السبت، 3 أغسطس 2013

الاحتفال بالمولد [1]

للأستاذ علي الطنطاوي (رحمه الله)

المستشار في محكمة النقض

 

 - 1 -
            رأيت للاحتفال بالمولد في دمشق صوراً شتى. الصورة الأولى قديمة جداً، ولكنها لا تزال واضحة في نفسي.
            كنت صغيراً، وكنا نسكن في «العقيبة»، في دار من هذه الدور المتلاصقة المتداخلة، المبنية من اللبن والطين، على غير هندسة ولا نظام، وكان أهل الحارة كلهم كأبناء الأسرة الواحدة، يتشاركون في الأثاث والمواعين، ويتقاسمون الأفراح والأتراح، فجاء جيراننا يوماً يستعيرون منا السجاد والمصابيح والكراسي، يحملونها إلى دارهم، فعجبتُ وسألتُ، فقالوا: أن عندهم «مولد».
            وصعدت العشية على «الطبلة»، -«الطبلة» في عامة أهل الشام جدار رقيق من أعواد الخشب تسترها طبقة من الطين- وجعلتُ أنظر ماذا في بيت الجيران، فإذا أنا أرى الغرف و«المَشرَقة» قد فرشت كلها بالسجاد، وعلقت فيها الأضواء، لا أعني الكهرباء، فلم تكن قد دخلت يومئذ البيوت، ولكن «الكازات»  من كل لون وشكل، من «الشمعدانات» التي توضع على «الكِتْبِيّات» وذوات المرايا التي تركز على الحيطان، و«الكازات» الكبيرة التي تعلّق كالثريات. وامتلأت الدار بعشرات من النساء يختلن بجديد الثياب، ثم وضعت في وسط المجلس أوعية كبيرة فيها أوراق ملونة ملفوفة على هيئة الورد، وجاءت امرأة كبيرة فقعدت في الصدر، وجعلت تقرأ شيئاً لم أكن أدري ما هو، وكلما سكتت سكتة غنت الحاضرات غناء رخواً ممططاً، ثم وزعت الأوراق، وأرسل إلينا منها، فرأيت فيها الفستق «الملبّس» بالسكر.. وعلمت بعدُ أن الذي قرأته هو «مولد العروس».
            وكان المولد يُقرأ كلما ولد مولود، أو قدم مسافر، أو شفي مريض، أو قضيت حاجة، وربما نذروه نذراً، وربما وصلوه بـ«ليلية»، و«الليلية» في عُرف تلك الأيام، حفلة غناء وطرب، يغني فيها من يحسن الغناء من القريبات والصديقات، وإن كانت في دار الموسرين الذين لا يبالون الخلق والدين، دعوا بعض المغنيات المحترفات، وكنّ قليلات، ومن غير المسلمات.
- 2 -
            ومرت أيام فسمعت يوماً ضجة من المئذنة، لا هي بالأذان «المشروع» ولا هي بالتذكير «المبتدع»، وتبينت في الضجة غناء مستعجل الأداء، متوثب النغمة، حفظت منه هذه الكلمات:
طه[2] ياحبيبي       سلام عليك – سلام عليك
يا مسكي وطيبي          سلام عليك – سلام عليك
فسألت أمي، ما هذا؟ فقالت: مولد!
قلت: أين الأضواء؟ وأين الملبس؟ وأين النساء؟
قالت: هذا مولد المئذنة.
فعرفت أن المولد نوعان، وأن مولد المئذنة غير مولد البيت. وعلمت بعد ذلك، أن من أراد تلاوة هذا المولد، أعطى المؤذن شيئاً من المال، فصعد المنارة فصدح به، وبما قام به الواحد أو الجماعة، ولكل من ذلك سعر، ولا تزال هذه البدعة المؤذية في بعض الأحياء إلى الآن، يأتي بها المؤذن في أي ساعة من ليل أو نهار، لا يبالي بنائم يوقظه، ولا بمريض يزعجه، ولا بمشغول يعطله، ولا بدين يشرع فيه ما لم يأذن به الله!
- 3-
            ولما كبرت ودخلت المدرسة، قال لي رفاقي يوماً:
            -امشِ إلى الأموي نحضر المولد.
            قلت: مولد النساء، أو مولد المئذنة؟
            قالوا: لا هذا ولا ذلك، ولكن مولد الجامع.
            وذهبت أنظر إلى ضرب ثالث من الموالد، فوجدت على باب الجامع حرساً شديداً، يأذنون للرجال، ويمنعون النساء والأولاد، فمشينا إلى الباب الثاني فمُنعنا، ووجدنا باب العمارة ما عليه إلا «حسكي»[3] واحد، فغافلناه ودخل واحد منا، فلحقه الحسكي يطرده، فدخل الباقون، وصاح بنا ولحقنا، فاحتمينا بالحرم.
            ووجدنا الناس متحلقين تحت القبة، وأوعية الملبّس في الوسط، وكانت كبيرة، وكانت كثيرة، وحضر الحكام والوزراء فقعدوا على السدة اليمنى مما يلي المحرات، وجاء الضباط الفرنسيون (وكان ذلك في أعقاب ميسلون) فصعدوا من الدرج الدوار إلى السدة العليا، التي يقوم عليها المؤذنون، وجاء شيخ فقرأ مثلما قرأت المرأة في مولد البيت، ولكنه كان (كما علمت بعد) مولداً آخرا اسمه (مولد البرزنجي)، وكان كلما قرأ فصلاً من فصوله المسجّعة، قال:
عطر اللهم قبره الكريم                   بعرف شذيّ من صلاة وتسليم
اللهم صلي وسلم وبارك عليه.
            ثم غنى المغنون قصائد فيها ذكر الوصل والهجر، والحب والجمال، وأشياء من هذه البابة[4] قالوا إنها مدح للرسول صلى الله عليه وسلم!
            فلما بلغ خبر الولادة – وبدأت سيرته صلى الله عليه وسلم، لم يسرد سيرته كما ينتظر كل عاقل أن يكون، قطع الكلام ووقف وقام الناس يقرؤون الصلاة الإبراهيمية بنغمة عجيبة...
            ثم داروا بالملبّس، وتزاحم الناس عليه – وتكاثروا، حتى ألقوا الصرر على الأرض، وألقوا بأنفسهم عليها، والفرنسيون ينظرون إلينا ويضحكون علينا...
- 4 -
            ثم صرت أذهب مع أبي[5] وجماعة العلماء من إخوانه، إلى دارالسيد محمد بن جعفر الكتاني، وكان يسكن في دار من دور الأمراء الجزائريين، في زقاق النقيب في العمارة، وكانت قاعات الدار كلها، وصحنها وإيوانها، تمتلئ يوم المولد بالناس، وفي كل قاعة جفنة عظيمة (منسف) فوقه خروف كامل، فكان الناس يدخلون فيأكلون وينصرفون، ويجيء غيرهم، ويجدد الخروف. وكان الشيخ يقرأ شيئاً من الشفاء للقاضي عياض أو نحوه من الكتب، فكان لوناً جديداً من ألوان الاحتفال بالمولد.
 - 5 -
            ثم كانت سنة 1925، وكانت البلاد تتمخض بالأحداث، وتتشوف إلى الثأر لموقعة ميسلون، وكان حادث (أدهم خنجر) والتجائه إلى حمى (سلطان الأطرش)، وخفر الحكومة جوار سلطان، وهجومه على المخفر وانتزاعه البلد من الدرك، وجاء يوم المولد على أثر ذلك، ولم يكن الشاميون يحتفلون به احتفالاً شعبياً من قبل، ولكنهم وجدوا فيه في ذلك العام منفذاً لغضبهم المكتوم، فتسابقت أحياء دمشق إلى إخراج المظاهرات الكبيرة، وكان هتافها أول الأمر:
صلى الله على محمد        صلى [الله] عليه وسلم
على النغمة المعروفة، ينقسم المتظاهرون قسمين، هذا يقول جملة، وذلك يرد بالجملة الأخرى، ثم أخذوا يهتفون بالاستقلال، وبالدعوة إلى الثورة، وأنا أحفظ من هتافهم يومئذ قولهم:
قم يا «سراي»[6] وارحل عنا             عندنا رجال بارودهم غنّى
واشتد الهياج ومزقت الأعلام الفرنسية وديست، وكان صدام وعراك وجرحى، فلما كان الليل بدأ الثوار يخرجون إلى الغوطة، فكان يوم المولد مولد الثورة.
- 6 -
            وفي ربيع الأول منه 1350هـ، أرادت جمعية الهداية الإسلامية (وكان قد مرّ على  إنشائها شهور) أن تحتفل بيوم المولد، فاقترحتُ عليها لوناً جديداً من الموالد، هو أن أعدّ محاضرة ألقيها إلقاء بدلاً من المولد المسجع الذي يتغنى به غناء، ووافق أعضاؤها بعد تردد، وكان الحفلة في قاعة المحاضرات في المجمع العلمي العربي، ومهدت لذكر الولادة، وحملت الناس على الوقوف وقراءة الصلاة الإبراهيمية على نحو ما ألفوا في المولد.
            وقد طبعت هذه المحاضرة ووزعت على الحاضرين، ونجحت التجربة، ولكنها لم تتكرر.
- 7 -
            ومنذ سنة 1920 أخذ الاحتفال بالمولد شكلاً آخر، فصار مباراة بين الأحياء في نصب الأقواس الكبيرة في مدخل كل حي، والأقواس الصغيرة أمام كل دكان، وتزيينها بأغصان الشجر وبالسجاد، وبمصابيح الكهرباء تشغل الليل كله، وكانت الحركة الوطنية على أشدها، يديرها رجال الكتلة الوطنية، ويحركها الطلاب. وكنت ريئس لجان طلبة دمشق، فكان أسبوع المولد سلسلة حفلات في كل حي حفلة يتصدرها كلها الوطنيون. أذكر منهم هاشم الأتاسي وشكري القوتلي وزكي الخطيب ولطفي الحفار وإخوانهم. وكان خطباؤهم من الكهول هؤلاء الزعماء والشيخ بهجة البيطار وجودة المارديني، وكنت أخطب بيها أنا وطائفة من الشباب.
            وتحول الاحتفال من «موالد» وملبس وغناء، إلى اجتماعات وطنية تنتهي دائماً بمظاهرات صاخبة وصدام مع قوى الانتداب.
- 8 -
            وفي سنة 1943 كان المدير العام للأوقاف صديقنا الكبير جميل الدهان، فاقترحت عليه أن يجعل الاحتفال الرسمي بالمولد في جامع بني أمية، محاضرة في سيرته، وقصيدة في مدحه، وكان ذلك، وألقيتُ أنا المحاضرة والشاعر أنور العطار القصيدة، وافتتح الحفلة شيخ القراء الشيخ محمد الحلواني، والقارئ الشيخ عبده العربيني، رحمهما الله، ولكن لم يتركوا المولد والغناء جملة، بل أبقوا فصلاً منه، يقرأ على الأسلوب القديم، واستمر العمل على ذلك إلى اليوم.
- 9 -
            ولما تم الاستقلال، واستقرت الحال، كثر المتعلمون، المطلعون على ما كان عليه السلف، فعلموا أن الاحتفال بالمولد ليس قربة لذاته، وليس عبادة من العبادات المقصودة، ولكنه باب للدعوة إلى الله، والتذكير به، ولم يكن السلف يحتفلون به، لأنه ليس عيداً شرعياً، فالأعياد في الإسلام اثنان: الفطر والأضحى، لا ثالث لهما، ولأنهم كانوا يذكرون الله دائماً، ويتدارسون سيرة رسوله في كل يوم، فلم يكونوا يحتاجون إلى يوم معين يجعلونه للتذكير والدرس.
            ورأى هؤلاء المتعلمون أن سيرة كل عظيم تبدأ بمولد، وقراء هذه الموالد يختمون إذا ذكر المولد. وإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف أنه نبي، وما كان يدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولما جاءه الوحي لم يعرف ما هو حتى خبّره به ورقة بن نوفل، وهذه الموالد تزعم أن جدّه عرف أنه نبي، وأمه عرفت أنه نبي، حتى الوحوش عرف نبأ نبوته عند ولادته وتباشرت به.
            ورجعوا إلى كتب الحديث، يقابلون ما في هذه الموالد عليها، فرأوا أن أكثر هذه الأخبار التي ترويها الموالد لم يصحّ به الخبر عن رسول الله.
            ونظروا في هذه الأغاني التي يدعونها الأناشيد النبوية، فرأوا في بعضها الكفر وفي بعضها ما هو قلة أدب وإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وفتحوا كتب الفقه ينظرون ما حكمها فرأوا فيها كراهيتها والتنفير منها. فتركوا ذلك كله، وجعلوا حفلات المولد محاضرات في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخطباً تصف عظمته، وقصائد في تمجيده، ولعل هذه المحاضرات تنسق وترتب حتى تستوعب السيرة كلها، فتجمع هذه الحفلات المتفرقة، في أسبوع يخصص كل سنة لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، على نحو ما كان في «أسبوع المتنبي» و«أسبوع المعري» و«أسبوع الجاحظ» وغيرهم، ممن كانوا هم وأمثالهم جميعاً ثمرة الروضة التي غرسها محمد.
- 10 -
            على أن الاحتفال الحق بمولد الرسول، إنما يكون بالاقتداء به، والاهتداء بهديه، والرجوع إلى الكتاب الذي نزل عليه،  والوقوف عند حدوده، وإحلال حلاله، وتحريم حرامه، وأن يكون في كل بيت كتاب في سيرته، يقرأ الأب فصلاً منه كل ليلة على أولاده حتى يسلكوا سبيله، ويتخلقوا بأخلاقه، فيكون العمر كله احتفالاً بذكرى المولد، وتعظيماً لها.
            هذا هو الطريق، فإن لم تسلكه – كان ما يلقي الخطباء في هذه الحفلات، وما يسمع الناس منها، حجة عليه. نسأل الله التوفيق في الدنيا والنجاة في الآخرة.

[1]  مجلة حضارة الإسلام،  العدد الثالث، ص 29-36 ، آب 1961م
[2]  طه ليس من أسماء الرسول. فمن سمى ولده طه أو ياسين، فكأنما سماه حا ميم أو ألف لام ميم.
[3]  الحسكي خادم الأموي خاصة، وهي كلمة عامية لعلها منسوبة الحسكة وهي الشمعدان عند المغاربة..
[4]  من هذه البابة أي من هذا القبيل.
[5]  توفي رحمه الله في شعبان سنة 1343 هـ.
[6]  الجنرال سراي المفوض السامي الأحمق المجرم الذي أمر بضرب دمشق بالمدافع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق