السبت، 4 يونيو 2016

صدى انتصارات شاميل في القاهرة: شهادة فنلندي

بقلم: كاج أوهرنبرغ (باحث في معهد الدراسات الآسيوية والإفريقية، جامعة هلسنكي، فنلندا)
نقله إلى العربية عبد الرحمن كيلاني
----------------

في حربها مع السويد خلال عامي 1808و 1809 انترعت روسيا فنلندا من السويد. وفي شهر آذار/مارس من عام 1809 أصبحت فنلندا دوكية كبرى ذات حكم ذاتي متحدة مع الإمبراطورية الروسية. هذا بدوره فتح روسيا على الفنلنديين، حيث إن العديد منهم تابعوا الدراسات الاستشراقية في المقاعد الرئيسية في المعاهد الاستشراقية في روسيا: سانت بطرسبرغ، وموسكو، وقازان. إضافة إلى ذلك، فإن كرم الأكاديمية الملكية للعلوم تجاه العلماء من أية قومية مكّن الفنلنديين بالقيام برحلات استكشافية وبالحصول على مهمات علميةذات أهمية في مناطق نائية من الإمبراطورية الروسية.[1]
كان جورج أوغست والين (1811-1852) أحد الفنلنديين الذين استفادوا من مكانة فنلندا الجديدة. ولد والين في جزر آلاند، ودرس اللغات الكلاسيكية والشرقية في جامعة هلسنكي من1829 إلى 1836، ودرس في سانت بطرسبرغ من 1840 إلى 1842. وفي عام  1841حاز على مكافأة للسفر ليوسع معرفته باللهجات العربية وليبحث في اعتقادات الوهابيين.
وقد حدث في أربعينات القرن التاسع عشر (1840ت)، عندما تأثرت الدوائر الأكاديمية الفنلندية بالحركة الرومانسية وروح النهضة القومية، وكانت مهتمة بشكل كبير في سيبيريا— "مستعمرة الدراسات الإنسانية الفنلندية"— أن رحالة منهم سافر إلى الجزيرة العربية على ظهر جمل باحثاً عن "المتوحش النبيل" الرومانطيقي في مخيمات البدو الواحد تلو الآخر.
في شهر تموز/يوليو من عام 1843 أبحر والين من هلسنكي ووصل القاهرة في كانون الثاني/يناير من عام 1844 حيث اتخذها مقراً له، وقام بثلاث رحلات إلى الصحراء ومن ثم أصبح له صيت كلغوي ومستكشف. وخلال أسفاره وإقامته في القاهرة، كان هذا الباحث الشمالي متنكراً بزي المسلمين وباسم عبد الوالي من بخارى في أسيا الوسطى. ومع ذلك، فإن الناس الذين التقوه خلال أسفاره كان لديهم آراءهم الخاصة فيما يتعلق بأصوله. وقد ذكر والين في رسائله ويومياته الشخصيات التالية التي نسبت إليه: ففي دمشق كان بدوياً؛ وفي حيفا كان مسلماً من بخارى يتكلم بلسان الفرس؛ وخلال إقامته المؤقتة في فارس كان طبيباً مصرياً؛ وفي المدينة المنورة كان مغاربياً؛ وإحدى خليلاته في القاهرة كانت تعتقد أنه كان مسلماً من الهند.
وقد يكون من الطرافةأن  أصدقاءه المسلمين في القاهرة كانوا يعتقدون أنه جركسي من القفقاس. وفي الاستعمال المصري المعاصر وكذلك العثماني، فإن "الجركسي" يطلق على أي شخص من القفقاس بشكل عام، وليس بالضرورة أنه من القبائل الأديغية. هذا الارتباك حول مفهوم "الجركسي" وقع فيه المراقبون الأوروبيون المعاصرون. فعلى سبيل المثال، في خمسينات القرن التاسع عشر، كان البريطانيون ينظرون في مساعدتهم "الأمير الجركسي" شاميل (والذي في الحقيقة كان من الآفاريين) في نضاله ضد الروس.[2]
لم تكن هناك وكالات أنباء عالمية تتكلم عن الأحداث في العقد الرابع من القرن التاسع عشر.  إن  وكالة "هواس" الفرنسية التي أنشئت في عام 1835 والتي تعتبر أول وكالة أنباء في العالم، كانت نشاطاتها في الأصل مقتصرة على توزيع الأنباء بين العواصم الأوروبية الرئيسية فقط. أما وكالة الأنباء الثانية في أوروبا، فكانت وكالة "وولف" الألمانية التي بدأت عملياتها فقط في نهاية العقد الرابع عام 1849. وفي باريس أسس جوليوس رويتر وكالته للأنباء في الوقت نفسه الذي تأسست فيه وكالة وولف الألمانية، لكنها اضطرت إلى الانتقال أولاً إلى مدينة آخن ثم إلى لندن حيث بدأت عملياتها فقط في عام 1851.[3]
لكن حتى بدون وجود الوكالات العالمية، كانت الأخبار تنتقل من سانت بطرسبرغ إلى العواصم الأوروبية الأخرى في الوقت التي بدأت تتكشف فيه "اللعبة الكبرى" أو "مسابقات الظلال"، حيث يمكن لأحد ما أن يتأكد من أن تفاصيل التوسع الروسي في منطقة القفقاس كانت معروفة جيداً في أوروبا. أما في العالم الإسلامي فكانت القناة الرئيسية التي يمكن من خلالها وصول أخبار آسيا الوسطى وقفقاسيا إلى الشواطئ الجنوبية والشرقية للبحر المتوسط كانت عن طريق الحجاج المتجهين إلى مكة. إن أشهر الحجاج القفقاسيين في 1840ت ربما كان كونتا حاجي[4] – الذي كان غير معروفاً عندئذ- والذي كان عمره ثمانية عشر عاماً عندما حج للمرة الأولى.
في يوميات والين هناك أربعة تدوينات حول الحرب بين روسيا وأهل الجبال:
(1)
28 أيلول/سبتمبر، 1844: "ذهبتُ إلى برونر[5] [...] وقرأت في الصحيفة أن الروس أصابتهم خسارة عظيمة في قفقاسيا".[6]
(2)
1 تشرين الأول/أكتوبر، 1844: "جلست [مع الشيخ علي وصديقه  شهاب[7]] وسمعت – مستغرباً- شهاباً يقول إن الجراكسة انتصروا على أعدائهم الروس. هذه القصة التي أستطعت أن أتأكد من صحتها، أوصلها صديقاي المسلميْن بصلاة ودعاء من القلب إلى الله بأن يعين إخوانهم في الدين ضد الكفار، وكذلك بتعجب تقي وحمد لعظمة الإسلام."[8]
(3)
24 تشرين الأول/أكتوبر، 1844: " بينما كنا نتناول القهوة، ذكر الشيخ علي كيف انتصر الجراكسة على الروس وفتحوا وأخذوا أراضيَ كثيرة منهم. وذكر أيضاً أن شيخاً معيناً اسمه محمد من مكة كان يقود الجراكسة إلى النصر، بعد أن شجعه النبي خلال زياراته الثلاث لقبره. ويُزعم أن هذا الرجل عنده كرامات عظيمة من بينها أنه كان يجعل جيش العدو يظهر وكأنه محاصر بجدار. وهناك قصة تروى بأن الجراكسة استولوا على مدينة تفليس بعد استخدامهم حيلة حربية حين لف كل أفراد الجيش المسلم أجسادهم بجلود الشياه وزحفوا إلى المدينة على أطرافهم الأربعة يقودهم راع وكأنهم قطيع من الخرفان. هذه القصة أثارت حواراً حيوياً، مع أن الشيخ علي كان على ما يبدو يعتبر قصة تنكر الجنود هذه موضوعة."[9]
(4)
20 كانون الثاني/يناير، 1845: "[التنباكجي من الجميلية] كان يتكلم كثيراً ونحن نسير، وسألني فيما لو كانت الأخبار المتعلقة بالحرب بين الروس والجراكسة صحيحة، وفيما لو كان شيخ قد بعثه النبي ليرفع من معنويات الجراكسة وبكرامات عظيمة أدت بهم إلى الانتصار، إلى أخره. كان من الطبيعي أن أوكد له اعتقاده ، وكان مبتهجاً جداً لأن التأكيد جاء مني، بكوني رجلاً من تلك المناطق، وعلى هذا فأنا أكثر علماً ومعرفة من الآخرين."[10]
من الممكن الإشارة إلى أي نصر لأهل الجبال ضد الروس أثار هذه المشاعر، أم هل أنها كانت مجرد موجة من التفاؤل والأماني الفارغة تردد صداها في قلوب القاهريين؟ وكما لاحظنا سابقاً، فإن والين ذكر في 28  من أيلول 1844 أنه قرأ – من المفترض بالألمانية- صحفاً عندما زار الدكتور برونر. الآن، إن عام 1844 لم يشهد أية انتصارات إسلامية مثيرة في قفقاسيا، لذلك فإن تلك المشاعر – إن كانت مبنية على حوادث حقيقة- فهي تشير إلى أحداث العام الذي سبقه.
وفعلاً، ففي نهاية شهر آب/أغسطس 1843، هجم شاميل بعد فترة عام من الهدوء الكامل، وخلال فصل الخريف قاد أكثر عملياته الهجومية نجاحاً. وفي أقل من أربعة أشهر خسر الروس 2620 رجلاً  ما بين قتيل وجريح وأسير؛ و27 مدفعاً، و2152 بندقية؛ و 12 أو 15 موقعاً محصناً، ومعظم المنطقة التي كانوا يسيطرون عليها في أفارستان (في وسط داغستان).[11]  وقد عبر عن هذا جون ف. باديلي بقوله: "لقد كانت حقاً سنة كارثية في روسيا، و سنة نجاح لا مثيل له لشاميل."[12]
وبعد سفر والين إلى هلسنكي مباشرة، في حزيران/يونيو 1850، بدأ بالتجهز لرحلة إلى الجزيرة العربية، ولكنه واجه صعوبات في تحقيق خططه بسبب المنافسة بين الجمعية الملكية الجغرافية (في لندن) والجمعية الملكية الروسية، والتي أدت إلى "سوء فهم" مقصود. كان الروس يريدون إرسال والين إلى أواسط آسيا، مسرح توسعهم الرئيسي في 1850ت، ليجمع لهم استخبارات عسكرية، لكن والين رفض هذا "العرض". وقبل إمكانية تسوية الأمور، توفي والين في هلسنكي في 23 تشرين الأول، 1852.

Central Asian Survey  (2002) 21(3), 279-282


[1]  للاستزادة، انظر بنتي آلتو، الدراسات الشرقية في فنلندا، 1828-1918 (هلسنكي، 1971)
[2]  H. Wentker, Zerstörung der Grossmacht Russland? Die britischen Kriegsziele im Krimkrieg (Göttingen, 1933), pp 206 n. I, 221.
[3]  انظر على سبيل المثال، ترهي رانتانن:
‘Foreign news in Imperial Russia: the relationship between international and Russian news agencies, 1856-1914’, Annales Academiae Scientiarum Fennicae; Disserationes Humanarum Litterarum, No. 58 (Helsinki, 1990), pp 25-31.
[4]  كونتا حاجي قدم الطريقة القادرية الصوفية كبديل عن الطريقة النقشبندية التي كانت سائدة آنذاك في قفقاسيا. انظر:
Anna Zelkina, In Quest for God and Freedom: the Sufi Response to the Russian Advance in the North Caucasus (London, 2000), pp 229-230.
هناك وصف متعاطف لكونتا حاجي في كتاب يوآف كارني:
Highlanders: a Journey to the Caucasus in Quest of Memory (New York, 2000).
[5]  حسب كتاب لافرن كونكه:
Lives at Risk: Public Health in Nineteenth-Century Egypt (Berkeley, 1990), p 31
فإن الدكتور فرانز برونر كان بافارياً متخصصاً في الطب الباطني في الكلية المصرية للطب.
[6] S.G. Elmgren (ed.), Georg August Wallins reseanteckningar från Orienten åren, 1843-1849, Vol. 1-4 (Helsingfors, 1864-1866): ‘[ … ] begaf mig till Prunner, [ … ] last tidningar der jag bland annat såg att Ryssarne lidit stora nederlag i Kaukasus’ (quotation from Vol 2, p 191).
[7]  كان الشيخ علي الندا البراني مدرس العربية لوالين. وبينما كان والين في مصر كان هو ومدرسه يلتقيان تقريباً يومياً لدراسة ألفية ابن مالك. وخلال هذه المدة (1844) ألف الشيخ علي تعليقاً نحوياً على كتاب الرسالة للشبراوي (ت. 1758)، وصحح هذا التعليق جاكو حامين-أنتيلا، وأضاف إليه شروحات غزيرة وسماه: أسمى المطالب لهداية الطالب (Studia Orientalia, No 66; Helsinki, 1989). لا يعرف شيء عن شهاب (الدين) المذكور هنا، وهو بالتأكيد ليس بالشاعر والمصحح الباشا في مطبعة بولاق شهاب الدين محمد إسماعيل (ت. 1857) والذي كان من معارف والين أيضاً.
[8]  النص باللغة الفنلندية، المرجع:
Elmgren, op cit, Vol 2, p 206.
[9]  النص باللغة الفنلندية، المرجع:
Elmgren, op cit, Vol 2, pp 260-261.
[10] النص باللغة الفنلندية، المرجع:
Elmgren, op ci, Vol 3, p 8.
[11] Moshe Gammer, Muslim Resistance to the Tsar: Shamil and the conquest of Chechnia and Daghestan (London, 1994), pp 141-146; N.I. Pokrovskii, Kavkazskie voiny i imamat Shamilia (Moscow, 2000), pp 314-321.
[12] John F. Baddeley, The Russian Conquest of the Caucasus (London, 1908), p 374.