الراهب يسلم الراية للغلام
طارق مصطفى حميدة
( فأتى الراهب فأخبره):
ثقة وحب وتواصل، بين التلميذ وأستاذه، بين الداعية ومرشده، بحيث لا يكاد يمر
بالغلام أمر إلا ويخبر به الراهب، وقد رأينا من قبل كيف اشتكى إليه ضرب الساحر.
( أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من
أمرك ما أرى): من الواضح أن هذا الراهب على درجة عالية من الإخلاص لله
تعالى، فلا يجد غضاضة في أن يقول للغلام إنه أفضل
منه، بمعنى أنه أقدر على العمل للدين منه، وأنه أقرب إلى الله منه، حتى
وقعت على يديه تلك الكرامة، وكأنه يسلمه قيادة الدعوة ويتراجع خطوة إلى الوراء
مقدماً الغلام على نفسه، لكنه في الوقت ذاته يضع علمه وخبرته بين يدي الغلام،
فيعرفه أنه سيبتلى.
إنه ينظر إليه كابن له وليس مجرد تلميذ،
والوالد لا يضيره أن يتفوق عليه ولده لا بل إنه ليسعد بذلك، بل هو يعمل لهذا الهدف،
وهذا فرق جليّ بينه وبين الساحر الذي يتعامل بالقسوة والضرب ويخشى المنافسة حتى
لقد أخر البحث عن وارث إلى قرب نهاية حياته.
(أنت اليوم أفضل مني):
وهو درس للكبار والصغار، للآباء والأبناء، للمعلمين ولتلاميذ، للقادة والجنود، أن
فرق العمر والخبرة لا يعني الأفضلية بالضرورة، فربما يلهم الله تعالى الأصغر ما لم
يلهمه الأكبر، وفي التنزيل: ( ففهمناها سليمان)، وقد كان الصحابة يشيرون على
الرسول عليه الصلاة والسلام، إن لكل شخص طريقته في التفكير وخبراته الخاصة وتجاربه
المختلفة وقد رأينا خبرة سلمان الفارسي في اقتراح الخندق، فضلاً عن أن موضوع
الإخلاص والصدق مع الله تعالى يحلق بصاحبه في الأعالي، ويفتح عليه ما لم يفتح
للقادة المربين الذين سبقوه.
والدرس المطلوب: أن يفسح الكبار والمربون والقادة، المجال
الكبير لمن تحت إشرافهم كي يدلوا بدلوهم ويظهروا مواهبهم، كما أن المطلوب من الجنود
والمرؤوسين والتلاميذ ألا يستصغروا شأنهم وألا يتهيبوا طرح رؤاهم وأفكارهم على من
يكبرونهم، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مختبراً من حوله:( إن من
الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر
البوادي، قال عبد الله بن عمر: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت ثم قالوا: حدثنا
ما هي يا رسول الله ؟ فقال: هي النخلة، قال: فذكرت ذلك لعمر فقال: لأن تكون قلت هي
النخلة أحب إلي من كذا وكذا )، وفي هذا تشجيع لولده أن لا يمنعه الحياء من إظهار
مواهبه أمام من هم أكبر منه سناً.
إن قول الراهب للغلام: أنت اليوم أفضل
مني، يفيد المربين ألا يظنوا بأن من تحت أيديهم سيظلون على الحال التي التقوهم
فيها أول مرة؛ فإن مرور الأيام وتطور الجنود والمرؤوسين والتلاميذ مستمر دون توقف،
وقد تحصل قفزات كبيرة جراء بعض التحديات، وما يمكن أن يمن الله به على أهل الصدق
والإخلاص من السائرين الجدد، ما يستدعي من الكبار ألا يجمدوا عند مواقفهم الأولى.
وقد كان لافتاً توجيه الإمام عليّ رضي
الله عنه، المربين أن لا يكرهوا أبناءهم على ما تربوا عليه لأنهم خُلقوا لزمان غير
زمان الآباء، فالتحديات التي تواجه الأبناء غير تلك التي واجهت الآباء، والجيل
الجديد أسرع تكيفاً وأكثر استجابة للجديد، لذلك من المناسب أن يُعطَوا زمام
المبادرة في وجود الكبار، فيتدربوا على اتخاذ القرارات ويجري توجيههم وتصويبهم
وإرشادهم.
وأمر آخر ما ينبغي تجاهله؛ وهو حديث
الغلام للراهب ورد الراهب عليه، الغلام يقول للراهب أنه قد تأكد له أنه أفضل من
الساحر، وأن أمره وطريقه أحب إلى الله من أمر الساحر، لكن الراهب لم يجعل من ذلك
دليلاً ليزيد من رصيده لدى الغلام ويضاعف من تعلقه به وخضوعه له، فكل الذي يعنيه
هو أن أمره وطريقه أحب إلى الله، ولم يفكر في ذاته، ولذلك التقط من القصة ما هو
أهم، وهو أن الغلام أفضل عند الله منه في الدعوة إلى الدين وحمل الدين، وأخبره
بواقعه وحقيقة أمره وما حباه الله تعالى، ليعرف قدره وفضل الله عليه ومواهبه
وإمكانياته ليسير على هدى من ذلك.
( وإنك ستبتلى فإن ابتيت فلا تدل عليّ)
إنها التهيئة والإعداد للتحديات
القادمة، لا لأجل أن يقحم نفسه في البلاء؛ فالمؤمن ليس بالمتهور، ولا يغتر بل يسأل
الله تعالى العافية، كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد لاحظنا كيف أن
الراهب كان حريصاً على تجنيب الغلام الصدام والتحديات؛ فلقاءاته به كانت تتخفى
وتتستر بذهاب الغلام وإيابه، ولم يكن يرتب
له مواعيد خاصة، كما أنه نصحه بل أمره بالكذب على الساحر وعلى أهله، كيلا يكلف
الغلام فوق طاقته أو يعرضه لابتلاء لا يحتمله ويودي بالدعوة وبهما جميعا.
إنك لا بد حين تبتلى ستُسأل من أين أتيت
بهذه العقيدة؟ ومن علمك هذا الدين؟، فلتحرص على ألا تكشف السر، وذلك ضمانة لعدم
إلقاء القبض على الجميع، وحتى يظل الراهب متوارياً عن الأنظار يتحرك بالدعوة سراً
بعيداً عن الأضواء والضوضاء، فالحفاظ على الدعوة يقتضي الحرص على ألا تنكشف حلقات
التنظيم للأعداء.
أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين
يلونهم؛ وقد لاحظنا كيف أن بلاء الغلام أشد من بلاء صاحبيه فقد رأى ما أصابهما،
كما عذب من قبل، كما أن التهديد المتواصل والتخويف حتى ذروة الجبل ثم في عُرض
البحر، ولا ننسى أن الابتلاء بالإغراء والترغيب لا يقل شدة إن لم يزد، عن الابتلاء
بالتعذيب والترهيب، فهو الشاب الذي ينتظره المستقبل الباسم والقرب من الملك والعمل
ساحراً له، فيما الراهب والجليس كبيران في السن وليس لديهما طموح كبير أو مستقبل
باسم كالذي ينتظر الغلام، ولذلك فالامتحان أبلغ وأقوى.
وقد من حكمة الراهب أن بين للغلام حقيقة
وضعه ومستواه الإيماني بعدما رأى تلك الكرامة الخارقة، فقول الراهب للغلام: أنت
اليوم أفضل مني، قبل قوله: وإنك ستبتلى، يتضمن أنه بما بلَغه من الإخلاص والإيمان
سيُعان على تجاوز الابتلاء والنجاح فيه، كما يتضمن أن الله تعالى الذي أعانه
بالكرامة الخارقة لا بد سيمن عليه بالعون على تجاوز البلاء، وسيظهر أن البلاء
الحقيقي ليس في الكشف عن " خيوط التنظيم"، ولكن في الثبات على الدين.
وقد بدأ الراهب بأداة التوكيد وثنى
بأداة الشك:( وإنك ستبتلى ... فإن ابتليت)، لئلا يقع الغلام في
الكرب قبل وقوعه فيصيبه الجزع، كما ألمح إلى ذلك صاحب كتاب دليل الفالحين شرح رياض
الصالحين، ففي الوقت الذي أكد الراهب أن الغلام لا بد سيلقى البلاء فهذه هي سنة
الله تعالى إلا أنه لم يشأ أن يملأ قلب الغلام بالخوف ولا نفسه بالجزع، بل فقط
المطلوب هو التهيؤ والاستعداد، ولذلك استخدم أداة الشك ( فإن ابتليت ): وكأن
البلاء احتمال ضعيف.
ولعل بعض الدعاة وهو يريد إعداد تلاميذه للبلاء
القادم، تراه يوقعهم في اليأس والجزع من شدة ما يصور لهم الأهوال التي تنتظرهم،
وبطريقة توحي لهم أنهم لن يتجاوزوها.
( فإن ابتليت فلا تدل عليّ):
إنك حين تبتلى لا بد ستُسأل من أين أتيت بهذا الكلام ومن علمك هذا الدين ولقنك تلك
العقيدة، فلتكن حريصاً على ألا تكشف السر وذلك حفاظاً على الدعوة بسلامة قادتها
وأفرادها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق