السبت، 28 ديسمبر 2013

أصحاب الأخدود... عبر ودروس (11)

 الشهداء بروج هادية

طارق مصطفى حميدة

تتحدث سورة البروج عن ظروف صعبة عاشها دعاة التوحيد، في مكة زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وأصحابه رضي الله عنهم، ومن قبلهم المؤمنون السابقون أصحاب قصة الأخدود.

إنها حالة ظلمة حالكة في ليل بهيم، لا يكاد الواحد يرى موضع قدمه، حيث يشتد الأذى بالمسلمين حتى نشروا بالمناشير، وحرّقوا في الأخاديد.

وحيث يعم الظلم والظلام، ويلف النفوسَ المؤمنة والمستضعفة مشاعرالحزن والكآبة، حزناً على الذين دفنوا تحت التراب من حملة مشاعل الإيمان، وخوفاً على النفس، وقلقاً على مصير دين الله، مما يلاقيه أتباعه على أيدي أعدائه، فإن السورة تدعو المؤمنين كي ترتفع أبصارهم وقلوبهم إلى السماء ذات البروج ولا تظل منكسة باتجاه الأخاديد والقبور، فإن الشهداء عناك في عليين وهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهم نجوم هادية وليسوا مجرد قتلة تحت التراب، ولا رماداً في الأخاديد.

عند ذلك كله يقسم الله تعالى بالسماء ذات البروج، مطمئناً المؤمنين أن دين الله في سماء عالية ذات بروج حصينة، وأن الكفرة من أعداء الدين، ليسوا أكثر من أقزام ينفخون على الشمس ليطفئوها، أو يصعدون "السلالم" لينزلوها. ولهذا يأتي ختام السورة مطمئناً المؤمنين أن هذا القرآن في مأمن، من أن تصل إليه أي يد بإحراق أو إلغاء أو إنقاص، فإنه (قرآن مجيد في لوح محفوظ).
وتبرز هذه السورة عظمة الجريمة بتحريق المؤمنين، وتكشف عن سببها "وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد" . فالكفار لغبائهم يتحرشون بالذين آمنوا بالله (العزيز) الذي تأبى عزته أن يترك عباده لأعدائه، وإن كان يمهلهم أن يتوبوا حتى بعد أن فتنوا المؤمنين والمؤمنات... فيبشر المؤمنين بجنته، وينذر الكفار ناره وبطشته.

ولعل في لفت الأنظار إلى السماء ذات البروج في جو الظلام البهيم، ما يرقى بأبصار المؤمنين إلى السماء لترى البروج الجميلة، فتزول عنها مشاعر الكآبة والحزن والانكسار، كيف لا وقد قال رب العزة "ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين" إن هذه البروج زينة وبهجة للنفوس، وسعادة للقلوب وشرح للصدور، ولكن شريطة أن تجد لها جماعة من الناظرين. فتنشط نفوسهم من جديد لعمل الخير والقيام بأمر الدين.


ويبدو أن هنالك تشبيهاً للشهداء بالبروج، وكأن الآيات تقول للمؤمنين لا تظنوا أن هؤلاء قد غيبهم الثرى وطوتهم القبور، بل هم نجوم وبروج مضيئة ومُثُل عُليا، تستدعي منكـم أن تشخصوا بأبصاركم إلى عليائهم، وتتابعوا مسيرهم. وهو ما رأيناه في قصة أصحاب الأخدود الواردة في الحديث حيث كان استشهاد حملة الدين دافعاً إلى الإيمان الجماعي.

أصحاب الأخدود... عبر ودروس (10)

اصبري ... فإنك على الحق

طارق مصطفى حميدة

( فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فخدت وأضرم النيران، وقال من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق).
لقد جن جنون الملك وفقد السيطرة نهائياً، حيث يأمر بالأخاديد أن تخد وتضرم فيها النيران، ثم يؤتى بالمؤمنين إلى الأخاديد المضطرمة الملتهبة يساومون بل يهددون بالقتل حرقاً إن لم يرجعوا عن دينهم فمن لم يرجع يلقيه الجنود في النار أو يأمرونه بالاقتحام وهذه أشد على النفس من الأولى.
والملاحظة الأولى هي حالة الجنود الذين يرون كل هذه المشاهد والآيات ويظلون كأنهم مسلوبي الإرادة، أو أنهم لشدة ولائهم ومصالحهم مع النظام يفقدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم حتى لتراهم مستعدين دائماً للقيام بما لا ينبغي القيام به مهما بلغت درجة الجريمة وشدة القبح.
والأمر الثاني تكرر عبارة ( الرجوع عن الدين كشرط للبقاء على الحياة)، حيث لا تطيق الأنظمة الفرعونية من يتخذ إلها غير الحاكم الأعلى، وما يتضمنه ذلك من مشاعر انتقام عالية جداً لدى هذه الأنظمة، فهي من جهة لا تقبل ببقاء المؤمنين على قيد الحياة، وهي من جهة تختار لقتلهم أشد الطرق إيلاماً وبشاعة ولاإنسانية من مثل الشق بالمنشار والتحريق وتذبيح الأطفال، ومن جهة ثالثة لا يضيرها أن يكون هؤلاء الذين تقتلهم أفراداً أو شعوباً، آحاداً أو ألوفاً أو ملايين، ورابعاً التلذذ الذي يصاحب التقتيل والتحريق حيث يكونون شهوداً على تلك الجرائم فيستمتعون بمشاهد المؤمنين يتلظون بالنيران وبأصوات الصراخ والألم، ورائحة اللحوم المحترقة للآدميين.
وثالثة الملاحظات أن تخيير المؤمنين بين ترك الإيمان أو إلقاء أنفسهم في النار، هو عذاب فوق العذاب، والأهون على المؤمن أن يلقيه عدوه فيها حتى لا يكون كأنه هو الذي يقتل نفسه.
وحين يختار النبي صلى الله عليه وسلم لختام القصة تلك المرأة وابنها، فكأنه يقول لنا إن هذا الإيمان الجماعي، ومن بعده تلك التضحية والبطولة الجماعيتان، لم تكن فعل جماعة من الرجال فقط، بل كان فعل مجتمع مؤمن برجاله ونسائه وأطفاله.  
وحين يختار النبي صلى الله عليه وسلم هذا الختام، بما يسمى في الفن والأدب النهاية المفتوحة، فإنه أولاً يؤكد للسامعين والقراء أن المعركة لم تنته بالتحريق في الأخاديد، وأن الذي وقع للمؤمنين هو انتصار مؤزر أدركه حتى ذلك الغلام، وأن النهاية ليست هي التي أرادها الملك بإنهاء الإيمان، إن المعركة الحقيقية ليست بقاء المؤمنين على الحياة أو موتهم، بل هي ثباتهم على الإيمان أو رجوعهم عنه، وحيث قد ثبتوا على إيمانهم وهو الحق، ولم ينصاعوا للملك بالرجوع عنه فإنهم هم المنتصرون وهو الذي حاقت به الهزيمة، وفي سورة البروج ما يوحي بأن هناك من تاب حتى من أعوان الملك وجنوده، وذلك في قوله تعالى: )إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق(، فالآية من جهة تخبر عن حدث ماض فيه جماعة فتنة المؤمنين،[1] ثم هي تتوعد الذين لم يتوبوا منهم، ما يشي بوجود قسم من التائبين، وهذا أمر متوقع، فأولاً إن مشهد البطولة الجماعي يحرك القلوب والمشاعر ويوقظ العقول، ثم إن الضغوط لا تبقى بالشدة نفسها ولا بالثقل ذاته على هؤلاء الأشخاص فإذا بهم يتحينون الفرصة كي يتخلصوا من عذابات الضمير، ويكفروا عن جريمتهم.
وفي رواية الإمام أحمد (فجاءت امرأة بابنٍ لها ترضعه)، وهو ما لم يرد في رواية الصحيح، ويخالف حديثاً آخر للرسول عليه السلام أنه لم يتكلم في المهد غير ثلاثة، ليس منهم صبي قصة الأخدود، فإننا نرى القول بأن الغلام كان مميزاً، ولعل ما أورده الإمام أحمد كان إدراجاً من أحد الرواة، ولا داعي للظن بأن مثل هذا القول من الصغار لا يكون إلا بمعجزة خارقة، فإن الأحداث الجسام التي تمر بالأمم والتحديات العظام التي تواجهها تنضج الصغار وتنطقهم وتجعلهم أحكم من الحكماء وأفصح من كبار القادة العظماء، ويكون لهم مواقف وسلوكيات يعجز عنها الكبار والأبطال، واللافت أن الرسول عليه السلام قد استخدم في وصف الصغير لفظ ( صبي) ثم لفظ (غلام)، والغلام أكبر وهو الذي قارب البلوغ، والصبي أصغر منه، وكأن الرسول عليه السلام بعدما أشار إلى صغر عمره أراد أن يلفت إلى أن كلامه كلام الكبار، وقد رأى الناس في فلسطين، على سبيل المثال، للصغار خلال انتفاضة 1987، وانتفاضة الأقصى وغيرهما الكثير من الأمثلة، المؤكدة لما نقول.
" إن  الناس إذا تجردوا لله وعرفوا الحق وأرادوا أن يثبتوا عليه فإن الله يثبتهم بأشياء من عنده ليست من عندهم، يمدهم الله بطاقات جديدة، هذه المرأة ما كانت تتوقع أن ينطق الغلام بهذه العبارة المثبتة ( يا أمه! اصبري فإنك على الحق )"[2]، ولنا أن نتخيل العديد من الخواطر والإيحاءات والمشاهد والرؤى والمواقف التي أدت إلى تثبيت تلك الجموع المؤمنة في تلك الظروف العصيبة.
لقد بدأت القصة بملك يريد أن يستمر حكمه الفرعوني القائم على القهر والزيف والخداع، وانتهت بغلام يقول لأمه: اصبري، وكأن الملك هو الماضي الآفل، والدين وأهله هم المستقبل القادم. 

[1] كما أن الآية فيها ترغيب وترهيب لقريش، ولكل من يفتنون المؤمنين والمؤمنات.
[2] أصحاب الأخدود،  محمد صالح المنجد.

أصحاب الأخدود... عبر ودروس (9)

 هاجس الفراعنة ... أن يؤمن الناس
طارق مصطفى حميدة

(فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وماهو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد. وتصلبني على جذع. ثم خذ سهما من كنانتي. ثم ضع السهم في كبد القوس. ثم قل: باسم الله، رب الغلام. ثم ارمني. فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني).
( إنك لست بقاتلي)، تأكيد بلسان المقال على واقع الحال، فالواقع والتجربة وتكرار المحاولة كلها تؤكد للملك وتجعله يوقن بعجزه عن قتل الغلام، فالغلام يؤكد هذا المعنى لدى الملك ليبني عليه ما بعده.
إن قول الغلام للملك: (إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به)، ثم تحديده الطريقة الوحيدة التي يمكنه من خلالها قتله، هو من قبيل الكرامة للغلام، وإلا فهذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وليس مخرجه الاجتهاد وتحليل المواقف، فحسب.
( حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟): من جهة فإن شدة رغبة أعداء الدين في القضاء على المؤمنين، توصلهم إلى درجة من الجنون وفقدان السيطرة، والاستعداد للقيام بأي عمل، واتخاذ أي وسيلة، لبلوغ تلك الغاية، ما يجعلهم يقعون في شر أعمالهم ويرتد كيدهم إلى نحورهم، ولذلك يصبحون مسلوبي الإرادة، أسرى الرغبة في التخلص من الدعاة، حتى ليستعدون لأن يكونوا تحت الأمر، حيث يقول الغلام: ( حتى تفعل ما آمرك به، ويرد الملك بكل خضوع: وما هو؟).
إن التعليمات المفصلة التي أملاها الغلام على الملك، واستسلام الملك لها، يظهر مقدار انهيار نفسية الملك، وبلوغه حالة شديدة من العجز عن اتخاذ القرار أي قرار، ومن جهة أخرى وعي الغلام لهذا الواقع واستثماره، بل إن تسلسل الأحداث يظهر أن الغلام هو الذي أوصل الملك إلى تلك الحالة، ومن ثم ضرب ضربته.
إن عجز الكفار عن القضاء على المؤمنين، ويأسهم من إمكانية ذلك، يجعلهم أقرب للاستماع إلى الطرف الآخر، ومن ثم الامتثال لأوامره، إن قريشاً لم تصبح مؤهلة للجلوس على طاولة التفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا بعد أن أيقنت بعجزها عن القضاء على دولته ودعوته، وذلك بعد خيبتها في غزوة الخندق التي تحزب فيها معهم عرب الجزيرة مع اليهود، فإذا كانت عدة قوى مجتمعة لم تقدر على القضاء على المسلمين فإن قريشاً منفردة لا يمكن أن تفعل ذلك، وقد أدرك الرسول عليه السلام ذلك فأخبر أصحابه أن قريشاً لن تغزوهم بعد عامهم ذاك، ولا يضير أن يكون هذا القول وحياً أو بالتحليل، ولذلك كانت رحلة العمرة التي انتهت بصلح الحديبية، حيث أملى الرسول شروطه في الصلح عشر سنين، وأن من أراد من قبائل العرب الدخول في حلفه كان له ذلك، وكانت قريش تحول دون القبائل والقرب من الرسول عليه السلام ودولته، وقد كان هذا الصلح فتحاً مبيناً، أسلم عقبه وفي أقل من عامين، أضعاف الذين آمنوا في تسع عشرة سنة سابقة، كما أدى هذا الصلح إلى فتح مكة، ونتج عنه اعتراف رسمي بدولة الرسول صلى الله عليه وسلم، أفاد منه الرسول في بعث رسله إلى الملوك والأمراء، بينما كان الذي يشغل مفاوض قريش قضايا شكلية من مثل عودة المسلمين عن العمرة في ذاك العام وأدائها في العام التالي، وألا يقبل الرسول من يأتيه مؤمناً من قريش، وكأن الإيمان يحجزه اتفاقية، أو يمنعه وليّ أو مسؤول.
إنه بقدر ما يحرص الفراعنة على إبعاد الدعاة عن الجماهير ومواطن التأثير فيهم، يجب على الدعاة أن يحرصوا على أن يكونوا دائماً قريبين من الناس متواصلين معهم، من أجل توصيل أفكارهم من خلال اللقاءات الجماهيرية وعبر وسائل الإعلام المختلفة، والبحث عن أكثرها جمهوراً وشعبية، وبالتالي تأثيراً وفاعلية، والعمل في المناطق المركزية والعواصم والمدن الرئيسة، ويكفي أن نتذكر بأن الله تعالى قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم في مكة التي كانت أبرز حواضر الجزيرة العربية، والتي يحج إليها العرب كل عام، عدا عن رحلات العمرة المتعددة سنوياً، وبالتالي لم يكن حاجة لأن يتنقل الرسول في الجزيرة لأن وفود القبائل يصلون مكة مراراً كل عام، ويكفي أن يتحرك الرسول بينهم خلال مناسك الحج أو يزورهم حيث يخيمون، ولم يجد الرسول داعياً لمغادرة مكة أو الانتقال منها إلى غيرها حتى التقى بوفد يثرب ثم كانت بيعتا العقبة فالهجرة، علماً بأن اللقاء بهم كان في مكة في موسم الحج.  
الغلام الذي يدرك ما يدور في عقل الملك، وما يشغل باله ويحرك سلوكه وتصرفاته، يأمره أن يجمع الناس في صعيد واحد ... ساحة واحدة، كيما تصل الرسالة إلى الجميع صافية نقية، وواضحة جلية في أجلى صورة وأنصعها، وهو يدرك مدى أهمية الجماهير وضرورة الوصول إليها والتواصل معها، يدرك ذلك لكونه داعية صاحب فكرة، يحال بينه وبين الناس أن يظهر الدعوة فيهم، حتى إنه ليحتال ويتخفى من أجل الوصول إليهم ودعوتهم، وهو يدرك أهمية الجماهير كذلك مما يعتقد أن الساحر لقنه إياه، لكن من أجل تعبيدهم للملك.
وكأني بالغلام  قد استحضر قصة نبي الله موسى عليه السلام، حين عين موعد اللقاء بالسحرة ﴿ يوم الزينة وأن يُحشر الناس ضحى ﴾، والملاحظ أن الغلام بذكائه وفطنته، صنع مثل صنيع نبي الله موسى عليه السلام، حيث قد استغل كلاهما قدرات خصومه وإمكانياتهم في حشد الجماهير لنصرة دينه وأهدافه السامية، فالملك بسلطاته أقدر على جمع الجماهير.
 ( فجمع الناس في صعيد واحد. وصلبه على جذع. ثم اخذ سهما من كنانته. ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله، رب الغلام. ثم رماه فوقع السهم في صدغه. فوضع يده في صدغه في موضع السهم. فمات. فقال الناس:آمنا برب الغلام. آمنا برب الغلام. آمنا برب الغلام):
ومن جهة أخرى فإن هذه التعليمات المفصلة والتزام الملك بها تهدف إلى إظهار وتأكيد أن ليس أي قدرة على الإماتة، ذلك أن الكنانة كنانة الغلام، والسهم سهمه، سيأخذه الملك من كنانته، ثم سيقول الملك: ( باسم الله رب الغلام) فيقع السهم في صدغ الغلام: بين عينه وشحمة أذنه، والموضع ليس مقتلاً، ثم يضع الغلام يده في صدغه في موضع الجرح فيموت، فإذا الجماهير المجتمعة تصرخ بصوت واحد: ( آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام).
لقد ظن الملك أنه بقتل الغلام تنحل مشكلته ويرتاح من إزعاجه وتنتهي بموته دعوته، ونسي أنه ليس أفعل ولا أقوى من الدم والشهادة ومواقف التضحية والفداء في إذكاء الثورات وتحريك الجماهير، وتفجير براكين غضبها. وهنا وفي اللحظة التي ظن الملك فيها أنه قد ارتاح من الغلام ودعوته بقتله، إذ بهذه الدعوة بعدما كانت حركة فردية خجولة متناثرة، إذ بها تتحول حركة شعبية جماهيرية عارمة، متحدية غاضبة.
لكن ما الذي جعل هذه الجماهير تؤمن بهذا الشكل الجماعي؟
لقد أيقن هؤلاء أن الله تعالى هو وحده المحيي المميت، وليس الملك الذي سقطت دعوى ربوبيته، ومن قبل ترسخ لدى الناس أن الله تعالى هو الشافي وليس ساحر الملك، فماذا عساه يبقى للملك يخدع الناس أنه ربهم الذي ينبغي أن يُخضعوا له رقابهم؟.  
 من الواضح أن هاتين القضيتين في غاية الأهمية من جهة إثبات توحيد الله تعالى، ورد دعاوى الملوك المتألهين، ولذلك رأينا إبراهيم عليه السلام يواجه الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك بقوله: )ربي الذي يحيي ويميت( ولم يخجل ذاك المأفون من الادعاء بأنه كذلك يحيي ويميت، ثم إن خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يدعو قومه إلى توحيد الله تعالى ونفي الأرباب المزعومة، يؤكد أن ربه سبحانه هو المحيي المميت، بعد أن يؤكد بأنه هو الذي يشفيه إذا ما مرض:  ) وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين(.
وما زلنا في العوامل التي أدت إلى الإيمان الجماعي لتلك الجماهير، والتي منها التضحية في سبيل الدين، والثبات عليه، والاستشهاد في سبيله، من قِبل الراهب والجليس والغلام، حيث تترسخ قيمة الإيمان في النفوس وأنه أغلى من الحياة ذاتها حتى لتطيب التضحية بالحياة لأجله.
ولا ننسى سيرة الغلام من حين قتل الدابة ومضى الناس، ثم حركته بين الناس مداوياً وداعياً، حيث إن الجليس لم يكن الوحيد الذي آمن مع الغلام في السابق، لكن تسليط الضوء على إيمانه دون غيره لأنه كان السبب في أن تتطور الدعوة باتجاه الاصطدام بالملك ونظامه، وتداعيات ذلك، ومن المتوقع بل المؤكد إيمان كثيرين ممن كان يعالجهم الغلام من الأدواء المستعصية وغير المستعصية، سواء اشترط عليهم الإيمان أم لم يشترط، ومن الطبيعي أن هؤلاء قد أخفوا إيمانهم، لكنهم أثروا بشكل أو بآخر في دائرة أوسع. كما أن تحول الغلام من ساحر الملك إلى داعية للإيمان مناهض للملك مما يقوي لدى الناس دواعي تصديقه ومتابعته والاقتداء به.
إن هتاف الجماهي:( آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام) ليشبه قول سحرة فرعون: ) آمنا برب العالمين رب موسى وهارون(، ولعل ذلك كيلا تختلط الأمور ويتزيف الوعي، فالإيمان واضح بالله، وهو خلف قائد واضح معروف، فلا يخدع الناس بالقيادة ولا بالدين، ثم إن القضية ليست قضية إيمان معرفي سلبي مجرد، بل إنه الصراع بين فكرتين وجماعتين وقيادتين، ولا يجوز في حالات الصراع بين الحق والباطل أن يكون ثمة أدنى خلط أو لبس، ومن هنا أيضاً كانت شهادة الدخول في الإسلام تتضمن أن محمداً رسول الله بعد شهادة أن لا إله إلا الله، أي على طريقة محمد صلى الله عليه وسلم في الإيمان، وخلفه في الحركة والاتباع.

( فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس):
إنهم يقسمون بالله: ( قد والله نزل بك حذرك) .. فاسم الله تعالى لم يكن مجهولاً لديهم، وكان لديهم شيء من الإيمان لكن هذا الإيمان ليس هو الذي يحرك الحياة، ويوجه الأحياء.
واللافت أن المحيطين بالملك مع أنهم وإياه في ذات المركب، يشاركونه الحذر من الإيمان والحرب ضد المؤمنين، فلم يقولوا قد وقع بنا حذرنا، بل جعلوه كأنه هو الذي تلقى تلك الهزيمة وحده، وربما لمزيد التحريض ضد المؤمنين، أو لأنهم أحسوا بأن الواقع أكبر منهم ومن الملك، ولعلهم قد نفحتهم ريح الإيمان التي هبت على المكان ومن فيه. 
إن هذا القول من المحيطين بالملك ( أرأيت ما كنت تحذر.. قد والله نزل بك حذرك)، يظهر المحرك الحقيقي الذي يوجه أكثر سياسات الأنظمة الفرعونية وخططها وسلوكاتها ومكائدها وقراراتها، إن لم يكن جميعها، وهو ألا يصبح الإيمان بالله تعالى أمراً عاماً وجماعياً، إنه (الحذر الدائم من إيمان الناس)، ولذلك يحال بين الدعاة وبين الوصول إليهم، وتشوه صورة الدعاة لديهم، ويلاحقون ويطاردون ويسجنون، وتسجل عليهم حركاتهم وسكناتهم، وتتخذ كل التدابير الوقائية كيلا يقع هذا المحذور، وتُفصّل القوانين لهذه الغاية.
ثم حين يؤمن الناس، ولا بد أن يؤمنوا، وقد أبى الله تعالى إلا أن يظهر دينه ويتم نوره، فإن الفراعنة وأزلامهم يضربون أخماساً بأسداس، ويشقون الجيوب ويلطمون الخدود، وتصدر مانشيتات صحافتهم متحدثة عن وقوع " زلازل" أو "براكين" انتخابية كلما اختارت الجماهير القادة الإسلاميين في الانتخابات.
وحين يقول رجال الملك له إنه قد نزل به حذره، فهذا يعني أنه كان يشن حرباً شديدة شعواء ضد الدين وأهله، وأنه كان يمارس نشاطاً دؤوباً في " تجفيف منابع التدين"، وبإمكاننا أن نفسر ما الذي يجعل الراهب يترهبن ويعتزل بدينه بعيداً عن الناس، كما نتفهم سر تحذير الراهب للغلام أن يكشف السر للساحر أو أهل الغلام، ومن ثم تنبيهه ألا يدل عليه إذا ابتلي.
والآن، ومن خلال ما يطلق عليه تفسير القرآن بالسنة النبوية ودون اللجوء إلى الإسرائيليات وأحاديث القصاص، نصبح أقدر على تفسير "الحذر" في قوله تعالى في سورة القصص: ) ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون(، وأن الذي كان يحذر منه فرعون وجنوده، هو هو الذي كان يحذره الملك في قصة أصحاب الأخدود، وهو الإيمان الذي يحرر الناس من عبودية الفرعون بل يجعلهم في مواجهته، وبالذات الإيمان الجماعي، وقد أرى الله تعالى فرعون إيمان السحرة وتحدوه قائلين:) آمنا برب العالمين رب موسى وهارون(.


أصحاب الأخدود... عبر ودروس (8)


 نعم للشهادة ... ولكن ليس الآن
طارق مصطفى حميدة

 ( ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى):
 كان المتوقع بحسب التسلسل "التنظيمي" أو الدعوي، أن يؤتى بالغلام وليس الجليس بعد الراهب، لكن الذي جرى هو العكس، ذلك أن الجليس ومن قبله الراهب ليسا بتلك الأهمية للملك بينما يُعدّ الغلام ليكون ساحره، والملك بحاجة إلى ساحر، وقد تعلم الغلام من الساحر الكثير، ثم إن الساحر نفسه لم يعد له ذكر في القصة ما يعني أنه قد غاب حقيقة عن الحياة أو عن الوجود الفاعل وإمكانية أن يعلم تلميذاً آخر بدلاً من الغلام.
ثم إن الغلام هو الذي كان يتعامل مع الجماهير ويعيش بينهم، وله حضور فاعل وعميق فيهم، ولذلك فردود الأفعال على قتله ستكون أشد خطراً على النظام من قتل صاحبيه، كما أن الملك لا يزال يتمنى بقاء الغلام حياً ليقوم بوظيفة الساحر التي كان يعد لها.
وحيث إن الغلام، وليس الراهب الذي كان معتزلاً للناس، هو رأس الدعوة الحقيقي بين الجماهير، فقد كان الملك جد حريص على أن يترك الدعوة، ويصور للناس بأنه ساحر وليس داعية إيمان، فيترك المؤمنون الدين، ويرجعوا إلى سابق عهدهم في التبعية والعبودية بالنسبة للملك، ولذلك جرى تأخير قتل الغلام عن صاحبيه لترهيبه، وأيضاً ترغيباً له حيث إنه شاب يافع له مستقبل باهر ينتظره، ولذلك لم يسارع الملك إلى شقه نصفين كما فعل بسابقيه، بل أطال مدة المراودة طيلة الطريق حتى ذروة الجبل على أمل أن يرجع عن دينه.
ومن شُراح الحديث كصاحب ( دليل الفالحين) من لفت إلى أن الضمير في أصحابه في قوله عليه الصلاة والسلام: ( فدفعه إلى نفر من أصحابه)، يحتمل أن يعود إلى الغلام أيضاً، وإن بدا هذا الاحتمال مرجوحاً لا راجحاً،  خاصة مع استخدام لفظ ( نفر ) والتي تشير إلى الجنود وهم رجال الملك لا أصحاب الغلام، فضلاً عن الاحتمال المتبادر برجوعه إلى الملك، فمن الطبيعي أن يكون أولئك النفر من أصحاب الملك الذين هم طوع أمره ومحل ثقته، لكن احتمال أن يكونوا من أصحاب الغلام له وجاهته أيضاً، فإن تسليط أصحاب الشخص وأقاربه ومحبيه وأصدقائه عليه قد يكون له تأثير أبلغ من تأثير الملك ورجالاته عليه، حيث إن الأصحاب يتكلمون بلغة النصح والحب والحرص على المصلحة كما يرونها، والإنسان ضعيف أمام مشاعر الحب وعلاقات القرابة، بينما يميل صاحب المبدأ إلى التحدي في مواجهة الخصوم والأعداء.
ولفت الأستاذ رفاعي سرور إلى:" أن أهم ملاحظة في تجربة القتل والتعذيب واللين، هي التعبير عن طلب الرجوع عن الدين أو المساومة فيه بصيغة المبنى للمجهول (فقيل ارجع عن دينك. ذلك للراهب والجليس الغلام)... وأما القتل فعلاً فجاء بصيغة الفعل المبني للمعلوم وهو الملك (فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه)، والسبب في ذلك هو أن المساومة مع أصحاب الدعوة لايتناسب مع الإرادة السياسية العليا، ولكن الجاهلية عندما ترغب في المساومة فإنها توكل بها مجهولاً يساوم خفية لكي لا يؤثر على مهابة الدولة، أما القتل والتعذيب فهو الأمر الذي يتفق مع تلك المهابة بل يزيدها"[1].
ويصل "الأصحاب"، بالغلام إلى ذروة الجبل ويظل متمسكا بدينه، ويتوجه إلى ربه سبحانه بالدعاء: ( اللهم اكفنيهم بما شئت)، قمة التفويض إلى الله تعالى وغاية التوكل عليه والتسليم له سبحانه.. ( اللهم اكفنيهم بما شئت)... " بأي كيفية يرضاها الله سبحانه وتعالى وبأي سبب يختاره عز وجل، فليس التوكل على الله عند المؤمن محدوداً بخبرة الواقع ودراسة الظروف؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لما استطاع الغلام أن يدعو بهذا الدعاء لأن الواقع لم يكن يحتمل أي تفكير، ولكنه التوكل بكامل حقيقته وجوهر معناه انطلاقاً إيمانياً لا يتقيد بضيق الواقع، وارتفاعاًَ وجدانياً لا يهبط بشدة الظروف، وعندما يتحقق التوكل... تتحقق الاستجابة بإذن الله[2]".
واللافت أن الغلام لم يستسلم للشهادة في سبيل الله بل كأنه فر منها، ذلك أن الشهادة على عظم أمرها وسمو قدرها ومكانتها ليست الغاية الأهم التي قام الدعاة لأجلها، بل هم قاموا لأجل تحرير الناس وتعبيدهم لربهم وإقامة الدين فيهم وتمكينه بينهم، وإذا ما تحول كل الدعاة إلى شهداء فمن عساه يقيمها ويقوم بها؟
إن ثمة فارقاً كبيراً بين تحول جميع الدعاة والمجاهدين إلى شهداء، وبين تحركهم بنفسية الشهداء والاستعداد للشهادة في كل لحظة إن لزم الأمر، والشهداء في كل المراحل، يكون لهم الدور الفاعل، والحاسم في أحيان كثيرة، في ترسيخ معاني التضحية والفداء وتعميق الإيمان بالفكرة، ومن ثم في تحقيق الانتصارات، لكن لا بد من بقاء واستمرار من يقيم الدين في الأرض ويرفع رايته بين الناس، إن العيش في سبيل الله تعالى لا يقل أهمية عن الشهادة في سبيله، إن حياة المؤمن، وأكاد أقول حياة الإنسان بعامة، هي خير له من الموت والوفاة، وما جدوى أن يُخلق المرء اليوم لتكون وفاته أو مقتله في اليوم التالي؟ وهو المعنى الذي يرشدنا إليه الرسول عليه السلام حين نهى أن يتمنى المرء الموت لضر أصابه، وأقصى ما يجوز له من الدعاء في ذلك أن يقول: ( اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي)، والملاحظ تعبير أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، ما يعني أن حياته واستمراها في الأصل خير للإنسان، وأن الاستثناء أن تكون تلك الحياة شراً له.
إن الشهداء الأوائل لهم الدور الأكبر فيمن يظل خلفهم، دون أن ننسى بأن المؤمن الواعي لا يسعى للشهادة المجردة بل حيث تكون تلك الشهادة أفعل في نصرة الدعوة، ولذلك وُصف المؤمنون بأنهم﴿ يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون فهم حريصون على هزيمة أعدائهم وقتل جنودهم قبل أن يُقتلوا شهداء، وقد رأينا خالد بن الوليد ينسحب بجيش مؤتة حتى ليعيرهم صبيان المدينة بأنهم الفرار، لكن يرد عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم الكرار إن شاء الله، وعلى إثر تلك المعركة التي انسحب فيها خالد من المعركة لقبه الرسول صلى الله عليه وسلم بسيف الله، وقد كان بإمكان خالد رضي الله عنه أن يظل في الميدان أمام الأعداد الغفيرة من جحافل الروم والذين يبلغون عشرات أضعافهم، حتى يستشهد جنود المسلمين عن آخرهم ثم لا يتبقى لدولتهم الفتية قوة ولا شوكة، لكنه ضن بهذه الثلة أن تضيع بمثل تلك المغامرة حتى كان هو نفسه من يديل دولة الروم في اليرموك.
إن حياة الداعية المجاهد هي أغلى ما يملك، والمطلوب منه أن يستثمر كل لحظة فيها لتحقيق ما هو مكلف به، ثم لا تكون شهادته إلا حيث يعتقد أنها ستؤدي إلى أعظم نصر للدعوة وإعزاز للدين، وإثخان في الأعداء وهزيمة لهم؛ ولذلك يؤجل الغلام طلب الشهادة مرة ومرة،
لقد كان بإمكان الغلام أن يغيب عن المشهد وينجو بنفسه بعد إذ نجاه الله تعالى من الملك في هذه المرة والمرة التالية، لكن مطلوب المؤمن الداعية المجاهد ليس نجاته شخصياً، بل هو يريد مزيداً من الحياة لمزيد من الدعوة وإقامة الحجة ونشر الدين ونصرته، إنه لم ينسحب كونه صاحب رسالة معنياً باستمرارها وبلوغها غاياتها، ولذلك لم يكن منه خروج من البلدة ولا قعود في بيته، بل يأتي الملك الذي يفاجأ به أمامه: ( ما فعل أصحابك؟ كفانيبهم الله تعالى)، قمة الإخلاص وعدم تضخم الذات بعطاءات الله تعالى وما يجريه على يديه لا سابقاً ولا لاحقاً، في السابق أكد: ( إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى)، واليوم أيضاً لا يقول إنه قدر عليهم أو تخلص منهم بل: ( كفانيهم الله تعالى)؛  إن الله تعالى هو الفاعل الوحيد والفعال لما يريد، هو المحيي المميت كما أنه هو الشافي وأنت أيها الملك لا حول لك ولا قوة، فلتصح من غفلتك ولتكف عن خداع نفسك والناس، فلست الرب، ولست المحيي المميت، كما أنك لست الشافي.
" وسبب عودته إلى الملك هو سبب طلبه للنجاة من أصحاب الملك فوق الجبل؛ وهو أن الدعوة لم تتم، وليست الحياة هدفاً يحرص عليه الدعاة إلا من خلال كونها ضرورة من ضرورات الدعوة، سواء أكان تحقيق هذه الضرورة يتطلب الحرص على الحياة أو الحرص على الموت.
" والذين يفسرون مصلحة الدعوة بالحرص على حياة الدعاة فحسب هم أصحاب التصور الناقص الذي لايعدو أن يكون فلسفة للجبن أو للارتداد عن سبيل الله.
" والذين يندفعون إلى الموت برغبتهم النفسية دون اعتبار لمصلحة الدعوة إنما يبددون بذلك الاندفاع والتهور طاقة الدعوة وإمكانياتها.
" وكما أن مصلحة الدعوة هي الحد الفاصل بين الجبن والشجاعة. فهي أيضاً الحد الفاصل بين الشجاعة والتهور، فالجبن هو عدم الاستعداد للتضحية، والتهور هو التضحية بلاضرورة أو منفعة، والشجاعة هي التضحية الضرورية النافعة، وعلى هذا لم يكن طلب الغلام للنجاة جبناً ولم تكن عودته إلى الملك تهوراً بل كان في كلا الموقفين شجاعاً حكيماً.
" (جاء يمشي إلى الملك).. لم تؤثر محنته على منهجه.. لم يحدث التصرف الذي غالباً ما يتصرفه بعض الدعاة بعد أن يعيشوا مرحلة من مراحل الخطر.. يخرجون من هذا الخطر وقد قرروا تفاديه في كل مواقفهم.. ويصبح هذا القرار أساساً في تحديد تصور جديد ومنهج جديد.
" لم يفعل الغلام ذلك بل عاد متمسكاً بمنهجه بصورة كاملة ودقيقة.. عاد إلى نفس النقطة التي كان عليها.. نفس الموقف الذي كان فيه.. موقف المواجهة مع الملك.. فقد تحقق للغلام إمكانية تلك المواجهة فلا يجوز التراجع ولا حتى التأجيل"[3].
 ولاحظ عبارة: ( وجاء يمشي إلى الملك)، ليس فقط بما توحيه من معاني التحدي والاستمرار على طريق الدعوة، بل كذلك ما سيؤديه مجيؤه ماشياً وعودته سالماً، بعدما  ذهب به رجالات الملك إلى الجبل ثم إلى البحر، في زفة إعلامية، يسير فيها بين جماهير المملكة، من تعزيز معاني بشرية الملك وعجزه، في مقابل قدرة الله تعالى المحيي المميت والشافي، ونصرته للغلام وأحقية الدين الذي يدعو إليه.. "فالله الشافي.. والله الكافي.. والله المحيي المميت.. حقائق لم يرددها الغلام كقضايا جدلية وكلامية، ولكنه ذكرها كحقائق نهائية ثابتة في واقع قائم بحيث لا يمكن ردها أو حتى مناقشتها"[4].
(فدفعه الى نفر من اصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر. فان رجع عن دينه والا فاقذفوه. فذهبوا به. فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت. فانكفات بهم السفينة فغرقوا. وجاء يمشي الى الملك. فقال له الملك: ما فعل اصحابك؟ قال: كفانيهم الله.)، هل شك الملك أن الغلام قد أفلت من أصحابه في طريق الجبل، لأنه ذهب "براً"، ما يعني أنه إن قدر على النجاة في البر فليس بمكنته أن ينجو من البحر؟ أم تراه يظن أن قدرة الله تعالى تتخلف عن الفعل في البحار، حيث يظن هو أن قوة الله تعالى مثل قوتهم وربما أقل وأضعف؟ بل نرى هذا وأمثاله، لقلة إيمانهم وعمى بصائرهم، يرون الآيات البينات ويظلون في غيهم سادرين، كما لحق فرعون بموسى وهو يجوز البحر، ومن قبل تعامى عن آيات الله الكبرى.
استوقف الكاتب في الحديث الشريف قول الملك (اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر)، وبعد دعاء الغلام يتابع الرسول عليه الصلاة والسلام: (فانكفات بهم السفينة فغرقوا)، وكان الكاتب لاحظ أن عدداً من الشراح وأصحاب المعاجم يذكرون بأن القرقور هو السفينة الطويلة، وكان السؤال لماذا يصف الرسول عليه السلام الشيء نفسه مرة باسم القرقور ومرة باسم السفينة، ثم بدا لي أن أبحث عن معنى القرقور في الشبكة العنكبوتية، فإذا هو قفص حديدي على شكل قبة من الأسلاك قاعدته مستديرة بها عصي للمحافظة على صلابتها وحماية القرقور من الانثناء توضع القبه فوق القاعدة المستديرة وتثبت بالأسلاك وفي القبة فتحتان متقابلتان: الأولى لدخول السمك تكون وسيعة في أولها وضيقة في آخرها وتسمى ( الفج )، والفتحة الثانية تسمى باب القرقور ويتم استخراج السمك من هذه الفتحة.
ويعتبر الصيد بواسطة القراقير إحدى طرق الصيد التقليدية المنتشرة فى دول الخليج العربية وتتم عملية الصيد بواسطة القراقير على مدار السنة وهذه الطريقة تستخدم في الأماكن الصخرية أو الطينية أو أماكن تواجد الشعاب المرجانية حيث يصعب استعمال الشباك فيها،
ويوضع ثقل أسفل القرقور مهمته تثبيت القرقور في القاع وهو عباره عن حجرين أو أكثر.
إن الذي ألجأ شراح الحديث وأصحاب المعاجم إلى تفسير القرقور بالسفينة، هو السياق الذي يتحدث عن حمل الغلام بالقرقور ثم إلقائه في وسط البحر، لكن معرفة حقيقة القرقور وأنه قفص حديدي ويوضع فيه ثقل من الحجارة لتثبيته في القاع، تفتح لنا آفاقاً جديدة في الفهم، حيث القرقور في السفينة والغلام محبوس بداخله كيلا يهرب، ثم يكون إلقاء القرقور وفيه الغلام في البحر كي يستقر في قاع البحر ولا يكون بإمكانه العوم ولا النجاة.
يقول الملك: (ماذا فعل أصحابك) حيث إنه لا يريد " أن ينسب الأصحاب إليه لأنهم منهزمون أمام الغلام، حتى لا يكون لهزيمته بأصحابه أمام الغلام حساسية تؤثر على ادعاء الربوبية لنفسه فقال: (ماذا فعل أصحابك؟) ولم يقل ماذا فعل أصحابي رغم أنهم أصحابه"[5].
" (قال الغلام: كفانيهم الله) ولعلنا نلاحظ أن قول الغلام للملك بعد النجاة: (كفانيهم الله).. كان مثل قوله قبل النجاة (اللهم اكفنيهم).
" نفس الكلمة التي قالها عند الضر فوق الجبل، قالها بعد كشف الضر واهتزاز الجبل، بلا زيادة ولا تغيير، فقد ينطلق لسان الإنسان عند الضر بكلمات اللجوء إلى الله والاستغاثة به فإذا ما انكشف الضر تتغير الكلمات والألفاظ ويدخل فيها إحساس الإنسان بنفسه وعمله ويفسر الكشف الإلهي لضره بمجهود بذله أو تصرف تصرفه"[6].




[1] رفاعي سرور، أصحاب الأخدود.
[2] رفاعي سرور، أصحاب اأخدود.
[3] رفاعي سرور، أصحاب الأخدود.
[4] رفاعي سرور، أصحاب الأخدود.
[5] رفاعي سرور، أصحاب الأخدود.
[6] رفاعي سرور، أصحاب الأخدود.

أصحاب الأخدود... عبر ودروس (7)

 يعترفون ... ولكن لا يتركون دينهم

طارق مصطفى حميدة

( فجئ بالغلام. فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل. فقال: إني لا أشفي أحدا. إنما يشفي الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب. فجئ بالراهب. فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى. فدعا بالمئشار. فوضع المئشار على مفرق رأسه. فشقه حتى وقع شقاه. ثم جئ بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى. فوضع المئشار في مفرق رأسه. فشقه به حتى وقع شقاه):
أي بني ... هي الكلمة ذاتها التي قالها الراهب للغلام، لكن الراهب كان صادقاً مخلصاً في قوله بكل ما تعنيه تلك الكلمة من حب واستعداد وتقبل أن يكون هو وإياه على قدم المساواة، لا بل وأن يتفوق الغلام عليه، ثم ينبهه إلى ما سيلقاه من مخاطر الطريق وعقباتها، ومن قبل كان يتابعه ويوجهه.
أما الملك؛ فأول دليل على أنه غير صادق في مقالته مبادرته إلى تعذيب الغلام كي يكشف له من الذي علمه الإيمان ودله على طريق التوحيد.
إذن فهي كلمات تلطف وتحايل  واستعطاف، ورجاء أن يقبل الغلام المساومة، ويجاري الملك بالقول إن ما يفعله وما يجريه الله على يديه كان سحراً ولا علاقة له بالدين، فتمضي الأمور على الوجه الذي خطط له الملك الذي يتمنى من كل قلبه أن يكون الأمر على هذه الصورة، وفيها ربما حالة من الإنكار والدهشة أن يكون الغلام الذي يُعدُّ ليكون ساحر الملك، فإذا به الذي يحمل لواء التوحيد والإيمان ويكون هو الذي يدعو الناس ويقودهم إلى تحدي الملك بدلاً من تطويعهم وتعبيدهم له.
"الملك الطاغوت يقول: (أي بني) كلمة كلها مكر وخبث وضغط على نفس الغلام، وإغراء لـه بالقرب منه بما يتضمن هذا القرب من مستقبل زاهر وحياة مترفة، ويقول الملك: (قد بلغ من سحرك ما تبرىء الأكمه والأبرص وتفعل ما تفعل؟) وقد حاول الملك بهذه العبارة أن يسرق ما كسبه الغلام من تقدير في نفوس الناس بأن يعود بتفسير أعمال الغلام إلى السحر الذي تعلمه من ساحر الملك الذي أتى الملك إليه بالغلام، وهذا ما يصنعه الذين لايريدون الاعتراف بالحق فيفسرونه بأي شيء غير الحق، وهذا ما فعله فرعون لما هزمه موسى فقال: {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} [طه:71]"[1].
لقد تابع الغلام الجليس بالإقرار بالإيمان أمام الملك، ما يعني أن هذا الإعلان لم يكن سلوكاً اضطرارياً فهو من جهة ضمن الخطة وهو من جهة أخرى تقدير الله تعالى لدعوته، ثم إنه ليس بوسع  قائد الدعوة أن يتخفى أو أن يخفي دعوته وقد جاءته الفرصة تسعى إليه سعياً بل تطير طيراناً.
( فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له ارجع عن دينك فأبى فجيء بالمئشار فوضع في مفرق رأسه حتى وقع شقاه):
لقد وقع ما حذر منه الراهب وانكشفت كل خيوط التنظيم حيث قد تبين للملك أن الراهب هو آخر حلقات التنظيم سواء بتعذيبه أم بالتحليل.
إن التنظيم والعمل السري مهما كان محكماً فليس عصياً على الانكشاف؛ فوسائل الأنظمة وأجهزتها في التحري والمتابعة والتحقيق والتعذيب لا يكاد يصمد أمامها سر ولا تنظيم، كما أن الضعف البشري والخطأ البشري عند كل المستويات وارد ومتوقع، وإن الاعتراف على هذا ممكن جداً وليس غريباً ولا مستحيلاً، وهو لا يعني، بالضرورة ضعف الإيمان ولا نقصان الثقة في صاحبه، بل لقد سمعنا أن إحدى الحركات المجاهدة كانت تطلب إلى أعضائها إذا أُلقي القبض على أحدهم أن يصبر لمدة أربع وعشرين ساعة  فقط حتى تأخذ الحركة احتياطاتها وتدبر أمرها، وذلك من شدة التعذيب الذي يمارسه النظام.
إن الأصل والهدف هو عدم الاعتراف وكشف أوراق التنظيم وهتك أسراره، كما أن الأصل أن يُعدّ الأعضاء، ومن قبلهم القيادات، على التحمل والصبر ومواجهة أساليب التحقيق، وكذلك اتخاذ التدابير الاحتياطية في العمل والحركة والاجتماعات لمنع الانكشاف، وللحركات في الظروف الصعبة طرائق في العمل واللقاء والتواصل غاية في السرية والحذر، لكن مع كل ذلك فليس غريباً انكشاف الأسرار وحلقات التنظيم، وقد رأينا كيف لحق فرعون بموسى مع أنه خرج بقومه سراً، كما أن قريشاً قد وصلت غار ثور مع كل الاحتياطات النبوية.
(ارجع عن دينك)

إن الهدف من الحملة ومن التعذيب هو رجوع المؤمنين عن دينهم، وما حملات التغذيب إلا وسائل ومقدمات لحصر المؤمنين وتحديد أشخاصهم وأعدادهم تمهيداً لردهم عن دينهم أو إبادتهم وبالتالي إبادة الدين الذي يحملون، كما يظن الطغاة المتألهون، وهو النهج نفسه الذي يستخدمه المستعمرون والطغاة مع المعارضين والمصلحين ودعاة التحرر ورجالات الثورة، إذ يقومون بمراودتهم للتخلي عن مبادئهم وترك العمل مع جماعاتهم وحركاتهم التغييرية، ولا يظنن الثائر أن عدوه سيتوقف عن حربه بعد اعترافه ودلالته على رفاقه، بل هي الخطوة الأولى التي سيتبعها حتماً الطلب إليه أن يترك رسالته الإصلاحية وتحركه الثوري وغايته في التحرير والاستقلال، ويعود إلى حاله الأول، أو يسقط في براثن الأعداء ولياً من أوليائهم وعوناً لهم على أهله وبني قومه.

إن الهدف النهائي إذن هو الرجوع عن الدين، وما عملية التحقيق وتتبع الخيوط التنظيمية إلا وسائل في الطريق لحصر العناصر التي غردت خارج السرب الملكي ليصار بعد ذلك إلى تخييرها، بين الموت والارتداد عن الدين، إذا صح لنا أن نطلق على هذه العملية تخييراً.
وكان البدء بالراهب لأنه رأس الدعوة وقائدها والقدوة المفترضة للغلام والجليس، فإذا حدث وارتد فما أيسر أن يرتد الذين وراءه، وإن لم يفعل وقُتل فإن الملك يتوقع أو يتمنى أن يكون في ذلك تخويف وإرهاب لأتباعه.
 إن وضع المنشار على الرأس والبدء بتحريكه ومنظر الدم النازل على الوجه، والجسم يكفي لتراجع الكثير عن مبادئهم وهذا يبين مقدار إيمان الراهب وأمثاله.
كما أنه في الوقت نفسه يدل على شدة نقمة وحقد الملك وجماعته ذلك أن الشخص الذي يُنشر رأسه لا تلبث روحه أن تفارق جسده بمجرد أن يصل المنشار إلى الدماغ بعد اختراق الجمجمة فما الداعي إذن للاستمرار في الشق بالمنشار حتى يقع شقا الرجل؟
إنه يدل أولا على شدة إجرام الطغاة الكفرة، وخلو قلوبهم من أي نزعة إنسانية.
كما يظهر هذا السلوك الإجرامي عمق حقدهم على الإيمان وأهله، وهو ما يعبر عنه قوله تعالى: ( وما نقموا منهم إلا يؤمنوا بالله العزيز الحميد)، إنها مشاعر الانتقام من جماعة كل جريمتهم أنهم آمنوا بالله ورفضوا الخضوع للطغاة المتألهين، حيث ملأ إيمانهم بالعزيز قلوبهم عزة وكرامة وأنفة وإباء، ولم يجدوا صفات الكمال إلا عند ربهم الحميد فرفضوا إسباغها على غيره سبحانه.
البداية كانت مع الراهب، فهو معلم الدعوة وقائدها الأصلي، ولعل الملك يرجو من وراء البدء به أن يرجع برجوعه عن الدين كل من الغلام والجليس وكل من آمن أو سيؤمن بدينه، لكن هذا الرجل العقائدي صاحب مبدأ، وحسبك أنه "راهب" ما يعني أن عمق صلته بالله تعالى، وطول تبتله بين يدي ربه تعالى، عاملان في الثبات والصمود، وهو يدرك حساسية موقعه وكونه القائد والقدوة والمعلم، ولن يقبل لنفسه التراجع عن دينه حتى ولو بالتقية، سيما وأنه لا يُقبل من الرموز والقدوات ما يمكن أن يقبل من المؤمنين العاديين.
وثمة هدف آخر من شق الراهب نصفين وهو أن يكون ذلك رادعاً للجليس والغلام، فوضع المنشار على الرأس والبدء بتحريكه، ثم منظر الدم النازل على الوجه والجسم، يكفيان لتراجع من يشاهدون الواقعة عن مبادئهم فضلاً عن تراجع من يقع عليه عملية النشر، لكن الذي جرى في القصة والذي يجري غالباً إن لم نقل دائماً، هو أن الشهداء الأوائل هم من يطلقون شرارة إشعال براكين التحدي والثورة ضد الظالمين، ولذلك لم يفلح قتل الراهب في تراجع الجليس أو الراهب.
( ثم جيء بجليس الملك، فقيل له ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه).
يراود الجليس ليرجع عن دينه لكنه يأبي فيشقه الملك مثلما فعل بالراهب، ليتأكد من جديد أن الملك ليس له صاحب ولا قريب، حيث لا يراعي هؤلاء القوم في مؤمن إلا ولا ذمة، فضلاً عن تعلق الموضوع بتهديد نظام الملك.
لقد لاحظنا كيف أن الجليس تحت التعذيب الشديد المتواصل قد دل على الغلام، كما اعترف الغلام تحت الظروف نفسها على الراهب، لكن الضعف عن تحمل السر لا يعني بالضرورة الانهيار الكامل الذي يؤدي بصاحبه إلى ترك الدين والرجوع عنه، ولعل مما ساعد الجليس على الثبات ثبات الراهب واستشهاده قبله، خلافاً لما أراده الملك، حيث تعزز لديه معنى أن الإيمان هو أعز شيء في الحياة، بل إنه أعز من الحياة ذاتها.
كما أن الخارقة التي كانت سبب إيمان الجليس هي عامل آخر في ثباته، ولعل شيئاً من الرغبة في تصحيح الخطأ والتكفير عن الاعتراف مما ساهم في ذلك الثبات.





[1] رفاعي سرور، أصحاب الأخدود.