهرت أدلة مرئية تشير إلى أن قوات الجيش السوري كانت تستعمل مثل هذه الأسلحة أيضاً، وهو أمر مثير للقلق نظراً إلى أن تنظيم «الدولة الإسلامية» قد اثبت أنه مستعداً للاستيلاء على أنظمة قوية أخرى من يد النظام وقادراً على القيام بذلك.
كيفية مواجهة التهديد الصاروخي
من وجهة نظر عسكرية، تحتاج تركيا إلى مزيج جيد من القدرات الهجومية والدفاعية لمواجهة إطلاق الصواريخ من قبل تنظيم «الدولة الإسلامية» وردعه من القيام بذلك. ومن ناحية العقيدة، تندرج هذه الجهود تحت عنوان عمليات "مكافحة القذائف الصاروخية والقذائف المدفعية والهاون"، بالمقارنة مع الدفاع بالصواريخ الباليستية، وهو أمر لطالما أساء الكثيرون في المجتمع المعني بالاستراتيجيات التركية فهمه. فحماية القوات العسكرية والسكان المدنيين من القذائف قصيرة المدى يتطلب رد فعل ممتاز في الوقت المحدد فضلاً عن قدرات قوية في الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع. ولا بد من الإشارة إلى أن الجيوش الحديثة تستخدم وسائل مختلفة لاعتراض هذه الأسلحة، من بينها بندقية "جاتلينج" سريعة الإطلاق ومدافع مسدس (مثل منظومة الأسلحة "فالانكس" قصيرة المدى، وهي تعديل للبديل البحري الذي يحتاج إليه الجيش الأمريكي) فضلاً عن منظومات الدفاع الجوي منخفضة الارتفاع وقصيرة المدى جداً (مثل منظومة "القبة الحديدية" الإسرائيلية). بيد، تفتقر تركيا إلى أي تشكلية برية مماثلة لمكافحة القذائف الصاروخية والقذائف المدفعية والهاون.
وتحتاج أنقرة أيضاً إلى تعزيز قدراتها الهجومية بصورة أفضل. إذ إن منع الهجمات الصاروخية التي يشنها تنظيم «الدولة الإسلامية» يستلزم نهجاً بسيطاً ولكنه يتطلب الكثير في مرحلتين. أولاً، يجب على القوات المسلحة التركية أن تستهدف بشكل استباقي تشكيلات محددة تابعة للتنظيم ضمن مدى الصواريخ، الأمر الذي قد يشكل تحدياً نظراً إلى الوجود المرجح لوحدات صغيرة مع عدد قليل من الصواريخ. ثانياً، يجب على هذه القوات أن تعمل على إخراج جميع عناصر تنظيم «داعش» من منطقة الخطر بشكل دائم.
وفي الوقت الحاضر، يستخدم الجيش التركي أنظمة مدافع الهاوتزر" فيرتينا" عيار 155ملم التي يبلغ مداها 30-40 كم، إلى جانب أنظمة صواريخ 122 و300 ملم والتي قد يصل مداها إلى 40 كم و80 إلى 100 كم على التوالي. كما أن موجودات دعم النيران التي يملكها الجيش، ترتبط برادارات اكتشاف النيران من طراز "إيه أن/تي بي كيو-36"، وهي عبارة عن أنظمة "إكس باند" يتم مسحها إلكترونياً ويمكنها تحديد موقع إطلاق الصواريخ والمدفعية وقذائف الهاون. ويصل مدى اكتشاف النظام للصواريخ إلى حد 24 كم، ويمكنه أن يتتبع ما يصل إلى عشرة أهداف في وقت واحد.
وليس هناك شكّ بأنّ هذه الشبكة توفر موقف انتقامي قوي، وحتى بإمكان تركيا أن تبلغ أهدافاً تبعد بضع مئات الكيلومترات داخل سوريا باستعمالها الصواريخ الباليستية التكتيكية من طراز "جي-600". بيد، ستظل القوات التركية بحاجة إلى التحليق فوق الأراضي السورية لمطاردة قاذفات صواريخ تنظيم «الدولة الإسلامية» المحمولة قبل شن ضرباتها، كما ستحتاج إلى قدرات قوية في الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع للكشف عن مثل هذه الأنظمة والقضاء عليها قبل أن تصل إلى مواقع إطلاق النار. وهذه المتطلبات شائكة بشكل خاص نظراً إلى أن روسيا أنشأت منطقةً هائلةً يمنع الوصول إليها في سوريا بعد أن أسقطت تركيا إحدى مقاتلاتها من طراز "سو 24" في تشرين الثاني/نوفمبر. لذا فإن موسكو مجهزة تجهيزاً جيداً للكشف عن أي توغل للقوات الجوية التركية، ويمكنها أن تستخدم مثل هذه الحوادث كذريعة للانتقام.
في ضوء هذا التحدي، يمكن لقدرات الطائرات بدون طيار المسلحة أن تُثبت أنها تشكل رصيداً هاماً. فقد أعرب رئيس هيئة المشتريات العسكرية في تركيا، اسماعيل ديمير، في الآونة الأخيرة عن الحاجة إلى السيطرة على مثل هذه الأنظمة من أجل التصدي لتهديد صواريخ تنظيم «الدولة الإسلامية». ولكن، في حين أن البرنامج التركي الواعد للطائرات بدون طيار قد أظهر تحسينات مثيرةً للإعجاب في اختبار منصتي "بيرقدار" و"أنكا"، أصبح تهديد الصواريخ وشيكاً وباتت هناك حاجة إلى القدرات القوية للطائرات الهجومية من دون طيار.
تركيا تحتاج إلى شركاء
التطورات الأخيرة في الحرب في سوريا أظهرت من جديد لأنقرة قيمة التحالف الاستراتيجي التركي-الأمريكي، وحتى التعاون العسكري التركي-الإسرائيلي. ففي ظل غياب رادع جوي تركي فوق سوريا، كانت الطائرات الأمريكية المسلحة من طراز "إي-10" و" إم كيو-1 بريداتور" من دون طيار تقلع من قاعدة "إنجرليك" الجوية لضرب أهداف تنظيم «داعش» عبر الحدود. كما تنشر الولايات المتحدة منظومات صواريخ مدفعية ذات قدرة عالية على الحركة من طراز "هيمارس" في تركيا للرد على هذا التهديد. إلى جانب ذلك، لو لم تتراجع علاقات أنقرة مع إسرائيل في السنوات الأخيرة قبل محاولتهما الأخيرة للتقارب، لكان من المرجح أن يعطي الأتراك الأولوية لعمليات شراء سريعة لطائرات مسلحة من دون طيار ولبطاريات منظومة "القبة الحديدية" التي تتمتع بمعدل اعتراض ضد الصواريخ يبلغ 90 في المائة. وكما هو الوضع حالياً، من غير المرجح أن تقوم تركيا بمثل هذه المشتريات من إسرائيل على المدى القريب.
وسواء اعتمدت أنقرة على الشركاء الأجانب أو على عمليات البحث والتطوير المحلية أو على مزيج من الاثنين، تحتاج أنقرة إلى الرد بسرعة على التحدي الإرهابي الذي يتحول من صراع غير كثيف جداً إلى تهديدات بخوض حرب هجينة. فخصوم تركيا من غير الدول يعملون على تحسين قدراتهم بمنظومات صواريخ متحركة وصواريخ موجهة مضادة للدبابات وأنظمة دفاع جوي محمولة على الكتف. وفي ظل هذه الظروف، فإن عمليات التكيّف الاستراتيجي مع البيئة الأمنية الجديدة وتنفيذ التغييرات المطلوبة في القوات المسلحة التركية هي أمور في غاية الأهمية.
-------------------------- 
جان قصاب أوغلو هو محلل للشؤون الدفاعية في مركز الأبحاث "إيدام" الذي مقره اسطنبول، وأستاذ زائر سابق في "كلية الدفاع" التابعة لـ "حلف شمال الأطلسي". وقد حصل على درجة الدكتوراه من "معهد البحوث الاستراتيجية" في "كلية الحرب التركية".
رابط المقال: 
http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/turkeys-war-of-attrition-with-the-islamic-state-the-rocket-threat



الثلاثاء، 12 أبريل 2016

طموحات بوتين تعيد تشكيل النظام العالمي

يوجين رومر
نقله إلى العربية عبد الرحمن كيلاني

لقد ظهرت موسكو لتغيير النظام العالمي، وفقاً للجنرال فيليب بريدلف، القائد العسكري لحلف الناتو. وقد صنفت المؤسسة العسكرية الأمريكية بأكملها روسيا على أنها أكبر تهديد للولايات المتحدة. ورداً على هذا التصنيف فقد عبأت وزارة الدفاع الأمريكية قواتها ومدرعاتها ومدفعيتها  في أوروبا الشرقية، وتريد مبلغاً إضافياً قدره 3.4 مليار دولار لدفع تكاليف هذه التعبئة.
في الوقت نفسه، يصرح الرئيس الأمريكي باراك أوباما، بأن روسيا "متوسعة ونازفة" في سوريا، وأن اقتصادها منكمش "بشكل كبير". وتوصف روسيا من قبل الآخرين بأنها "قوة عظمى جوفاء" مع عدم وجود استراتيجية حقيقية وراء مغامراتها في الخارج.
أي من الصورتين صحيحة؟ الجواب: كلاهما! الاقتصاد الروسي آخذ في التقلص، والفقر في ازدياد، وبدون إصلاحات على مستوى واسع - عدد قليل يتوقع أن تكون هذا الإصلاحات في اعتبار فلاديمير بوتين - فإن آفاق الاقتصاد الروسي قاتمة. يمكن للرئيس بوتين أن يبقى قانونياً في الكرملين لسنوات عديدة قادمة، يترأس الركود في الداخل - وعلى سبيل التعويض - وضعية المواجهة في الخارج.
ومع أن ميزانية الاقتصاد والدفاع الروسي جزء صغير إذا ما قورنت بميزانية الاقتصاد والدفاع الأمريكي، فإن ما قام به الرئيس الروسي يعتبر جيداً إلى حد ما. وقد تمسك بالسلطة لعقدين من الزمن بشكل جيد. وقد أمسك بالخط ضد حلف شمال الأطلسي في فترة الاتحاد السوفياتي، ووضع نفسه كصانع صفقات في الشرق الأوسط.
إن طريقة تعامل بوتين مع القضية السورية تظهر القسوة والمهارة والعزيمة والحكم، فهو قد تجاهل وحشية الرئيس بشار الأسد، ومع فقد الإرادة لدى الولايات المتحدة وأوروبا للتدخل في الحرب الأهلية، ملأ بوتين هذا الفراغ ونشر قواته الجوية التي غيرت مجرى الصراع، ثم أعلن أنه سيترك المشهد، لكنه ترك الباب مفتوحاً أمامه للعودة.
وبذلك انتهت المهمة. لقد تمت المحافظة على الأسد، وكل أطراف الحرب الأهلية تحرروا من وهم أن فكرة النصر العسكري ممكن. وفي تطور غريب، مهد تدخل بوتين الطريق لأول وقف إطلاق نار جدي للحرب، وربما محادثات سلام حقيقية - لكن بشروطه.
وعلى نطاق أوسع، فإن روسيا عادت إلى منطقة الشرق الأوسط، وهي الآن في وسط شبكة معقدة لا تضم سوريا فقط ولكن جميع الأطراف الأخرى المعنية بشكل مباشر أو غير مباشر في الصراع الكبير في المنطقة - بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. إن موسكو لا تستطيع أن تحل مشاكل المنطقة (ومن يستطيع؟)، وهذه المشاكل الآن لا يمكن حلها دون روسيا.
أظهرت سوريا أن روسيا - التي اضمحلت في تسعينيات القرن الماضي كقوة إقليمية، لديها الآن جيش قادر يمكنها أن تستخدمه إن أتيحت لها الفرصة. هل يشير هذا أيضا إلى أن موسكو قد شرعت في حقبة جديدة من المغامرات العسكرية؟ لا. لقد ارتقى بوتين، ولم يتجاوز خطوط الناتو الحمراء. إن الحروب في جورجيا في عام 2008، وفي أوكرانيا من عام 2014، كانت ضد دول لم تكن تحت حماية الناتو، بل قد قوتلت هذه الدول لتمنع عنها روسيا حماية الناتو. أما في سوريا، فقد كانت روسيا واثقة من أن الولايات المتحدة وحلفاءها لن يتدخلوا.
وماذا بعد؟ من المحتمل أن يتحدى بوتين الناتو في دول البلطيق ولكن ليس عسكرياً. إن لديه أدوات مختلفة تهدف إلى تقويض تماسك التحالف والثقة في ضمان حماية الناتو دون أن يثير  رداً مسلحاً. فعمليات القرصنة الإلكترونية، والمقاطعة الاقتصادية، والتهديد النووي، كل هذا تحت تصرف بوتين، وهذه أدوات رخيصة نسبياً، يستطيع أن يتحمل تكاليفها.
إن فكرة أن المشاكل الاقتصادية ستعوق الكرملين، وأن العقوبات سوف تجبر روسيا على التراجع من أوكرانيا واعتماد موقف لين، أمر أثبت خطؤه. إن صورة روسيا على أنها ضعيفة ومتراجعة من الساحة الدولية وأن النخبة الحاكمة فيها تركز على الاستقرار الاقتصادي كوسيلة للبقاء سياسياً، خطأ أيضاً. كان ذلك في تسعينيات القرن الماضي - وهي فترة يتذكرها الكثيرون في روسيا، وقليل منهم لا يهتم بتذكرها.
إن موسكو اليوم لديها طموحات واسعة وموارد كبيرة ورغبة في تحدي خصومها عندما يتحدونها في المقابل. إن هذا ما قام به بوتين في سوريا، وإنه من العقل أن نتوقع منه أن يفعل ذلك مرة أخرى.

الكاتب: يوجين رومر
مدير ومشارك متميز
برنامج روسيا ويوراسيا

رابط المقال المترجم:

الاثنين، 28 مارس 2016

هل فاز بوتين في سوريا؟ أم حاول أن يخفف خسائره؟

نقاش بين الباحثيْن سيرغي ألكساشنكو وبافل ك. باييف حول الانسحاب الروسي المفاجئ من سوريا

هل فاز بوتين في سوريا؟ أم حاول أن يخفف خسائره؟

(1) سيرغي ألكساشنكو
حسب تعريف بوتين نفسه، فإن روسيا فازت في سوريا
أنا وبافل نتفق أنه في حين جاء انسحاب القوة العسكرية الروسية من سوريا بمثابة مفاجأة بالمعنى المباشر، فإن قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للانسحاب من سوريا كان منطقياً نظراً للظروف التي واجهها في سوريا. واختلافنا هو في تقييمنا في فوز بوتين أساساً في لعبته الخاصة في سوريا. أنا أزعم أنه فاز، وأن الغرب يسيء فهم ذلك، الأمر الذي سيجعل من الصعب على الغرب أن يتنبأ بتحركات بوتين المقبلة.
أولاً، عندما نشر بوتين القوات المسلحة الروسية في سورية في أيلول الماضي، كانت هذه أهدافه:
·       إعادة روسيا إلى وضعها كقوة عظمى، والمشاركة على هذا الأساس في الحوارات الدولية، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط.
·       مقاومة الغرب، وخاصة جهوده للإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد.
·       الحفاظ على سوريا كدولة موحدة لا تزال حليفة لروسيا (دولة على استعداد لشراء الأسلحة الروسية، وتوفير الأراضي لإقامة قواعد عسكرية روسية فيها)، وكذلك إنهاء الحرب الأهلية السورية، وإطلاق الحوار السياسي الداخلي.
·       تشكيل شراكة مع إيران، بما في ذلك تعزيز المصالح الاقتصادية لشركات النفط والغاز الروسية ومصنعي الأسلحة.
·       تشكيل ائتلاف واسع بمشاركة الولايات المتحدة وروسيا وإيران والمملكة العربية السعودية، وتركيا لمكافحة تنظيم الدولة.
وباستثناء النقطة الأخيرة، فإنه يمكن لبوتين وضع علامة على نقاط قائمته. أما فيما يتعلق بالمواجهة مع الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، فإن الكرملين لا ينظر للصراع السوري على أنه مواجهة إقليمية بين القوتين، مثل "الحرب الكورية". بوتين نفسه قد يشعر حقاً أنه فائز، لأن الهدف الرئيسي للغرب، وهو إزالة الأسد لم يتحقق. والأسوأ من ذلك، فإن هذا المطلب قد تمت إزالته من الجدول تماماً.
ثانياً، السياسيون الغربيون وللمرة الثانية أخطأوا حسابات بوتين السياسية. قد تكون لهم آرائهم الخاصة فيما يتعلق بالمغامرة الروسية في سوريا، ولكن هذا لن يساعدهم على فهم أعمال بوتين. فبدلاً من مقارنة سلوك بوتين مع لاعب الشطرنج - والذي يسعى لتحقيق استراتيجية النصر- فإني أعتقد أننا يجب أن ننظر إلى منطق الجودو، والذي يمتلك منه بوتين مستوى رفيعاً. إن التدخل في سوريا، مع نشر وانسحاب سريعين للقوات الروسية، كان حركة مفاجئة وحادة زعزعت معارضي بوتين. يمكننا أن نتناظر فيما إذا فاز بوتين بنقطة كبيرة أو صغيرة، ولكن الحقيقة هي أنه أحرز نقاطاً وعاد فوراً إلى الحالة الأولية من التوتر المتبادل.
لقد أثبت بوتين في سورية وأوكرانيا أنه مستعد لاستخدام القوة العسكرية -بسرعة وبشكل غير متوقع- إذا لزم الأمر، لحماية المصالح الروسية كما يعرّفها هو. (لذلك، فإنه لا ينبغي لنا أن نندهش إذا أعاد بوتين نشر قوات روسية في سوريا في وقت لاحق- فقد قال إنه سيكون مستعداً للقيام بهذا بعد ساعات من الإعلان عنه). في حالة سوريا، فإن بوتين حدد الأهداف الروسية، وحققها إلى حد كبير، وخرج من هناك قبل أن يقع في المستنقع.
***
(2) بافل ك. باييف
بوتين لم يحقق أهدافه في سوريا، بل قلل من خسائره
أنا أتفق مع سيرغي بأن إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المفاجئ الأسبوع الماضي بانسحابه على الأقل جزئياً من سوريا كان مفاجأة بالمعنى المحدود، ولكنه منطقي بالنسبة لبوتين على نطاق أوسع. وعلى عكس سيرغي، يمكنني أن أقول: بينما استطاع بوتين أن يفر بنجاح من "المستنقع" في سوريا، فهذا ليس لأنه حقق أهدافه، بل ليقلل من خسائره ويخرج من هناك في وقت يستطيع أن يفعل ذلك.
لقد تمكن بوتين للحد من سقوط مغامرة القوة قبل نكسة كبيرة ثانية (حصلت الأولى عند أسقطت طائرة تركية طائرة قاذفة روسية  في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي)، فلذلك كان توقيته إلى حد ما سليماً وغريباً أيضاً. التوقيت كان سليماً لأن وقف إطلاق النار الهش الذي استمر في سوريا أتاح لروسيا فرصة مثالية لإنهاء تدخلها، وكان غريباً لأنه النصر لم يتحقق في ميدان المعركة: فمعظم حلب لا يزال تحت سيطرة الثوار، ناهيك عن أن تنظيم الدولة ما زال يسيطر على مساحات شاسعة من سوريا والعراق. نعم، قد عززت حملة القصف الروسية قبضة الرئيس السوري بشار الأسد على السلطة، ولكن الرحيل المفاجئ يمكن أن يترك القوات السورية مثبطة ويحملها فوق طاقتها، مما يهدد مكاسب التحالف المتنافرة، بما فيها المكاسب التي حققتها قوات حزب الله. وفي الوقت نفسه، وعند نقطة معينة كان من المرجح أن القصف الروسي سيمهد الطريق لهجوم بري حاسم تنفذه قوات المشاة الإيرانية، لكن ذلك لم هذا لم يحدث. والخلافات حول إنتاج النفط أساء للعلاقات الروسية-الإيرانية، مما يجعل التجربة الروسية في إسقاط القوة في سوريا أكثر خطورة.
وحين أن قرار بوتين لاعادة القوات والمعدات إلى روسيا عنى شيئاً، إلا أن بوتين يبدو أنه لم يكن سعيداً من قراره هذا. حتى في الفيديو الرسمي المتلاعب فيه بعناية، كان التوتر واضحاً عليه في الوقت الذي سبق فيه الإعلان عن مفاجأته بالانسحاب. ليس من طبيعة بوتين أن يبطئ من سرعته، فمن المحتمل أنه كان يفكر في مخاطر الانسحاب المسرع. ومن المحتمل أن استمتاع بوتين بتفوقع على أوباما بالحيلة هو الذي دفعه لاختيار العمل الذي قام به، وليس التقييم الحقيقي بأن روسيا حققت أهدافها.
أيضاً، وعلى الرغم من أن بوتين أعلن انسحابه عشية محادثات جنيف- التي كانت من المرجح أن تحسن آفاق المفاوضات، كما نبهت إليه وزارة الخارجية- فإنه من المشكوك فيه ما إذا كان ذلك حقاً نية بوتين. إن نهاية الحرب الأهلية - وإن كانت بعيدة، لكن لا مفر منها- من شأنها أن تشير إلى تراجع النفوذ الروسي لأنه ليس لديه ما يساهم به في بناء السلام.
وعلى الرغم من أن روسيا قد أظهرت شهية عالية للمخاطرة في سوريا - فضلاً عن عدم اهتمامها للأضرار التبعية- إلا أنها أظهرت أن ليس لديها قوة البقاء (في سوريا). ومن الناحية النظرية، روسيا أبقت الباب مفتوحاً أمام خيار عودة طائراتها وقواتها إلى اللاذقية، ولكن هذا الخيار في الحقيقة غير عملي. لقد تم تأمين نجاح الانتشار في سبتمبر بشكل مفاجئ، والذي ذهب الآن، في حين أن المقاتلين هم على استعداد أفضل للدفاع ضد الغارات الجوية (كما برهن على هذا إسقاط طائرة سورية).
وأخيراً، فإن الحقيقة هي أن روسيا لا تملك الموارد اللازمة لإطالة تدخلها. في اجتماعاته الأخيرة مع مستشاريه الاقتصاديين وفي وقت متأخر من الليل، قرر بوتين وكبار مساعديه أن نفقات الدفاع - والتي كانت منذ فترة طويلة شحيحة، سيتم بالفعل خفضها في البداية 5 في المئة فقط، ولكن فيما بعد سيكون الخفض أكبر. إن اتخاذ مثل هذا القرار -مثل قرار الانسحاب من سوريا- معقول، ولكن كلا القرارين يدلان على تراجع استراتيجي لروسيا، وأنهما لم يتخذا من موقع قوة.
***
تعريف بالباحثيْن:
-سيرغي ألكساشنكو (Sergey Aleksashenko) زميل بارز غير مقيم في الاقتصاد العالمي والتنمية. نائب سابق لمدير البنك المركزي الروسي، ومدير سابق لميريل لينش فرع روسيا. يركز ألكساشينكو على عملية الانتقال في رابطة الدول المستقلة -السوفيتية السابقة- وأوروبا الشرقية، والسياسة النقدية والبنية التحتية المالية الدولية.
-بافل ك باييف (Pavel K. Baev) أستاذ باحث في معهد بحوث السلام، أوسلو (PRIO)، وزميل  بارز غير مقيم في مركز الولايات المتحدة وأوروبا في معهد بروكينغز. وقبل انضمامه إلى (PRIO) في عام 1992، كان يعمل في معهد أوروبا في موسكو. تشمل أبحاثه الحالية إصلاح العسكرية الروسية، وإدارة صراع روسيا في القوقاز وآسيا الوسطى، ومصالح الطاقة في الخارجية الروسية، والسياسة الأمنية وعلاقات روسيا مع أوروبا وحلف شمال الأطلسي.
رابط المقال:

نقله إلى العربية عبد الرحمن كيلاني

الخميس، 24 مارس 2016

الدافع الخفي لانسحاب روسيا الجزئي من سوريا - غاريت كامبل

نقله إلى العربية عبد الرحمن كيلاني
18 آذار ، 2016
 وسط ضجة كبيرة و"مفاجأة"، يبدو أن روسيا وللمرة الثانية تتغلب على قيادة الغرب في مناوراتها في في سوريا. في حين كثر الكلام عما إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقوم بتنفيذ استراتيجية سليمة أم هي مجرد تكتيك انتهازي، فإنه من الواضح أنه حقق هدفه الاستراتيجي الأساسي وهو جعل روسيا من الناحية الجيوسياسية ذات أهمية مرة أخرى وإجبار الغرب على أن يقبل - وعلى مضض- أن يأخذ بعين الاعتبار المصالح الروسية. ولكن هناك دوافع خفية لانسحاب بوتين الجزئي من سوريا.
الانسحاب اسميّ فقط
انتظر دقيقة! نعم،  إن الروس يسحبون بعض موظفيهم العسكريين وبعض الأجهزة، ولكنه إلى حد كبير، هو انسحاب اسميّ فقط. لقد عادت بعض الطائرات التكتيكية إلى روسيا، ولكننا لا نستطيع أن نتأكد من المستويات الحالية، ففي نفس الوقت هناك طائرات آخرى تصل مجدداً إلى سوريا. بالإضافة إلى هذا، فنحن لم يكن في الأصل لدينا أرقام دقيقة عن [الطائرات والجنود الروس في سوريا]. وتشير التقديرات إلى أن هناك ما بين ثلاثة إلى ستة آلاف من الجنود الروس في سوريا من قبل، وما نعرفه الآن هو أن الروس قد أبقوا خلفهم ما يكفي من القوات لدعم قواتها لوجستيا في كل من قاعدة حميميم الجوية وميناء طرطوس.
والأهم من ذلك، هو نشر روسيا منطقة منع دخول الأسلحة،  و لمنع إقامة ممر إنساني أو منطقة حظر للطيران، كلها ظلت في مكانها. إن القوات الروسية التي تراقب وتسيطر على الطيف الكهرومغناطيسي -وهي ميزة روسية حاسمة في كل من سوريا ودونباس في أوكرانيا- ما زالت باقية في مكانها. ويبدو أن الطائرات المقاتلة الأكثر تقدماً وهي SU-35 و SU-30 ما زالت باقية هناك أيضاً. وأخيراً، فإن مستشاريهم والمدفعية الروسية، وهي عناصر حاسمة على أرض الواقع، لا يزالون هناك يراقبون ساحة المعركة السورية، مستعدون لما سيأتي بعد ذلك. وقد ورد أن خمسة من القوات الروسية قد قتلوا مؤخراً على يد تنظيم الدولة بالقرب من مدينة تدمر.
الرسالة واضحة: إن الفرقة الروسية المتبقية ليست فقط قادرة على تحمل الحرب، بل قادرة على إعادة تشكيل حملتها حسب الأمر الرئاسي. ومن خلال حفاظها على قدرتها في منعها لمنطقة عدم الدخول (anti-access area) ضد الغرب وتركيا، فإن روسيا تؤكد على أنه لن يكون هناك أي جهد لقلب ميزان القوى على أرض المعركة أو تخفيف الكارثة الإنسانية في سوريا والتي تعاونت فيها روسيا وحلفاؤها على إدامتها. إن روسيا ترسل رسالة واضحة إلى تركيا وغيرها - كما حدث بتسليحها الأكراد في الآونة الأخيرة بمضادات الطائرات. إن روسيا ستواصل ضمان أن لا يستطيع أحد أن يقلب النصر الذي نسبته إلى نفسها، أو أن يقوض ادعاء إعادة نفوذها داخل النظام الدولي.
وأخيراً، هناك مجموعة أخرى من الفعاليات الهامة التي بالتأكيد لم تغادرساحات القتال السورية: الآلاف من القوات الإيرانية من الحرس الثوري، ومقاتلي حزب الله، ومجموعة من الميليشيات الشيعية من العراق وباكستان، وعناصر حرضها الروس، لتجازف روسيا وتحارب الأنظمة الغربية والتطرف الإسلامي ، أو كلا على حدى.
في هذه المرحلة، فإنه من المنطقي أن يقوم الروس بإزالة عدد ملموس من الطائرات الحربية. لقد سلم الروس الزخم لنظام الأسد، وإعادة بناء قواته الجوية وقواته المدرعة إلى حد ما، وإعادة تدريب عناصر من الجيش السوري. وببسيط العبارة، فإنه ليس هناك حاجة حالياً لوجود سلاح جوي روسي كبير في سوريا.
قضية توقيت الانسحاب الجزئي
بتنفيذ الانسحاب العسكري الجزئي، ومثلما قامت القوات الغربية والإقليمية لتضرب تنظيم الدولة في العراق وسوريا في معاقله الرئيسية المتمثلة في الموصل والرقة، فقد عمد الروس إلى توضيح أنهم يسعون إلى التأثير على الغرب والاستمرار في متابعة مشوارهم الانتقامي لإعادة ترتيب النظام الدولي. وبعبارة أخرى، فإن توقيت قرار بوتين ليس في المقام الأول يخص سورية نفسها، أو تنظيم الدولة، أو أي تهديد إسلامي آخر لروسيا. إن تدخل روسيا في سوريا، وعلى عكس الحجج الرسمية، لم يكن وليس هو في الحقيقة حول سوريا. إن خطاب بوتين المتغطرس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي - والذي سعى من خلاله إلى إيجاد تحالف عالمي لمحاربة الإرهاب- كان حول تسليط الأضواء عليه في حقيقة الأمر وليس لتقدم مثل هذا التحالف. لقد كان الأمرحيلة! إن بوتين الآن يوصل نقطة وهي أن قتال تنظيم الدولة في سوريا هو ورطة أوباما ليتعامل معها.
لقد واصلت روسيا في الحفاظ على مصلحتها في سوريا طوال الوقت، كما هو واضح من خلال حملات القصف العشوائي ضد المقاومة السورية، حيث أن تعريف روسيا لهذه المقاومة  -من الواضح- تعريف فضفاض للمجموعات التي تعتبرها إرهابية. تذكّروا أن بوتين قال عدة مرات إن روسيا ليس لديها حلفاء ولكن لديها شركاء استراتيجيين- وقد ظهر هذا في أعمال روسيا في سوريا. وأخيراً، من خلال ادعاء النصر والانسحاب من ساحة المعركة، بينما هي على وشك الانتصار في حلب ومع زخم لصالح إيران حتما والأسد، كل هذا يدل على إخضاع روسيا لأهداف حلفائها في الحرب لحسابها هي.
دافع خفي
لذلك، أكملت روسيا انسحاباً جزئياً من سوريا - والذي هو من حيث حقائق المعركة والتوقيت- كان بتمامه يصب في مصالحها الخاصة. لا ينبغي أن يشكل هذا مفاجأة لنا.
قليل هم الذين يعتقدون أن وقف إطلاق النار الهش الحالي سوف يستمر- وعندما ينهار، سوف تلعب روسيا دوراً رئيسياً على طاولة المفاوضات. وكأكبر لاعب في العالم متورط بشكل مباشر في النزاع السوري، فالعالم يعترف الآن أنه يجب التعامل مع روسيا من أجل تحقيق السلام في سوريا. تولت روسيا بحكم الأمر الواقع المسؤولية عن نجاح وقف إطلاق النار أو فشله، وبالتالي فإن تحديها هو أن على روسيا أن ترى تنفيذ شروطه، وهذا مستبعد جداً.
إن سحب القوات خارج سوريا مع الضجة الإعلامية وأبهة الاحتفال والمواقف لتكريم الطيارين العائدين وعائلات قتلى الجنود الروس يستهدف بوضوح الجمهور الروسي المحلي. من المناسب تكريم هؤلاء الذين يخدمون، بطبيعة الحال، لكن الانسحاب الروسي والتركيز المحلي يرسل رسالة وهي أنه عندما يفشل وقف إطلاق النار فهو ليس مسؤولية روسيا ولا خطأها، بل هو خطأ المعارضة المدعومة من الغرب والولايات المتحدة، وحلفائهما. هناك جماعات كثيرة مجازفة تتنافس على السلطة والأرض في سوريا والتي لا تستجيب لروسيا أو للغرب أو لحلفائهم. إن الدافع الخفي لانسحاب روسيا هو إعداد ساحة المعركة السياسية عند انهيار وقف إطلاق النار واستئناف الحرب الأهلية. على روسيا أن تكون قادرة على إضفاء الشرعية على أي عمل تراه ضرورياً بعد حدوث هذا الفشل. يجب على روسيا أن تكون قادرة على إظهار كيف أن الغرب فشل مرة أخرى، وأن تصور نفسها - في الوقت ذاته- أنها الطرف المتضرر.

غاريت كامبل زميل في التنفيذي الفيدرالي، معهد بروكينغز، البحرية الأمريكية، مركز القرن 21 للأمن والاستخبارات.
رابط البحث: