السبت، 28 ديسمبر 2013

أصحاب الأخدود... عبر ودروس (8)


 نعم للشهادة ... ولكن ليس الآن
طارق مصطفى حميدة

 ( ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى):
 كان المتوقع بحسب التسلسل "التنظيمي" أو الدعوي، أن يؤتى بالغلام وليس الجليس بعد الراهب، لكن الذي جرى هو العكس، ذلك أن الجليس ومن قبله الراهب ليسا بتلك الأهمية للملك بينما يُعدّ الغلام ليكون ساحره، والملك بحاجة إلى ساحر، وقد تعلم الغلام من الساحر الكثير، ثم إن الساحر نفسه لم يعد له ذكر في القصة ما يعني أنه قد غاب حقيقة عن الحياة أو عن الوجود الفاعل وإمكانية أن يعلم تلميذاً آخر بدلاً من الغلام.
ثم إن الغلام هو الذي كان يتعامل مع الجماهير ويعيش بينهم، وله حضور فاعل وعميق فيهم، ولذلك فردود الأفعال على قتله ستكون أشد خطراً على النظام من قتل صاحبيه، كما أن الملك لا يزال يتمنى بقاء الغلام حياً ليقوم بوظيفة الساحر التي كان يعد لها.
وحيث إن الغلام، وليس الراهب الذي كان معتزلاً للناس، هو رأس الدعوة الحقيقي بين الجماهير، فقد كان الملك جد حريص على أن يترك الدعوة، ويصور للناس بأنه ساحر وليس داعية إيمان، فيترك المؤمنون الدين، ويرجعوا إلى سابق عهدهم في التبعية والعبودية بالنسبة للملك، ولذلك جرى تأخير قتل الغلام عن صاحبيه لترهيبه، وأيضاً ترغيباً له حيث إنه شاب يافع له مستقبل باهر ينتظره، ولذلك لم يسارع الملك إلى شقه نصفين كما فعل بسابقيه، بل أطال مدة المراودة طيلة الطريق حتى ذروة الجبل على أمل أن يرجع عن دينه.
ومن شُراح الحديث كصاحب ( دليل الفالحين) من لفت إلى أن الضمير في أصحابه في قوله عليه الصلاة والسلام: ( فدفعه إلى نفر من أصحابه)، يحتمل أن يعود إلى الغلام أيضاً، وإن بدا هذا الاحتمال مرجوحاً لا راجحاً،  خاصة مع استخدام لفظ ( نفر ) والتي تشير إلى الجنود وهم رجال الملك لا أصحاب الغلام، فضلاً عن الاحتمال المتبادر برجوعه إلى الملك، فمن الطبيعي أن يكون أولئك النفر من أصحاب الملك الذين هم طوع أمره ومحل ثقته، لكن احتمال أن يكونوا من أصحاب الغلام له وجاهته أيضاً، فإن تسليط أصحاب الشخص وأقاربه ومحبيه وأصدقائه عليه قد يكون له تأثير أبلغ من تأثير الملك ورجالاته عليه، حيث إن الأصحاب يتكلمون بلغة النصح والحب والحرص على المصلحة كما يرونها، والإنسان ضعيف أمام مشاعر الحب وعلاقات القرابة، بينما يميل صاحب المبدأ إلى التحدي في مواجهة الخصوم والأعداء.
ولفت الأستاذ رفاعي سرور إلى:" أن أهم ملاحظة في تجربة القتل والتعذيب واللين، هي التعبير عن طلب الرجوع عن الدين أو المساومة فيه بصيغة المبنى للمجهول (فقيل ارجع عن دينك. ذلك للراهب والجليس الغلام)... وأما القتل فعلاً فجاء بصيغة الفعل المبني للمعلوم وهو الملك (فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه)، والسبب في ذلك هو أن المساومة مع أصحاب الدعوة لايتناسب مع الإرادة السياسية العليا، ولكن الجاهلية عندما ترغب في المساومة فإنها توكل بها مجهولاً يساوم خفية لكي لا يؤثر على مهابة الدولة، أما القتل والتعذيب فهو الأمر الذي يتفق مع تلك المهابة بل يزيدها"[1].
ويصل "الأصحاب"، بالغلام إلى ذروة الجبل ويظل متمسكا بدينه، ويتوجه إلى ربه سبحانه بالدعاء: ( اللهم اكفنيهم بما شئت)، قمة التفويض إلى الله تعالى وغاية التوكل عليه والتسليم له سبحانه.. ( اللهم اكفنيهم بما شئت)... " بأي كيفية يرضاها الله سبحانه وتعالى وبأي سبب يختاره عز وجل، فليس التوكل على الله عند المؤمن محدوداً بخبرة الواقع ودراسة الظروف؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لما استطاع الغلام أن يدعو بهذا الدعاء لأن الواقع لم يكن يحتمل أي تفكير، ولكنه التوكل بكامل حقيقته وجوهر معناه انطلاقاً إيمانياً لا يتقيد بضيق الواقع، وارتفاعاًَ وجدانياً لا يهبط بشدة الظروف، وعندما يتحقق التوكل... تتحقق الاستجابة بإذن الله[2]".
واللافت أن الغلام لم يستسلم للشهادة في سبيل الله بل كأنه فر منها، ذلك أن الشهادة على عظم أمرها وسمو قدرها ومكانتها ليست الغاية الأهم التي قام الدعاة لأجلها، بل هم قاموا لأجل تحرير الناس وتعبيدهم لربهم وإقامة الدين فيهم وتمكينه بينهم، وإذا ما تحول كل الدعاة إلى شهداء فمن عساه يقيمها ويقوم بها؟
إن ثمة فارقاً كبيراً بين تحول جميع الدعاة والمجاهدين إلى شهداء، وبين تحركهم بنفسية الشهداء والاستعداد للشهادة في كل لحظة إن لزم الأمر، والشهداء في كل المراحل، يكون لهم الدور الفاعل، والحاسم في أحيان كثيرة، في ترسيخ معاني التضحية والفداء وتعميق الإيمان بالفكرة، ومن ثم في تحقيق الانتصارات، لكن لا بد من بقاء واستمرار من يقيم الدين في الأرض ويرفع رايته بين الناس، إن العيش في سبيل الله تعالى لا يقل أهمية عن الشهادة في سبيله، إن حياة المؤمن، وأكاد أقول حياة الإنسان بعامة، هي خير له من الموت والوفاة، وما جدوى أن يُخلق المرء اليوم لتكون وفاته أو مقتله في اليوم التالي؟ وهو المعنى الذي يرشدنا إليه الرسول عليه السلام حين نهى أن يتمنى المرء الموت لضر أصابه، وأقصى ما يجوز له من الدعاء في ذلك أن يقول: ( اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي)، والملاحظ تعبير أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، ما يعني أن حياته واستمراها في الأصل خير للإنسان، وأن الاستثناء أن تكون تلك الحياة شراً له.
إن الشهداء الأوائل لهم الدور الأكبر فيمن يظل خلفهم، دون أن ننسى بأن المؤمن الواعي لا يسعى للشهادة المجردة بل حيث تكون تلك الشهادة أفعل في نصرة الدعوة، ولذلك وُصف المؤمنون بأنهم﴿ يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون فهم حريصون على هزيمة أعدائهم وقتل جنودهم قبل أن يُقتلوا شهداء، وقد رأينا خالد بن الوليد ينسحب بجيش مؤتة حتى ليعيرهم صبيان المدينة بأنهم الفرار، لكن يرد عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم الكرار إن شاء الله، وعلى إثر تلك المعركة التي انسحب فيها خالد من المعركة لقبه الرسول صلى الله عليه وسلم بسيف الله، وقد كان بإمكان خالد رضي الله عنه أن يظل في الميدان أمام الأعداد الغفيرة من جحافل الروم والذين يبلغون عشرات أضعافهم، حتى يستشهد جنود المسلمين عن آخرهم ثم لا يتبقى لدولتهم الفتية قوة ولا شوكة، لكنه ضن بهذه الثلة أن تضيع بمثل تلك المغامرة حتى كان هو نفسه من يديل دولة الروم في اليرموك.
إن حياة الداعية المجاهد هي أغلى ما يملك، والمطلوب منه أن يستثمر كل لحظة فيها لتحقيق ما هو مكلف به، ثم لا تكون شهادته إلا حيث يعتقد أنها ستؤدي إلى أعظم نصر للدعوة وإعزاز للدين، وإثخان في الأعداء وهزيمة لهم؛ ولذلك يؤجل الغلام طلب الشهادة مرة ومرة،
لقد كان بإمكان الغلام أن يغيب عن المشهد وينجو بنفسه بعد إذ نجاه الله تعالى من الملك في هذه المرة والمرة التالية، لكن مطلوب المؤمن الداعية المجاهد ليس نجاته شخصياً، بل هو يريد مزيداً من الحياة لمزيد من الدعوة وإقامة الحجة ونشر الدين ونصرته، إنه لم ينسحب كونه صاحب رسالة معنياً باستمرارها وبلوغها غاياتها، ولذلك لم يكن منه خروج من البلدة ولا قعود في بيته، بل يأتي الملك الذي يفاجأ به أمامه: ( ما فعل أصحابك؟ كفانيبهم الله تعالى)، قمة الإخلاص وعدم تضخم الذات بعطاءات الله تعالى وما يجريه على يديه لا سابقاً ولا لاحقاً، في السابق أكد: ( إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى)، واليوم أيضاً لا يقول إنه قدر عليهم أو تخلص منهم بل: ( كفانيهم الله تعالى)؛  إن الله تعالى هو الفاعل الوحيد والفعال لما يريد، هو المحيي المميت كما أنه هو الشافي وأنت أيها الملك لا حول لك ولا قوة، فلتصح من غفلتك ولتكف عن خداع نفسك والناس، فلست الرب، ولست المحيي المميت، كما أنك لست الشافي.
" وسبب عودته إلى الملك هو سبب طلبه للنجاة من أصحاب الملك فوق الجبل؛ وهو أن الدعوة لم تتم، وليست الحياة هدفاً يحرص عليه الدعاة إلا من خلال كونها ضرورة من ضرورات الدعوة، سواء أكان تحقيق هذه الضرورة يتطلب الحرص على الحياة أو الحرص على الموت.
" والذين يفسرون مصلحة الدعوة بالحرص على حياة الدعاة فحسب هم أصحاب التصور الناقص الذي لايعدو أن يكون فلسفة للجبن أو للارتداد عن سبيل الله.
" والذين يندفعون إلى الموت برغبتهم النفسية دون اعتبار لمصلحة الدعوة إنما يبددون بذلك الاندفاع والتهور طاقة الدعوة وإمكانياتها.
" وكما أن مصلحة الدعوة هي الحد الفاصل بين الجبن والشجاعة. فهي أيضاً الحد الفاصل بين الشجاعة والتهور، فالجبن هو عدم الاستعداد للتضحية، والتهور هو التضحية بلاضرورة أو منفعة، والشجاعة هي التضحية الضرورية النافعة، وعلى هذا لم يكن طلب الغلام للنجاة جبناً ولم تكن عودته إلى الملك تهوراً بل كان في كلا الموقفين شجاعاً حكيماً.
" (جاء يمشي إلى الملك).. لم تؤثر محنته على منهجه.. لم يحدث التصرف الذي غالباً ما يتصرفه بعض الدعاة بعد أن يعيشوا مرحلة من مراحل الخطر.. يخرجون من هذا الخطر وقد قرروا تفاديه في كل مواقفهم.. ويصبح هذا القرار أساساً في تحديد تصور جديد ومنهج جديد.
" لم يفعل الغلام ذلك بل عاد متمسكاً بمنهجه بصورة كاملة ودقيقة.. عاد إلى نفس النقطة التي كان عليها.. نفس الموقف الذي كان فيه.. موقف المواجهة مع الملك.. فقد تحقق للغلام إمكانية تلك المواجهة فلا يجوز التراجع ولا حتى التأجيل"[3].
 ولاحظ عبارة: ( وجاء يمشي إلى الملك)، ليس فقط بما توحيه من معاني التحدي والاستمرار على طريق الدعوة، بل كذلك ما سيؤديه مجيؤه ماشياً وعودته سالماً، بعدما  ذهب به رجالات الملك إلى الجبل ثم إلى البحر، في زفة إعلامية، يسير فيها بين جماهير المملكة، من تعزيز معاني بشرية الملك وعجزه، في مقابل قدرة الله تعالى المحيي المميت والشافي، ونصرته للغلام وأحقية الدين الذي يدعو إليه.. "فالله الشافي.. والله الكافي.. والله المحيي المميت.. حقائق لم يرددها الغلام كقضايا جدلية وكلامية، ولكنه ذكرها كحقائق نهائية ثابتة في واقع قائم بحيث لا يمكن ردها أو حتى مناقشتها"[4].
(فدفعه الى نفر من اصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر. فان رجع عن دينه والا فاقذفوه. فذهبوا به. فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت. فانكفات بهم السفينة فغرقوا. وجاء يمشي الى الملك. فقال له الملك: ما فعل اصحابك؟ قال: كفانيهم الله.)، هل شك الملك أن الغلام قد أفلت من أصحابه في طريق الجبل، لأنه ذهب "براً"، ما يعني أنه إن قدر على النجاة في البر فليس بمكنته أن ينجو من البحر؟ أم تراه يظن أن قدرة الله تعالى تتخلف عن الفعل في البحار، حيث يظن هو أن قوة الله تعالى مثل قوتهم وربما أقل وأضعف؟ بل نرى هذا وأمثاله، لقلة إيمانهم وعمى بصائرهم، يرون الآيات البينات ويظلون في غيهم سادرين، كما لحق فرعون بموسى وهو يجوز البحر، ومن قبل تعامى عن آيات الله الكبرى.
استوقف الكاتب في الحديث الشريف قول الملك (اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر)، وبعد دعاء الغلام يتابع الرسول عليه الصلاة والسلام: (فانكفات بهم السفينة فغرقوا)، وكان الكاتب لاحظ أن عدداً من الشراح وأصحاب المعاجم يذكرون بأن القرقور هو السفينة الطويلة، وكان السؤال لماذا يصف الرسول عليه السلام الشيء نفسه مرة باسم القرقور ومرة باسم السفينة، ثم بدا لي أن أبحث عن معنى القرقور في الشبكة العنكبوتية، فإذا هو قفص حديدي على شكل قبة من الأسلاك قاعدته مستديرة بها عصي للمحافظة على صلابتها وحماية القرقور من الانثناء توضع القبه فوق القاعدة المستديرة وتثبت بالأسلاك وفي القبة فتحتان متقابلتان: الأولى لدخول السمك تكون وسيعة في أولها وضيقة في آخرها وتسمى ( الفج )، والفتحة الثانية تسمى باب القرقور ويتم استخراج السمك من هذه الفتحة.
ويعتبر الصيد بواسطة القراقير إحدى طرق الصيد التقليدية المنتشرة فى دول الخليج العربية وتتم عملية الصيد بواسطة القراقير على مدار السنة وهذه الطريقة تستخدم في الأماكن الصخرية أو الطينية أو أماكن تواجد الشعاب المرجانية حيث يصعب استعمال الشباك فيها،
ويوضع ثقل أسفل القرقور مهمته تثبيت القرقور في القاع وهو عباره عن حجرين أو أكثر.
إن الذي ألجأ شراح الحديث وأصحاب المعاجم إلى تفسير القرقور بالسفينة، هو السياق الذي يتحدث عن حمل الغلام بالقرقور ثم إلقائه في وسط البحر، لكن معرفة حقيقة القرقور وأنه قفص حديدي ويوضع فيه ثقل من الحجارة لتثبيته في القاع، تفتح لنا آفاقاً جديدة في الفهم، حيث القرقور في السفينة والغلام محبوس بداخله كيلا يهرب، ثم يكون إلقاء القرقور وفيه الغلام في البحر كي يستقر في قاع البحر ولا يكون بإمكانه العوم ولا النجاة.
يقول الملك: (ماذا فعل أصحابك) حيث إنه لا يريد " أن ينسب الأصحاب إليه لأنهم منهزمون أمام الغلام، حتى لا يكون لهزيمته بأصحابه أمام الغلام حساسية تؤثر على ادعاء الربوبية لنفسه فقال: (ماذا فعل أصحابك؟) ولم يقل ماذا فعل أصحابي رغم أنهم أصحابه"[5].
" (قال الغلام: كفانيهم الله) ولعلنا نلاحظ أن قول الغلام للملك بعد النجاة: (كفانيهم الله).. كان مثل قوله قبل النجاة (اللهم اكفنيهم).
" نفس الكلمة التي قالها عند الضر فوق الجبل، قالها بعد كشف الضر واهتزاز الجبل، بلا زيادة ولا تغيير، فقد ينطلق لسان الإنسان عند الضر بكلمات اللجوء إلى الله والاستغاثة به فإذا ما انكشف الضر تتغير الكلمات والألفاظ ويدخل فيها إحساس الإنسان بنفسه وعمله ويفسر الكشف الإلهي لضره بمجهود بذله أو تصرف تصرفه"[6].




[1] رفاعي سرور، أصحاب الأخدود.
[2] رفاعي سرور، أصحاب اأخدود.
[3] رفاعي سرور، أصحاب الأخدود.
[4] رفاعي سرور، أصحاب الأخدود.
[5] رفاعي سرور، أصحاب الأخدود.
[6] رفاعي سرور، أصحاب الأخدود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق