بسم الله
الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله -
وحده-، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد،
والمتأمل
الحي في واقع المسلمين - اليوم- يصيبه كمد وكبد لا يدفعان، يتجرّع من كأس الذل
والخيبة كلما طلعت عليه الشمس وغربت...!
مخالفات
شرعية طغت يعسر حصرها...!
آلام وآهات تحيطه...،
ولا أنيس ولا نصير...!
ثورات موءودة...!
وذمم مشتراة مبخوسة...!
فتن ترقق
بعضها بعضا...!
يقف الحليم
فيها حيرانا، كأنّ به مسّا من جنّ أو جنون ! له أصحاب يدعونه: (إلى الضلالة ائتنا)
!
يستلهث حميما
أو نصيرا...، ولا يلقى إلا حرمانا وخسرانا...!
هذه زفرة
مكلوم، وعبرة مهموم، على وطن يتفسخ...!
تتقاطع
توجهات أبنائه؛ فتعجز قواهم عن إعادة بنائه...!
وتتصارع
رغبات الطامعين فيه، وتقعد عن نيل المعالي هممُ بنيه...!
وتُعمل
معاولَ الهدم سواعدُ قاطنيه...!
هذه نفثة
مصدور، وزفرة مكلوم، قد يشم منها ذوو الحسّ رائحة كبد تحترق، ولشدّ ما تغيرت في
زمن قصير أفئدةُ رجال !! وتبدلت منهمُ أحوال !! ولفت شمس اليقين في أكفان سحائب
الضلال !! وسكن القلوب حزن صديق، وغشى على العيون رماد متخلف من بقايا محترق
الآمال...!!
والحال كحال
من مدّ يده ليجلو عن عروسه، فتكشّف له قناعها الموشى عن جمجمة ميت...!!
وحده الرجاء
في الله، يلتقي فيه الألم بالأمل، كالفجر تلتقي عنده حاشية النهار بأهداب الليل...
لقد صار الحق
الذي لا يعشو عن نوره سارٍ لا يرى، بل يتوهم...!! ولا يُستيقن، بل يُظن...!!
فلأمْسِكْ على
قلبي أن يطير...، وما أملِك أن أقولَ:
يا هذا لا
أدري ما تقول ؟! ولكن التي أعرفها أن نفس الإنساني إذا اتسخت؛ كان كلامه في حاجة
إلى المآء والصابون...، وهيهات...!!
يا هذا إنك
تعطي مثلا حيا لقوة البلاغة عندما تتصدى للدفاع عن باطل...!!
أفيبلغ من
غفلتـ(ــك!): أن لا تعرف لعنة الله؛ إلا إذا رأيتها مِلئ مملكة...!!
ولا تعرف حق
وطنك فيــ(ـك!)، إلا حين تراه غريبا منقطعا...؟! لا حق له في واحد من أهله...؟!
ولا تدرك
واجب التضحية بلذاتــ(ــك!) وشهوات نفســ(ــك!)؛ إلا بعد أن ترى الوطن من اضطراب
الموت، في مثل الذبيحة تضحض برجليها تحت سكين الذابح...؟!
أي إنسان هذا
الذي يتخذ من المأساة مسلاة...؟!
أي قلب هذا
الذي يصفق طربا في مأتم الدموع والجوع...؟!
وفي هذه
البيئة التي تلهث فقرا، وتتنفس حرمانا ومرضا...؟! كثيرا ما تصطدم بالأكراش
المنتفخة، والأقفية العراض، وأكثرهم يتحدثون عن الفضيلة كما تتحدث الخاطبة عن عروس
لم ترها...؟!
وقد غرب مجد
الريف، وجاء عصر الشهادات(!)، يحملها بعض أبناء السِّفْلة...!! ومناقشة أكثرهم
متعبة، يروغون عن التطويق بالتهريج...!! ويحلمون بالطيران وهم غرقى في
الأوحال...!!
إن الهموم قد
استولت؛ فربطت أقداما مسرعة، وطوت أشرعة مبسوطة، وأثقلت أجنحة لا طالما رفرفت...!!
ولكن....
إنه لا ييئس
من روح الله إلا القوم الكافرون...!!
وإن عقد
الإسلام لا ينحلّ بكثرة الآثام...!! وترتفع ألف حوبة بـ (توبة)...!!
وما أكثر
القلوب اتي استُلبت، يتكلم حاملوها؛ ليثبتوا أنهم أحياء ....!!
بلى...، إنهم
أحياء يهذون، شدّ ما يهذون...!!
ما أفظع
النفس إن خانت صاحبها...!!
إن الحياة
تبدو متلفعة بثوب حداد، والعالم كأنه ملتقى خرابات يستعذب عنه الرحيل...!!
ما أعظم
الخداع...!!
إن العين
لتجد نوعا من الشبه بين (بشرة المختنق) و(أنين السماء الصافية)، أنه ظاهر من
السعادة، وباطن من الشقاء...!!
من عرف
الناس؛ حمد الله على الوحدة، وإن كانت مخالطة الناس لا تخلو - أحيانا- من فائدة،
فإنه حتى (البغال!) تنطق - أحيانا- بالحكمة...!!
ويا لله ما
أحمقهم...!!
يظنون بـ
(التافه!) من الأشياء عن العبث، ويعبثون جزافا بـ (نعمة الأمان) بـ (نعمة
الحياة)...!!
ويبغون الوطن
خرائب تنعق فيها البوم، ومستنقعات يرعاها البعوض...!!
كم أتمنى لو
كانت الجراحة تستطيع بتر الفاسد من النفس، كما تبتر الفاسد من الأعضاء...!! ولكن:
هيهات...!!
إنها
الفتنة...!! إذا اشتربتها القلوب؛ عميت، وعمّت بها أصناف البلاء...!!
وهو حديث
ضعيف، لا يثبت؛ لانقطاعه، فقد رواه أبو إسحاق السبيعي مرسلا، ويحيى بن هشام عدّ من
الوضّاعين! وأبو إسحاق مدلس.
ولهذا الحديث
طريق آخر عند ابن جميع في (معجمه) (ص149)، والقضاعي في (مسنده) (471) من طريق أحمد
بن عثمان الكرماني، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أبي بكرة - رضي الله عنه-
مرفوعا، بلفظ: (كما تكونوا يُولى عليكم).
وقال ابن حجر
في (تخريج الكشاف) (4/25): (وفي إسناده إلى مبارك مجاهيل).
الشاهد من
هذا كله: أن معنى هذه العبارة صحيح، ويا لله كم آلمني حين وقفت متأملا حال الشعوب
المسلمة - اليوم- مع حكامهم - التي لا تخفى على أحد-، مما تستلزم وقفة صادقة مع
أنفسنا، لنسأل أنفسنا:
ما الذي
جنيناه مما يسمى بـ (الربيع العربي!)، وهذه (الثورات الموءودة!)...؟! والتي أسقطت
أقنعة الكثيرين والكثيرين...؟! وتكشّف الغطاءُ عن صريح ذلنا، وغور جهلنا...؟!
وبان - بما
لا مرية فيه- عدم نضج هذه الشعوب إسلاميا وعلميا بما يكفي، وأثر فقده وبال
مقيم...!!
لقد سُرقت
هذه (الثورات الموءودة!) من شعوبها، وعادوا بخفي حُنين، لا يلوون على شيء، وطواغيتهم
طواغيتهم...!! وهم هم...!!
وأثبتت أن
طريق الإصلاح لا يبدأ من أعلى هرم المجتمع، بل: من قاعدته؛ يقول الله - سبحانه-:
(إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ وَالٍ) [الرعد: 11]، ويقول - أيضا-: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ
يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 53].
فإذا أصلح
المرء نفسه؛ أحسن بذل النصيحة لمن حوله، وإذا استجاب له من حوله من أهل بيته؛ عم
الخير بيته، ثم انتقل إلى جاره، ثم فشا في حيِّه، حتى يعم بيئته - كلها-،
فالمجتمع، وهكذا دوالينا...
فعجبي لا
ينتهي: ممن يسلم مهجته وحشاشة قلبه إلى طواغيته وجلاديه...!! بعد أن ساموهم سوء
العذاب والخسف قهرا وبطشا وظلما...!! بعد أن نفّس الله عنهم حينا اشتاقوا إلى
ضرباتهم وأسياطهم التي أطربتهم، واستعذبتها نفوسُهم وسقيمُ أرواحهم...!!
يصيحون في
الميادين بـ (الديمقراطية!) التي أذلتهم، وفرقت بين أحبّائهم، وقطعت أوصالهم
تهجيرا وتقتيلا وتشريدا...!! هذه (الديمقراطية!) التي لا يعرفونها حقا، ولم
يعيشوها صدقا، ولم تعدُ استخفافَ طواغيتهم بهم؛ فأذعنوا له مطيعين...!!
وعجبي -
كذلك- لا ينتهي: ممن يظن (الديمقراطية!) مجلبة لتمكين دين الله، ونصرته...!!
يصيحون في الميادين صيحات تخرق الآذان صما، كأطفال لم يبلغوا الحلمَ بعدُ...!!
ويحسبون أنهم يحسنون صنعا...!! ولو كانت من دين الله؛ لكان أبرّ الناس بها،
وأتقاهم لجنابها محمد - صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه من بعده - رضوان الله عليهم
أجمعين-، ولبذلوا في سبيل توطيدها حشاشة قلوبهم ومهج أرواحهم رخيصة من أجلها،
ولأفنوا حياتهم في صيانتها والذود عن حماها - على خير مثال، وأبدعه-...، ولكن:
هيهات...!!
ما ذنب
الإسلام إذا جهله أهله...؟!
إن العلمانية
طاغوت العصر، جنت على الإنسانية ألوانا من الويلات والعذاب المهين، وهي معدومة
الهوية، متقلبة بتقلب ثقافات الشعوب، وحاملوها أدعياء؛ إذ كل يريد فرض ثقافته،
وهيمنتها باسمها...!! فهي شعوبية مبطنة، وحقيقة دعوتها: محالة...، منذ أن برأ الله
الخليقة إلى يوم الناس هذا...!!
وغرّ الناس
بها أنها متلفعة بـ (الديمقراطية!)، تكسوها رداء وحلّة، وهي في حقيقة أمرها: ساترة
لها عن قبيح ورداءة معدنها، والتي إن تكشّقت، وبانت أنيابها، أعملت في الناس فتكا
وهتكا، بـ (الثقافة الواحدة المهيمنة!)...!!
يهرجون على
الناس بقصور الشريعة عن التطبيق في عالمنا المعاصر، وأنها صريح الرجعية، وتخلف عن
الركب الرشيد...!!
وما علموا أن
الإسلام جاء لـ (يؤثر)، لا لـ (يتأثر)، وأنه يصنع التاريخ، ولا يصنعه التاريخ، وأن
الآفة ليست في الإسلام، بل في المسلمين - أنفسهم-...!!
وأن المسلمين
الصادقين لا يحتكمون إلى أهوائهم ونزواتهم، بل: إلى أمر الله ورسوله - صلى الله
عليه وسلم-، بخلافهم هم...!! فهم يحتكمون إلى أهواءهم ونزوات نفوسهم بهذه (الثقافة
الواحدة!) التي استشربتها قلوبهم...!!
ومن هنا:
جاءت حجة وجوب الجهاد في سبيل الله العقلية - التي لا تُدفع- ضرورة، فما شرع الله
لك من أوامر ونواه تخالف أطماع البشر وأهواءهم وشهواتهم - وأنت المهذّب بأمره،
الكافّ عن نهيه- إلا وشرع لك سيفا - في مقابل ذلك- تقي به مطامعهم وطموحاتهم التي
تتقاطع مع جهدك وسعيك الحميد في دين الله المجيد، فيكون استعمالك له بقدر ما يزيل
هذه الحجب التي تحيل بينك وبين مرامه.
قال الله -
سبحانه-: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ
ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون: 71]، وقال - أيضا-: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ
عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251].
وهذا أمر لا
- ولن- يفهمونه، فهم محرومون من توفيق الله، وهديه، ولذة ذكره، والأنس بقربه، ومن
السعادة الحقة التي أودعها الله في شفاء الإيمان به، قال - سبحانه-: (مَنْ عَمِلَ
صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً
طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
[النحل: 97].
وهذا التوفيق
هو من الله - وحده-، لا يملكه ملك مقرب، ولا نبي مرسل؛ فالله - سبحانه وتعالى-
أمرنا أن نسأله الهداية في صلاتنا 17 مرة في اليوم والليلة، فأمرنا أن نقول:
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6]، وتأمل...!! لم يأمرنا أن
نقول: (اهدنا إلى الصراط....)، بل قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)،
وفرق بينهما، فالكافر والجاحد والآبق والضال يقول: (اللهم: اهدني إلى الصراط....)،
والمسلم يقول: (اهدنا الصراط....).
يقول العلامة
ابن القيم - رحمه الله- في كتابه العظيم (مدارج السالكين) (1/9):
(فالهداية:
هي البيان والدلالة، ثم التوفيق والإلهام، وهو بعد البيان والدلالة، ولا سبيل إلى
البيان والدلالة إلا من جهة الرسل، فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف؛ ترتب عليه
(هداية التوفيق)، وجعل الإيمان في القلب، وتحبيبه إليه، وتزيينه في القلب، وجعله
مؤثرا له، راضيا به، راغبا فيه.
وهما هدايتان
مستقلتان، لا يحصل الفلاح إلا بهما، وهما متضمنتان تعريف مالم نعلمه من الحق
تفصيلا وإجمالا، وإلهامنا له، وجعلنا مريدين لإتباعه ظاهرا وباطنا، ثم خلق القدرة
لنا على القيام بموجب الهدى بالقول والعمل والعزم، ثم إدامة ذلك لنا، وتثبيتنا
عليه إلى الوفاة.
ومن هنا
يعلم: اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة، وبطلان قول من يقول: (إذا
كنا مهتدين؛ فكيف نسأل الهداية؟) !! فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم، وما
لا نريد فعله تهاونا وكسلا مثل ما نريده، أو أكثر منه، أو دونه، وما لا نقدرعليه
مما نريده - كذلك-، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله، فأمر يفوت الحصر، ونحن
محتاجون إلى الهداية التامة، فمن كملت له هذه الأمور؛ كان سؤال الهداية له سؤال
التثبيت والدوام) ا.هـ كلامه - رحمه الله-.
فاللهم:
فهّمنا حقيقة الدين، وارزقنا حسن الاتباع لسيد المرسلين، واحشرنا من النبيين
والصديقين والشهدآء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
اللهم: رد
المسلمين إلى دينك ردا جميلا، واهدهم صراطك المستقيم.
اللهم: نجّ
وطنَنا وجميعَ أوطان المسلمين مضلاتِ الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وما خفي منها
وما علن، بلطفك ومنّتك ورأفتك يا أرحم الراحمين، ويا ذا القوة المتين.
اللهم - بفضل
هذه الأيام والليالي المباركات-:
لا تطردنا عن
بابك محرومين، ولا تردنا خآئبين، ولا عنك خزايا ولا مفتونين، ولا مغيرين ولا
مبدلين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
لمثل هذا
يذوب القلب من كمد ----- إن كان في القلب (إسلام) و(إيمان) !!!
وصلى الله
وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه - أجمعين-، وسـلم تـسليما مـزيدا.
وكتبه أبو العباس البشيتي المقدسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق