الدعوة في بلاط الفرعون
طارق
مصطفى حميدة
(وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص
ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة،
فقال: ما ههنا لك أجمع، إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدا. إنما يشفي الله. فإن
أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك. فآمن بالله. فشفاه الله).
بعد الإعلان الجماعي الذي عرّف بالغلام،
صار له حضور في تخفيف معاناة الناس بمداواتهم أولاً من الأمراض المستعصية
كالبرُصان والكُمه الذين ولدوا عمياً حيث يندر شفاؤهم لتلفت النظر إلى ما عند هذا
الغلام مما ليس عند غيره.
وكما تطور إيمان الفتى، فإن دعوته
وانتشاره يتضاعف حتى يبلغ أمره جليساً للملك، وهو كما سيأتي الخيط المؤدي لظهور
الدعوة والانكشاف أمام قمة هرم السلطة وبالتالي وقوع الابتلاء الذي نبه إليه
الراهب.
من الواضح أن الغلام وهو يداوي المرضى
ويعالجهم كان يشترط عليهم ألا يكشفوا أمره بدليل أن الجليس سمع عن الغلام كطبيب
معالج أو كساحر يشفي من الأمراض المستعصية، لا كداعية للإيمان، ولذلك أتاه بهدايا
كثيرة، والجليس نفسه سيُعذب حتى يُضطر إلى كشف الغلام، ولم يبادر إلى الإخبار عن
الذي يعلمه الدين من تلقاء نفسه، كما بادر بالإعلان عن إيمانه.
إن مشكلة الطب أن القادرين وكبار القوم
هم من يستطيعون الوصول إلى أمهر الأطباء وأفضل المستشفيات، الأمر الذي لا
يتوفر لعامة الناس، والمعتاد أنهم يصلون
إلى هؤلاء قبل الفقراء والعامة، وأما في حالتنا هذه فقد وصل العلاج والدين إلى
العامة قبل كبار القوم.
وفي كلام الجليس أن المريض وذا الحاجة
على استعداد لدفع كل ما يملك، ولتقديم الغالي والنفيس لأجل حصول الشفاء، ذلك أن
صاحب الحاجة أرعن كما يقال، وإذا كان أصحاب المبادئ الهدامة والغايات الدنيئة
يستغلون ذلك في نشر مبادئهم وتحقيق مصالحهم، فإن المؤمنين الدعاة أصحاب الحق أولى
بأن يسعوا في حل مشاكل هؤلاء وتخفيف معاناتهم.
واللافت أن الجليس لم يصله خبر الغلام
بأنه يدعو إلى الإيمان بالله بل بلغه أن الغلام يعالج أو بحسب حلمه وأمنيته أنه
كان يشفي، حيث يتحرك بين الناس بالدعوة مستفيداً من تقديمه خدمة العلاج للناس،
متستراً من الحكومة بهذا الأمر وبكونه ساحر الملك.
(إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله
تعالى):
الإخلاص لله تعالى، وعدم تقديس الذات، ومن جهة أخرى تعزيز عقيدة أن الشافي هو الله
تعالى وحده ( وإذا مرضت فهو يشفين)، إن الغلام "يداوي" لكن الشافي هو
الله تعالى وحده.
(فآمن بالله فشفاه الله):
وكأنه لصدقه وإخلاصه في إيمانه شفاه الله تعالى حتى قبل أن يدعو له الغلام
بالشفاء، وتأكيداً على حقيقة أن الشفاء فقط بيد الله تعالى.
وتفيد هذه القصة مثل ما أفادت قصة
سحرة فرعون ألا نيأس من إمكانية هداية الناس
مهما بلغ عداؤهم للدين أو قربهم من الطغاة، لا بل حتى الفراعنة أنفسهم فإن الدين
قد جاء لينقذهم من شرور أنفسهم، لقد آمن الغلام الذي أُعد ليكون ساحر الملك، ومن
بعده آمن جليس الملك.
هل يجوز اشتراط الإيمان قبل العلاج؟
أولاً: لقد آمن الغلام نفسه دون خارقة
ودون " جائزة"، كل ما هنالك أنه سمع كلام الراهب فأعجبه، وأغلب الظن أن
الغلام قد تحرك في الناس بالطريقة ذاتها التي كانت سبب إيمانه، ولكن مداواة الناس
كانت مهمة كي تسهل تحركه بينهم وتكون العلاجات الخارقة دليلاً على صدقه عند من
يحتاجون إلى أدلة مادية، وكذلك فإن الخوارق مهمة لشدة طغيان النظام، فيحتاج
المؤمنون إلى ما يثبت إيمانهم في مواجهة شدة بطش الملك وجبروته وتفننه في تعذيب
المؤمنين، وحالة الجليس بما فيها من علاج خارق للعمى بمجرد الإيمان تؤكد أهمية
الخارقة في تحمل وتقبل التعذيب ومن بعده القتل.
وبالتالي فليس في هذا الموقف دليل لمن
قد يظن أن بإمكانه اشتراط إيمان الناس، حتى يقدم لهم ما يحتاجونه من غذاء وعلاج أو
أية معونات أخرى، ولم يكن هذا أسلوب المسلمين في الدعوة قديماً ولا حديثاً.
( فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس.
فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله.
فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام):
حضر الجليس عند الملك دون قائد ولا عصا،
وجلس إليه كما كان يفعل قبل أن يصاب بالعمى، وكان من الطبيعي أن يسأل الملك هذا
الجليس: من رد عليك بصرك؟ أي طبيب نطاسي بارع ذاك الذي أعاد إليك بصرك؟ فقال
الجليس ربي، فيسارع الملك مستهجنا هذا الكلام: أولك رب غيري؟
الملك يقول: إن كل خير يأتيك أو يأتي
غيرك في المملكة، مباشراً كان أو غير مباشر، فأنا وراءه وأنا ربكم وهذا يقتضي أن
أكون أنا إلهكم ومعبودكم.
( ربي وربك الله):
الله خالقي وخالقك، المنعم عليّ وعليك،
والملك لم يكن ينكر وجود الله تعالى، ولذلك لم يسأله من هو الله؟ ولم يقل له أين
الله، وقلّ من يوجد في الواقع والتاريخ من ينكر وجود الله تعالى أو يجادل في
الخالق سبحانه، وهذا القليل في مراحل متناثرة من التاريخ منها ما كان بعد انتشار
الشيوعية في العصور المتأخرة، أو من أطلق عليهم الزنادقة في بعض عصور التاريخ
الإسلامي، أو غيره، وهم في إنكارهم مكابرون لا جاهلون.
ربي وربك الله... لست الرب، أيها الملك،
فأنت مثلي وأنا مثلك، أنا وأنت عبدان لله الواحد القهار، إنها كلمة السر إذن في حرب
الفراعنة والطغاة، ضد الدين، ضد التوحيد، ضد الإيمان الحق؛ فالملوك يريدون أن
يتألهوا على الناس ويتسلطوا على رقابهم، يملكوهم ويملكوا الأرض التي يحكمونها بكل
ما عليها ومن عليها استعباداً وتسخيراً، ولذلك فالحرب الشعواء الضروس سببها أن
المؤمنين الموحدين يرفعون رؤوسهم أمام الفراعنة المتألهين ويصرخون في وجوههم أننا
وإياكم عبيد لله تعالى.
( فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على
الغلام):
فأولاً تتجلى شدة قسوة النظام الكافر، وأنه لا
يهمه أحد مهما كان قربه منه، فهذا الرجل جليس للملك أي أنه ليس فقط مجرد مسؤول
كبير من أعوان الملك وأركان حكمه، بل هو إلى ذلك يكثر الجلوس إلى الملك، ما يعني
أن الملك يكثر مجالسته ويستريح إليه ويكثر استشارته لكونه يستفيد منه، لكن ذلك كله
لم يكن ليشفع له، فعندما ذكر للملك بأن الله تعالى هو ربه ورب الملك لم يحتمل ذلك
منه فأوقع عليه أشد العقاب.
ترى هل تسرع الجليس بإعلان إيمانه أمام
الملك وتحديه بأن الله ربهما جميعاَ، أوَما كان يسع الجليس التعريض والمداورة؟
أرى، والله أعلم، أن هذا الأمر قد تم
بوعي وفهم وبتنسيق مشترك بين الجليس والغلام، ونحن لا نتحدث عن شخص مغامر فالجليس
يفترض فيه أنه رجل سياسي محنك ويدرك خطورة أن يكلم الملك بهذه الطريقة، ومعنى
ذهابه إلى الملك أنه ذهب قاصداً إيصال الدين إليه وتحديه به كأنما قد حان وقت: (
اذهب إلى فرعون إنه طغى).
لقد أخذت الدعوة حظها من التحرك بين
الجماهير، وصار لزاماً أن تواجه الفراعنة فهم السدود والحواجز المانعة من إيمان
الناس، ثم إن من حق الملك وكبراء الدولة على الدعاة أن يبلغوهم دين الله فلعل
أحدهم أن يتذكر أو يخشى، فيؤمن بإيمانه خلق كثير، وإلا فقد قامت عليه الحجة، ولم
يبق له عذر أمام الله تعالى.
"ويجب ألا يمنع الاستضعاف ضرورة
المواجهة بين الدعوة والحكم الظالم وليس في تلك المواجهة دون اعتبار للإمكانيات
المادية - أي تهور، ولهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن سيد الشهداء من يقوم
إلى حاكم ظالم يأمره وينهاه، وهو يعلم أنه سيقتله فقال: (سيد الشهداء حمزة ورجل
قام إلى إمام ظالم فأمره ونهاه فقتله)
لأنه أكد مايؤكده الشهداء بقتالهم الكافرين أصحاب القوة والسلطان ويزيد
عليهم أن الشهداء كانوا يقاتلون باحتمال النصر أو الشهادة، وهو يواجه باحتمال واحد
وهو الشهادة"[1].
كان العذاب شديداً وقاسياً ومستمراً
وفوق قدرته على الاحتمال، والجليس بقدر ما كان معنياً بإعلان إيمانه، فإنه وفي
الوقت ذاته كان حريصاً على عدم الكشف عمن علّمه الإيمان والتوحيد، وإلا لكان اعترف
به دون حاجة إلى كل هذا التعذيب، هذا يعني أن الغلام قد أوصى الجليس بما أوصاه
الراهب ألا يدل عليه إذا ابتلي، وبعض العاملين للإسلام قد يصفون هذه الحالة بأنها:
علانية الدعوة وسرية التنظيم.
ويلفت الانتباه هنا: الاستمرار بالنشر
حتى يسقط شقا الراهب والجليس، ذلك أن الشخص لا يلبث أن يموت بعيد وصول المنشار إلى
دماغه، فلماذا يستمر النشر حتى النهاية؟
إنه الحقد الشديد على أهل الإيمان،
مصداق قوله تعالى: ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد)، حيث إن
إيمانهم بالله العزيز الحميد، يجعل رؤوسهم في السماء، فيرفضون المذلة، ويستعلون
بإيمانهم، ويأبون الخضوع لأمثالهم من العبيد، فيغتاظ منهم الطغاة المتألهون،
والذين فقدوا كل معاني الإنسانية، وصاروا إلى التوحش أقرب، فلم يبالوا أن يشقوا
المؤمنين بالمناشير أو أن يحرّقوهم بالأخاديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق