إيمانويل كاراجيانيس
كانت اليونان لعدة سنوات مرادفة للتدهور الاقتصادي والاستثنائية السياسية في أوروبا. فبين عامي 2007 و 2014 انكمش الاقتصاد اليوناني بنسبة 26 بالمائة، الأمر الذي دفع مئات الآلاف من اليونانيين إلى البطالة. وبين عامي 2015 و2019، أرسلت حكومة ألكسيس تسيبراس اليسارية إشارات متباينة إلى بروكسل بشأن برامج الإنقاذ في اليونان. وفي يوليو 2019، سجل حزب الديمقراطية الجديدة الليبرالي ويمين الوسط فوزاً ساحقاً في الانتخابات البرلمانية. وانتخب رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس لإعادة البلاد إلى "طبيعتها"، ولكن بسبب وباء الفيروس التاجي (كورونه)، لا يزال الاقتصاد الوطني في تراجع، والإصلاحات ليست ناجحة دائماً.
ومع ذلك، فإن جواً متجدداً من التفاؤل يجتاح جميع أنحاء البلاد. ومن المتوقع أن ينمو الاقتصاد في عام 2021 بنسبة 4.1 بالمائة. ومن المقرر في السنوات المقبلة أن تقوم شركات أجنبية – مثل مايكروسوفت- باستثمارات كبرى في البلاد. حتى إن وكالة التصنيف الائتماني موديز رفعت تصنيف اليونان في أوائل نوفمبر/ تشرين الثاني، لكن النمو الاقتصادي المتوقع وحده لا يمكن أن يفسر الإيجابية اليونانية. هناك شعور جديد بالثقة الوطنية بعد 10 سنوات من التقشف والإصلاحات المؤلمة التي فرضها الاتحاد الأوروبي على اليونان. وعلى الرغم من صغر مساحتها نسبياً وقلة عدد السكان، فإن لليونان الكثير من الأسباب للشعور بالثقة.
علاقة الطاقة بالأمن في شرق المتوسط
بعد ضم شبه جزيرة القرم والحرب في منطقة دونباس[1]، فإن الحاجة إلى الحد من الاعتماد على صادرات الغاز الروسية أجبرت الحكومات الأوروبية على التركيز على موارد الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث يمكن أن تساهم صادرات الغاز الإسرائيلية والقبرصية والمصرية في تنويع الإمدادات. والموقع الجغرافي لليونان يجعلها جسراً طبيعياً بين شرقي البحر الأبيض المتوسط الغني بالطاقة وبين البلدان المستهلكة للطاقة في أوروبا الغربية. في يناير/ كانون الثاني 2020، وقع وزراء اليونان وقبرص وإسرائيل اتفاقية لبناء خط أنابيب تحت سطح البحر على بعد 1900 كيلومتر لنقل 10 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً.
يعتبر خط أنابيب إيست مد (EastMed) أفضل دليل على الشراكة اليونانية الإسرائيلية الناشئة. وقد عارضت الدولتان طموحات أنقرة الكبيرة في المنطقة. وتسعى تركيا التي يتزعمها رجب طيب أردوغان إلى تعزيز نفوذها السياسي في شرق البحر الأبيض المتوسط واستعادة الشعور بـ «العظمة» للبلاد. وتعتبر أنقرة استكشاف الطاقة ونقلها لعبة محصلتها صفر. ومع ذلك، فإن تركيا بحاجة إلى حلفاء لتحقيق خططها. في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وقعت حكومة الوفاق الوطني الليبية التي تتخذ من طرابلس مقراً لها اتفاقية بحرية مع تركيا مقابل الدعم العسكري لها. ومن المفترض الآن أن يتقاسم البلَدانِ منطقة اقتصادية حصرية (Exclusive Economic Zone/EEZ) تمتد من الشاطئ الجنوبي لتركيا إلى الساحل الشمالي الشرقي لليبيا. وتتنازع المعارضة الليبية وفرنسا واليونان ومصر وقبرص على شرعية هذا الاتفاق. إن اتفاق تركيا مع ليبيا يحقق أمرين: فهو يجعل السياسة الخارجية التركية تبدو أقل أحادية الجانب؛ وهو تكتيك «القانون» ضد اليونان، منافسها الجيوسياسي الرئيسي في المنطقة، التي تدّعي نفس المنطقة الاقتصادية (EEZ).
وعلى أية حال، فإن مشروع خط أنابيب «إيست مد» ممكن فقط بدعم من الولايات المتحدة. إن إقرار الكونغرس الأمريكي لقانون الشراكة الأمنية والطاقة في شرق المتوسط في عام 2019 يبعث برسالة دعم لليونان وقبرص وإسرائيل. وكبديل له، عرضت أنقرة بناء «خط أنابيب سلام» لنقل الغاز القبرصي، وربما الإسرائيلي، إلى الأسواق الأوروبية عبر الأراضي التركية. ولم ترفض قبرص هذا الطريق شريطة أن يكون هناك حل للمشكلة القبرصية يشمل توحيد الجزيرة وانسحاب القوات التركية من الجزء الشمالي، لكن بعد افتتاح الجيش التركي لـ «مدينة الأشباح» في فاروشا[2]، تبدو آفاق التسوية السلمية أبعد من أي وقت مضى.
إن العسكرة المتنامية لشرق المتوسط تشمل بشكل رئيسي حلفاء الولايات المتحدة : إسرائيل واليونان ومصر وتركيا. وهناك حلقة من المواجهة بين تركيا وبقية البلدان يمكن أن تؤدي إلى صراع مسلح. ومن المحتم أن تستخدم الولايات المتحدة نفوذها لنزع فتيل التوترات في هذه المنطقة.
اليونان كقوة متوسطية
من تعزيز الروابط مع خليفة حفتر في الحرب الأهلية في ليبيا إلى تقديم المساعدات بعد انفجار الميناء الأخير في بيروت، اليونان حاضرة بصمت. وهذه المشاركة المتزايدة لا تأتي من العدم، فإن نهاية الحروب اليوغوسلافية في أواخر التسعينيات قد أعاد توجيه الاهتمام اليوناني نحو البحر الأبيض المتوسط. ومن وجهة النظر اليونانية، فإن البحر الأبيض المتوسط مصدر للتهديدات والتحديات.
ونظراً لقربها الجغرافي، فإن أثينا لا تستطيع أن تتجاهل التطورات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد تسببت الحرب الأهلية السورية المستمرة في أزمة إنسانية حادة لا تزال آثارها محسوسة إلى الآن. والواقع أن آلاف الأسر السورية قد وجدت ملاذاً في الجزر اليونانية والبر الرئيسي. وجدير بالذكر هنا أن نقول إن أثينا تدعم التحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، وإن كان ذلك من الناحية اللوجستية فقط.
وبالنسبة لبلد كاليونان يفخر بأنه أصل الحضارة الغربية، فإن موقعه في الاتحاد الأوروبي له أهمية قصوى. وعلى الرغم من انضمام بلغاريا ورومانيا إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2007، إلا أن اليونان لا يزال يشعر بأنه معزول ومنفصل عن بقية دول الاتحاد الأوروبي. هناك خيبة أمل واسعة النطاق لأن معظم الحكومات الأوروبية ليست مستعدة لمواجهة طموحات أردوغان العثمانية الجديدة واستراتيجيته في سياسة حافة الهاوية في المنطقة. وقد دعت الحكومة اليونانية مراراً إلى فرض عقوبات على تركيا. وقد اعترض نظام أردوغان على معاهدة لوزان لعام 1923 التي أرست الحدود الحالية بين البلدين. وعلى الرغم من أن المعاهدة لم تجلب سوى السلام والاستقرار، إلا أن أنقرة قدمت مطالبات إقليمية لا أساس لها ضد اليونان[3]. وفي الوقت نفسه، حاولت أنقرة منع قبرص من استغلال احتياطياتها من الغاز البحري.
وقد استثمرت حكومة رئيس وزراء اليونان كيريوكس ميتسوتاكيس Kyriakos Mitsotakis في شراكات ثنائية للتعويض عن فشل الاتحاد الأوروبي في حماية اليونان. وتقليدياً، حافظت اليونان على علاقات دفاعية وثيقة مع واشنطن وباريس. وكان الأول الحليف الرئيسي لليونان بسبب الروابط التاريخية والجالية اليونانية الكبيرة التي تعيش في الولايات المتحدة. وأما فرنسا فهي أقرب حليف لليونان في أوروبا، حيث يتقاسم البَلَدانِ القيم السياسية والروابط الثقافية. وليس من قبيل المصادفة أن تخطط أثينا لشراء فرقاطات من الولايات المتحدة وطائرات حربية من فرنسا.
وبالإضافة إلى ذلك، صاغت أثينا استراتيجية موازنة إقليمية من خلال التعاون مع الدول المجاورة الرئيسية مثل إسرائيل ومصر. وقد شاطرت كل من إسرائيل ومصر اليونان مخاوفها بشأن الحزم التركي في شرق البحر الأبيض المتوسط، وأثار دعم أنقرة لحماس وجماعة «الإخوان المسلمين» غضب إسرائيل ومصر على التوالي. وعلاوة على ذلك، فقد تواصلت الحكومة اليونانية الجديدة مع الدول العربية الموالية للغرب، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، التي لديها مشاكلها الخاصة مع القيادة الإسلامية الجديدة في تركيا.
ونظراً لموقعها، يمكن لليونان بسهولة نشر أصول عسكرية لجهود الأمن الجماعي في المنطقة. وهي واحدة من دول حلف شمال الأطلسي القليلة التي تنفق أكثر من 2 بالمائة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع. وقد شارك الجيش اليوناني والقوات الجوية في العديد من مهام حلف شمال الأطلسي بما في ذلك في أفغانستان. وقد عملت البحرية اليونانية في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث ساعدت في إجلاء الرعايا الأجانب من لبنان عام 2006 وليبيا عام 2014. وإضافة لذلك، فإن البلاد تمتلك منشآت عسكرية حيوية للأمن الغربي.
وفي هذا السياق، تبني أثينا هوية جيوسياسية جديدة كحصن للغرب في شرق البحر الأبيض المتوسط. وهذا يعني أن البلد قد تكون له مسؤوليات جديدة في إطار التخطيط المشترك بين حلف الناتو وأوروبا بشأن قضايا الأمن الإقليمي. وبالتالي، فإن اليونان قادرة على أن تصبح مزوِّد أمن من شأنه أن يحمي المصالح الغربية في منطقة مضطربة بشكل دائم.
--------------------------------------------------------------
إيمانويل كاراجيانيس أستاذ مشارك في قسم الدراسات الدفاعية في كلية كينجز كوليدج لندن.
المصدر:
The Silent Rise of Greece as a Mediterranean Power, Emmanuel Karagiannis
16 November 2020
https://rusi.org/commentary/silent-rise-greece-mediterranean-power
[1] دونباس Donbass منطقة تقع في شرقي أوكرنيا وجنوب غربي الاتحاد الروسي، وهي منطقة ذات طابع تاريخ وثقافي واجتماعي واقتصادي متميز. (المترجم)
[2] فاروشا أو مرعش، كما يسميها الأتراك، ضاحية سياحية في جنوبي مدينة فاماغوستا في قبرص التركية. (المترجم)
[3] تركيا لها وجهة نظر مختلفة، انظر: على مرمى حجر من تركيا... كيف أصحب هذه الجزر يونانية؟ موقع عربي 21 (المترجم)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق