ولكن ليطمئن قلبي
طارق مصطفى حميدة
(فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب فقعد
إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكى ذلك إلى الراهب فقال الراهب إذا خشيت الساحر فقل
حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر)،
إن الدين ليس فقط لحظة الاندهاش الأولى،
بل هناك تربية وتثقيف وإعداد مستمر لهذا الغلام، كي يصير حاملاً للفكرة داعياً
إليها، لا مجرد معجب بها أو مؤمن بها في نفسه، وبالتالي فقد كانت هناك حاجة
للقاءات متكررة كلما ذهب الغلام إلى الساحر، وقد كان من ذكاء الراهب وحكمته أنه لم
يعين مواعيد خاصة للقاء الغلام سوى ما يكون أثناء ذهاب الغلام وإيابه، كيلا يلفت
الانتباه فيقع المحذور.
إن لقاءات الساحر بالغلام تتم بشكل منظم
وبمواعيد صارمة، وهو أمر محمود في كل شيء، الاهتمام بالوقت والانضباط بشأنه
وتنظيمه واستغلاله على الوجه الأمثل، لكن لماذا الضرب؟ لا شك أنها القسوة
والإكراه، فليس للغلام في قلب الساحر أي محبة ولا لغيره، فكل الذي يعنيه في الأمر
مصلحته الشخصية. والغريب أو اللافت أن الغلام لم يبح بالسر للساحر وكان بإمكانه أن
يفسر له سبب تأخره، ولعل الضرب قد تكرر بمعنى أنه حاول أن يعالج الموضوع وحده، وهو
يلوذ بالصمت. إنه لم يخبر الساحر لمَ يتأخر أو أين يتأخر، والمؤكد أن الساحر سأله
قبل الضرب وبعده ما يعني أولاً حب الغلام للراهب وتحذير الراهب للغلام من أن يكشف
السر لأحد وبالذات للساحر، والمتوقع أن الراهب قد أخبر الغلام بسر اعتزاله المجتمع
مع حرص الراهب أن يظل أمره مخفياً.
من الطبيعي أن يتأخر الغلام على الساحر
فإنه يخرج من البيت في ساعة يكون الوقت كافياً ليصل الساحر في الموعد، فإذا جلس
إلى الراهب لبعض الوقت، كان ذلك على حساب موعده مع الساحر، وكذلك سيكون طبيعياً
تأخره على أهله لأن موعد انتهاء لقائه مع الساحر معروف للأهل، فإذا جلس إلى الراهب
وهو عائد فلا بد أن يتأخر عليهم.
إن من غير المعقول ولا المقبول أن يلتزم
الغلام الصمت مع تكرر مساءلته وضربه فربما تعرض لتعذيب أكبر يضطره للكشف عن سره،
ومن الواضح قبل ذلك أن الساحر لم يتوقع أن يكون تأخره مرتبطاً بلقاء الراهب.
إن "الغلام يشتكي إلى الراهب هذا
البلاء شكوى الذي يعاني من مشكلة تعوق انطلاقه واستمراره، ولم تكن شكوى الذي يقدم
المعاذير ليتخلى ويتراجع، والحاسة السليمة للدعاة هي التي تكشف علة أي شكوى"[1].
كان الكلام السابق أن الغلام يأتي
الراهب وهو ذاهب إلى الساحر لكن قول الراهب للغلام: ( وإذا خشيت أهلك )
يعني أن الساحر قد قرر أن يبدأ، أو أنه كان قد بدأ فعلاً، بمزيد من اللقاءات
التربوية التثقيفية للغلام لمضاعفة الجرعة ولمسح وإزالة آثار تعليم الساحر والرد
على باطله.
أما لماذا يخاف أهله، وهل تراهم يشكلون
خطراً حقيقياً على الغلام والدعوة والاستمرار؟ إن الأهل وإن لم يكونوا بالضرورة
أعداء للغلام، فإن حرصهم على ابنهم وخوفهم عليه وعلى أنفسهم من النظام، يجعلهم في
غاية الحرص على عدم الاصطدام بالنظام أو التعرض لعقوبته ولذلك لن يقبلوا بلقاء
ابنهم بالراهب.
لماذا يطلب الراهب من الغلام أن
يكذب؟ الكذب هنا جائز بل هو إلى الوجوب
أقرب، حرصاً على الدعوة والدعاة أيضاً من الأعداء، لكن " ليحذر كل من
يمارس الدعوة من الخروج عن حدود النصوص التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم في
جواز الكذب حتى لا تتسرب تلك الصفة إلى طبيعته فيكتب عند الله كذاباً ويفقد أقوى
إمكانيات التأثير على الناس إذ إن الثقة في الداعية هي باب الإيمان بالدعوة وأساس
التحرك فيها ولهذا فإن أول كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته كانت
لتأكيد أساس الثقة فيه فقال: ( هل إذا قلت لكم إن الجيش مصبحكم. هل تصدقوني قالوا:
نعم لأننا لم نجرب عليك كذباً قط قال: إني نذير بين يديّ عذاب شديد)"[2].
وهذا يدل أيضاً على أن الراهب حريص على
ألا يتعرض الغلام في بداياته، وهو يمثل فسيلة ضعيفة، للرياح العاتية التي يخشى أن
تقتلعها وتقتلع معها اليد الغارسة لها، كي تنمو وتكبر بهدوء، مع أنه في الواقع قد
بدأ يلاقي مستوى معينا ً من البلاء؛ " وهذا الضرب يمثل بالنسية للغلام بلاءً
وامتحاناً إذا راعينا أنه غلام صغير. ولكن الله تبارك وتعالى يريد أن يتربى هذا
الغلام - من البداية - تربية حقيقية كاملة ويريد أن يكون ارتباطه بالدعوة متفقاً
مع طبيعتها لأن هذا الغلام سيكون منطلقاً أساسياً لتلك الدعوة، وسيكون دليل الناس
إليها... لذا كان لابد من أن يكون شخصية متكاملة بمعنى التكامل الشخصي للدعاة
والذي لا يتحقق ولا يتم إلا بالاستعداد للبلاء والصبر عليه عندما يقع.
" فطبيعة التلقي لهذا الدين هي
التي تحدد طبيعة اعتناقه والالتزام به والدعوة إليه، والذين يتلقون هذا الدين على
أنه بلاء، هم الذين يبقون إلى النهاية، وأخذ هذا الدين بقوة هو ضمان الاستمرار
عليه.
" وبذلك أراد الله تبارك وتعالى أن
يتفق تكوين هذا الغلام مع طبيعة الدعوة وأن لا تشذ شخصيته عن تكاليفها فابتلاه
الله في لحظات التكوين ووقت النمو وفترة التربية فصدق وصبر[3]".
(فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة
عظيمة قد حبست الناس فقال : اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً
فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضى
الناس، فرماها فقتلها، ومضى الناس):
والسؤال الذي يتبادر: هل كان أمر الساحر
ليختلط على الغلام حتى إنه ليشك أي الرجلين أفضل؟ بل أيهما أمره أحب إلى الله
تعالى؟
من الواضح أن الساحر كان يزيف وعي
الغلام مقنعاً إياه بأن الملك ونظامه هو الحق والخير وأن ما عداه وما خالفه شر
وباطل، لا بل إنه، وكما يستفاد من النص، يسعى إلى إقناع الغلام بأن الملك أحب
وأقرب إلى الله تعالى ودينه، وهي التي فيها مصلحة الناس، ما يعني أن مهمة الغلام
في خدمة الملك وتثبيت أركان حكمه وتزييف وعي الجماهير هي مهمة مقدسة.
ونحن نلاحظ حرص الأنظمة المعاصرة مثلاً
على التستر بالدين، وادعاء الانتساب إليه، وأنهم نسل أنبيائه، ودعاة دينه، ومطبقو
شرعه، وحماة مقدساته، وخُدام مساجده... والتركيز على أن معارضي هذه الأنظمة،
وبالذات الدعاة الحقيقيون، هم أعداء الدين المتسترون به، وهم أهل التطرف والإرهاب.
إن هذا الاختلاط لدى الغلام بسبب تزييف
الساحر لا يعني أنه كان محتاراً، بل كان الراجح لديه والأقرب إلى قلبه ومشاعره،
فضلاً عن عقله، هو الراهب، وهذا ما نلحظه في دعائه، فإنه قال: ( اللهم إن كان أمر
الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة)، ولم يقل العكس : اللهم إن كان
أمر الساحر أحب إليك من أمر الراهب، فالأقرب إلى حب الله تعالى، كما يترجح لدى
الغلام، هو أمر الراهب، ولذلك فالموضوع كما يبدو هو من قبيل: ولكن ليطمئن قلبي.
( حتى يمضي الناس): إن المحك
الحقيقي والمصداقية لأي فكرة أو مبدأ ليس مقدار ما فيه من البهرجة وحسن الصياغة
والبلاغة، بل بأثرها وواقعيتها وفاعليتها وإيجابيتها في حياة الناس، وقدرتها على
معالجة مشكلاتهم وقضاياهم، وكذلك الأمر بالنسبة لحَمَلة الدعوة فإن عنوان صدقهم
وإخلاصهم وبرهان مشروعيتهم، هو تبنيهم لقضايا الناس والسعي لحل مشاكلهم وانغماسهم
في الجماهير، وليس مجرد التنظير. لقد جمع الغلام بين قضيتين متلازمتين: الفكرة
ومَن يحملها، حيث أراد أولاً أن يستيقن أي الرجلين أفضل الساحر أم الراهب، وكذلك
أي الفكرتين والطريقين أحب إلى الله: أمر الراهب أو أمر الساحر.
ومما يستوقف هنا حديث الغلام عن ( أمر
الراهب) و ( أمر الساحر)، والأمر في اللغة الشيء الخطير العظيم الشأن، فالغلام يعي
ويدرك تماماً أن ما يسمعه من الساحر، وكذلك ما يسمعه من الراهب، أمران عظيمان
شأنهما خطير، وهذا بالطبع لأن العمل لدى الملك لتثبيت نظامه ليس بالأمر العادي،
ومثله بل أعظم منه وأخطر، الدين الذي يتعلمه من الراهب، ودعوة التوحيد التي يراد
تحرير الناس، ولذلك فإن الغلام لم يكن يريد قتل الدابة لمجرد القتل، ولكن ليتيقن
من أحقية أمر الراهب من جهة، ومن جهة أخرى لأنه معنيُّ بإنقاذ الناس.
( فرماها فقتلها ومضى الناس)
لقد مضى الناس وهم بالتأكيد ينظرون إلى هذا الغلام نظرة إكبار وإعجاب وحب وتقدير،
وكانت بداية لفت الأنظار إليه ليس باعتباره الساحر القادم للملك، بل باعتباره
منقذاً للناس من خطر عظيم داهم، حيث أزاح عن كاهل الجماهير هماً ثقيلاً، وفي بعض
روايات الحديث:" فقال الناس: من قتلها؟ فقالوا: الغلام، ففزع الناس إليه،
وقالوا: قد علم هذا الغلام علما لم يعلمه أحد".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق