السبت، 3 أغسطس 2013

التضامن العربي في الحملة الفرنسية على مصر [1]

للأستاذ عبد القادر طليمات

ليسانس في التاريخ في جامعة عين شمس 

 

يخطئ من يعتقد أن التضامن بين أبناء الأمة العربية اعتوره ضعف في زمن من الأزمان، أو شابَهُ وهنٌ في فترة من فترات التاريخ، على طول التاريخ العربي واتساعه. صحيح أنه حدث انفصال بين الحكومات العربية في فترات متقطعة لأسباب سياسية، غير أن التضامن بين الشعوب العربية ذاتها لم يتأثر بهذا الانفصال الحكومي، بل ظل الاتصال الشعبي مستمراً، خاصة وأن الحكام العرب –رغم العداء المؤقت من بعضهم نحو بعض- لم يعملوا في يوم في الأيام على منع شعوبهم من الاتصال فيما بينها. ولم يحدث الانفصال بين أبناء العرب إلا في عهد الاستعمار الأوربي البغيض، بما أوجده مما يسمى اليوم بجوزات السفر، فحدّ الاستعمار بذلك من اتصال أبناء العروبة بعضهم بالبعض الآخر، وحتى هذا الاستعمار وبما أوجده من قيود السفر بين البلاد العربية، لم يكن له الأثر إلا في الانفصال الجسدي، أما العلاقات الروحية، والتضامن، والأخوة، فلم تتأثر مطلقاً بهذا الحاجز المصطنع، والدليل على هذا، أنه ما من حادث مثير يحدث في أي جزء من أجزاء القطر العربي الأكبر، إلا وتتردد صداه في بقية أجزائه، وأثار في نفوس أبنائها شتى الأحاسيس والانفعالات، وما من محنة تصيب أية بقعة من بقاع هذا القطر الكبير، إلا وكأن المحنة قد أصابت بقية الأجزاء أيضاً، لأن كل بلد من البلاد العربية، يؤمن إيماناً صادقاً بأنه جزء لا يتجزأ من الوطن العربي الكبير، وأنها كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو اشتكت له سائر الأعضاء.
وفي التاريخ العربي الكبير، البعيد والقريب، شواهد كثيرة تشير إلى تضامن العرب الأصيل، ووحدة اتجاههم وأهدافهم، مهما بعدت الشقة بينهم، أو طال المسير.
ولا نريد أن نذهب بعيداً لنأتي بشاهد من هذه الشواهد، فالتاريخ العربي الحديث لا يزال يعي حدثاً تاريخياً معيناً، ذلك أنه في سنة 1798، غزا الفرنسيون مصر بحملتهم المعروفة، واحتلوها نحواً من ثلاث سنوات، وكان هذا الاحتلال تجربة عملية للتضامن العربي، وامتحاناً لقوة هذا التضامن ومدى احتماله، وقد كانت النتيجة مشرفة لهذا التضامن الأصيل الذي لا تستطيع قوة مهما عظمت أن تفصمه، إذ ما كاد نبأ هذه المحنة التي حلّت بمصر يصل إلى أسماع العرب، حتى غلتْ دماؤهم غضباً على المحتلين، وغيرة على مصر وأهل مصر. وكان لهم شأن، أظهر ما بين العرب من ترابط، وتضامن، ووحدة، لو أدركها الغرب اليوم، وتفهّم كنهها ومعناها، وأقنع نفسه باستحالة الإيقاع بين أبناء الوطن الأكبر، لكفى نفسه مؤنة التدخل في الشؤون العربية، ولأراح واستراح، لأن الحقيقة تقول أن الدسائس بين أبناء العروبة لفصل بعضهم عن بعض لن تعيش ولن يكتب لها النجاح، وستنقلب على أعقابها تجر أذيال الخيبة والفشل هي ومن دفعوها إلى الدس.
ولو أن أجزاء القطر العربي الكبير كانت خالية من مشاكلها الخاصة، ولو أنها كانت في حالة تسمح لها بالانتقام لمصر من المحتلين الفرنسيين بحد السيف، لوجد التاريخ خصبة لتسجيل أروع تضامن عرفته الدنيا. ومع ذلك فإن ما سجله التاريخ –على قلته- على أسمى ما يتصف به العرب من النجدة والأخوة والغيرة على مصالحهم مهما اختلفت الديار والأمصار.
يحدثنا الجبرتي في تاريخه أنه كان بمصر عندما غزاها الفرنسيون جماعة كثيرة من أبناء العربية من أبناء «الشام» و«المغرب» الذين اتخذوها وطناً ثانياً لهم. ويحدثنا أيضاً أنه ما كاد خبر احتلال الفرنسيين للإسكندرية وزحفهم على القاهرة يصل إلى القاهرة، حتى نودي بالنفير العام، يدعو الشعب للجهاد إلى جانب الأمراء حكام ذلك الوقت، لصدّ المغيرين، فلبى أبناء القاهرة النداء، وشمروا عن سواعدهم للدفاع عن بلادهم، وهنا يظهر التضامن العربي بأروع مظاهره، فقد هبّ «المغاربة» و«الشوام» لنصرة مصر وأهليها مسرعين لنجدتها، وحملوا السلاح، وانضموا إلى المجاهدين، يذودون عن حرية مصر العربية، وكرامة مصر الإسلامية، ولم تكن غيرتهم بأقل من غيرة أبناء مصر على مصر، فإنه لم يكن معروفاً وقتذاك أي فارق بين المصري والمغربي والشامي والحجازي والعراقي،وإنما كان هناك العربي والمسلم فقط، لاأكثر من هذا ولا أقل.
وينتصر الفرنسيون على المجاهدين ويحتلون مصر، ولكن المصريين وأبناء العروبة من مستوطني مصر يصرون على طرد المغتصب المحتل، وينتهزون الفرص للانقضاض على المستعمر الدخيل، فيقوم القاهريون بالثورة الأولى من سنة 1798، ويشترك فيها كل من تظله سماء القاهرة من مصريين ومغاربة وشوام، فأخذوا ينفقون الأموال لتمويل الثورة بالسلاح والطعام، حتى الفقراء من أبناء الشام والمغرب، الذين حملوا السلاح لقتال الفرنسيي، كان ينفق عليهم سراة المصريين وأغنياؤهم، يمدونهم بالسلاح، ويمونونهم بالطعام، وسقط منهم قتلى، ووقع منهم جرحى، في سبيل مصر، قلب بلاد العرب ودرة مراكز الإسلام.
وينتصر الفرنسيون للمرة الثانية، وينهزم الثائرون، ولكن الهزيمة لا تفت من عضد الثائرين، ولا تخمد حماستهم، ولا تضعف روحهم، وإنما ظلوا يتربصون للعدو الدخيل، ينتهزون فرصة أخرى للوثوب عليه والفتك به.
ويندلع لهيب الثورة الثانية في شهر مارس سنة 1800، وتتحد قوى أبناء العروبة من مصريين وشاميين وحجازيين، ويتكتلون كتلة واحدة، فقد وضعوا نصب أعينهم هدفاً واحداً، هو إخراج الفرنسيين من مصر، ومصر بلد كل عربي، وموطن كل مسلم، فيجب على أبناء الضاد والإسلام الذي جعلوا من مصر موطناً لهم، أن يدفعوا عن وطنهم هذا كل أذى، وأن يطهّروه من كل دخيل، وأن يحفظوا لمصر عروبتها وإسلامها.
ومن الغريب، أنه عندما اندلعت ألسنة الثورة، وبدأ الفرنسيون يضربون الثوار بالمدافع، فزع أمراء مصر وأثرياؤها، وعزموا على الهروب من القاهرة فراراً بأنفسهم ونجاة بأرواحهم، فأعدوا لذلك خيولهم ودوابهم، وجمعوا أموالهم وما يستطيعون حمله من غالي المتاع، فلما رأى ضعاف القلوب من الشعب منهم ذلك، عزموا على الخروج معهم، وتجمعوا بحي الجمالية استعداداً للرحيل ليلاً، ولما سمع أهل خان الخليلي[2]، ومغاربة الغورية والفحامين بعزم الكبار على الفرار، وأدركوا ما وراء هذا من تثبيط روح الشعب المعنوية، أسرعوا إلى حي الجمالية «وشنعوا على من يريد الخروج... وعمدوا إلى خيول الأمراء فحبسوها ببيت القاضي والوكائل، وأغلقوا باب النصر» ليمنعوا أي أحد من الهرب، وأجبروا الجميع على الاشتراك في القتال.
وبذل المجاهدون وسعهم في هذه الثورة للقضاء على الفرنسيين، وكان لأبناء المغرب والحجاز من مستوطني مصر قسط كبير فيها، خصوصاً مغاربة حي الغورية والفحامين الذي جعلوا من حيّهم قاعدة حربية، حصنوها بالمتاريس وآلات القتال، وأخذوا يشنون منها الحرب على الأعداء، ولكن الفرنسيين ينتصرون للمرة الثالثة، ويعود القاهريون للتربص بالعدو.
وفيما بين الثورتين، وفي شهر ديسمبر سنة 1798 على التحديد، سمع أهل القاهرة بأن حرباً عنيفة تدور رحاها في الصعيد، بين أبناء الحجاز بقيادة الشيخ الكيلاني المغربي وبين الفرنسيين، لإخراج الفرنسيين من أرض الكنانة، وتطهيرها من دنس الاستعمار الأجنبي، فكيف حدث هذا؟.. وكيف جاء هؤلاء الحجازيون إلى مصر بأسلحتهم وعتادهم؟.. ومن الذي استدعاهم للقتال من أجل مصر؟.. لم يستدعهم أحد من البشر، وإنما استدعاهم التضامن العربي، ونادتهم الأخوة الإسلامية، واستصرخهم جزء من الوطن العربي الأكبر، والحجازيون عرب مسلمون، يلبون صرخة إخوانهم العرب وينجدون كل عربي وقع في ضيق، ومصر درة بلاد العرب في محنة، والمحنة وصلت أخبارها إلى الحجاز وإلى المغاربة من أبناء الحجاز، فليهبوا إذاً لإنقاذ مصر من محنتها دون أن ينتظروا استدعاء أحد من أبناء مصر.
ويحدثنا الجبرتي، كيف وصل أبناء الحجاز إلى صعيد مصر لمحاربة المستعمرين الغاصبين، فيقول، أنه لما وصل إلى الحجاز خبر احتلال الفرنسيين لمصر، انزعج أهل الحجاز لهذا النبأ المفجع، واجتمعوا بالحرم المكي يدعون على الفرنسيين، ويتباحثون في الأمر الجلل، وقام شيخ مغربي يقال له الشيخ الكيلاني، يخطب في الناس ويحمسهم، ويدعوهم إلى نصرة الحق الذي داسه الفرنسيون بأقدامهم، ويحرضهم على الجهاد لتحرير مصر، فاستجاب له جماعة كبيرة من الناس، وعاهدوا الله على محاربة الفرنسيين بأموالهم وأرواحهم، وخرج من مكة نحو من ستمائة مجاهد، حتى إذا وصلوا إلى «ينبع» انضم إليهم عدد من أهلها ومن غيرهم، ثم ركبوا البحر إلى القصير، ثم توغلوا في الصعيد، وهناك انضم إليهم جماعة من قبيلة هوارة ومن أهل الصعيد، وبعض الأتراك والمغاربة والفُز المماليك وعلى رأسهم أمراء المماليك، وأخذت المعركة تدور بين المجاهدين والفرنسيين، وطال أمد القتال، فنفد صبر الفز فتركوا المحاربة، ثم تبعتهم هوارة ومن اجتمع عليهم من أهل القرى، ثم لحقهم الأتراك والمماليك وأمراؤهم، ولكن الحجازيين لم يهنوا ولم يضعفوا، وإنما ثبتوا وظلوا يقاتلون الفرنسيين، وأنشبوا معهم عدة معارك، وظل الشيخ الكيلاني يقاتل الفرنسيين بأصحابه الحجازيين حتى توفي في شهر مايو سنة 1799، وكان الشيخ الكيلاني، ومحاربته الفرنسيين في الصعيد، أحد الأسباب التي أرغمت نابليون على رفع الحصار عن عكا، ورجوعه إلى مصر، كما صرح نابليون نفسه بذلك.
وفي شهر إبريل سنة 1799، ظهر في دمنهور رجل من أبناء المغرب أيضاً، وأخذ يدعو إلى جهاد الفرنسيين، وقد ادعى المهدوية ليستجلب إليه الناس، فالتف عليه جماعة من أهل دمنهور، وأخذ في الوقت نفسه يكاتب أهل البلاد ويدعوهم إلى الجهاد، فاجتمع عليه أهل البحيرة وغيرهم، وحضروا إلى دمنهور وقاتلوا من بها من الفرنسيين. واستمر المجاهد المغربي أياماً كثيرة يحاربهم، وكلما حاصروه ليقبضوا عليه يفر منهم، فتارة يذهب إلى ناحية الشرق، وتارة إلى ناحية الغرب، يبث الدعوة للقتال، ثم يعود إلى دمنهور يستأنف الحرب مع من يجتمعون عليه، فأرسل الفرنسيون جملة من القاهرة إلى دمنهور نجدة لمن كان من الفرنسيين، ولكن الحملة فشلت في القبض عليه، واستمر في مناكفة الفرنسيين بدمنهور حتى اندلعت ثورة القاهرة الثانية، فترك دمنهور إلى القاهرة، يقاسم أهلها الجهاد.
لقد فشلت الثورات التي قام بها المصريون والعرب من أبناء مصر ضد الفرنسيين، سواء في القاهرة أو في الأقاليم، والفرنسيون عقب كل ثورة تزداد قدمهم رسوخاً، ويزداد سلطانهم انتشاراً، فلا بد إذاً من عمل حاسم يوهن قوى الفرنسيين، ويكسر شوكتهم، وما هذا العمل الحاسم إلا قتل كبير الفرنسيين القائد كليبر، نائب نابليون في مصر. وهنا يبرز عربي من أبناء الشام، ومن مدينة حلب بالذات، هو سليمان الحلبي، ويأخذ على عاتقه قتل كليبر، ويتحايل سليمان حتى يدخل على كليبر في حديقة منزله، ثم يطعنه بخنجره طعنات قاتلة مميتة، يخرّ كليبر على أثرها فاقد الحياة، ويقد سليمان الحلبي حياته فداءً لمصر، غير آسف ولا حزين، فإن في قتله لكليبر، توهيناً لقوى الفرنسيين، وإضعافاً لشوكتهم، وقد تحقق ما كان يجول في خاطر سليمان الحلبي، فقد جلا الفرنسيون عن مصر بعد قتل كليبر بعام واحد.
هذا شاهد من شواهد التاريخ على التضامن العربي الذي يريد الغرب اليوم أن ينكره، وأن يتغافل عنه، فيحاول التفرفة بين أبناء العروبة بالدس والخديعة، وأبناء العروبة يخيبون رجاءه، يوماً بعد يوم، بل ساعةً بعد ساعة، ويثبتون له أن الأخوة العربية أقوى من أن يفصم عراها دس خبيث، وأن التضامن العربي أجلّ من أن يحلّه أجنبي غريب، والغرب لا يريد أن يفيق لهذه الحقيقة، لأنه يخاف من... الحقيقة!!

[1]  مجلة حضارة الإسلام، المجلد 1، العدد 7 (ص88-94)، كانون الثاني 1961
[2]  وأكثرهم من الشوام من مدينة (الخليل).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق