طوفان الشام
(4)
الجولان وسوريا الجديدة – قضية تتجدد
لعقود طويلة، شكّلت هضبة الجولان المحتلة
جبهةً صامتة—رمزًا لفقدان السيادة السورية وتمزّق الكرامة الوطنية. فمنذ احتلالها
عام 1967 خلال حرب الأيام الستة، ثم إعلان ضمّها من قبل إسرائيل عام 1981 (وهو
إجراء أبطله قرار مجلس الأمن رقم 497)، ظلّت هذه الأرض منسية في الخطاب الرسمي
السوري، تُستخدم كشعارٍ فارغ أكثر من كونها هدفًا استراتيجيًا.
تحت حكم حافظ الأسد ومن بعده بشار، لم
يُطلق رصاص واحد من الجبهة الجنوبية بعد اتفاق فضّ الاشتباك عام 1974. بالنسبة
لإسرائيل، كان هذا الوضع مثاليًا: نظامٌ مستقر يمكن التنبؤ بتصرفاته، لا يشكّل
تهديدًا حقيقيًا، بل يمثّل حزام أمان. لكن كل ذلك تغيّر مع
اندلاع الثورة السورية.
الثورة تعيد تعريف
السيادة
لم تكن استعادة الجولان في صدارة شعارات
الثورة عند انطلاقها عام 2011، إذ انشغل المتظاهرون بحرية الداخل وكرامته. إلا أن
الثورة أعادت تشكيل وعيٍ وطنيٍ جديد، يرى أن التحرر الداخلي لا يكتمل دون استعادة الأرض
المغتصبة، وأن السيادة الحقيقية لا يمكن تجزئتها.
ومع سقوط نظام الأسد في أواخر عام 2024،
تفكّك التوازن الذي ساد المنطقة لعقود. الدولة السورية الجديدة، التي صيغت بإرادة
الشعب وتضحياته، أعادت الجولان إلى مركز الخطاب السياسي والثقافي، ليس كأداة تفاوض
بل كركيزة للهوية الوطنية.
مأزق استراتيجي
لإسرائيل
إن انهيار النظام السابق ترك إسرائيل في
مواجهة جارٍ جديد غير قابل للتوقع. النظام البائد كان يؤمّن الهدوء، أما سوريا
الثورية فهي دولة شعب، تتحدث باسم مواطنيها، لا تقايض الأرض بالحماية، ولا تخضع
لصفقات تحت الطاولة.
وتدرك إسرائيل أن التهديد الجديد ليس
عسكريًا فحسب، بل أيديولوجي أيضًا. فسوريا التي أطاحت بنظامٍ مدعوم من روسيا
وإيران، وتمسكت بوحدتها رغم الجراح، قادرة على إحياء وعيٍ شعبيٍ عربيٍ يتجاوز حدود
سايكس بيكو.
من الشعارات إلى
الفعل
في يناير 2025، أعلنت الحكومة الانتقالية
السورية أن الجولان "أولوية وطنية غير قابلة للتفاوض". وشكّلت لجنة خاصة
بشؤون الجولان، وأُطلقت حملات توعوية في المدارس والجامعات والمراكز الثقافية.
وظهرت الجداريات التي تُصوّر قرى الجولان المدمّرة في ميادين إدلب ودرعا وحلب.
وفي الجولان المحتل ذاته، حيث يرفض معظم
الدروز الحصول على الجنسية الإسرائيلية، ظهرت بوادر تفاعل جديد مع الدولة السورية
الوليدة. حملات توثيق، ومبادرات ثقافية، ومؤشرات على تواصل سريّ يعكس وحدة
الانتماء والهوية.
المسار القانوني
والدبلوماسي
تقدّمت الحكومة الثورية بشكوى قانونية إلى
محكمة العدل الدولية في مارس 2025، تتضمن أدلة موثّقة على عمليات التهجير، مصادرة
الأراضي، والاستيطان القسري. كما أعادت إحياء ملف القرار 497 في الأمم المتحدة،
وطالبت بإعادة تفعيله ضمن حملة دبلوماسية متعددة الأطراف.
وفي مشهد غير مسبوق، قدّم خبراء قانونيون
سوريون، بالتعاون مع منظمات دولية، ملفًا يطعن بشرعية الضمّ أمام محافل حقوقية.
وبذلك تحوّلت قضية الجولان من شعارٍ إلى مطالبةٍ شرعية مدعومة بالقانون الدولي.
التعبئة الشعبية
والثقافية
يتميّز هذا العصر الجديد بالحراك الشعبي
من الأسفل للأعلى. أنتج المخرجون السوريون أفلامًا وثائقيةً عن مهجّري الجولان،
ونُظمت مسرحيات عن الأسر المفصولة بالاحتلال. وفي وسائل التواصل، تصدّر وسم
#العودة_إلى_الجولان منصات الشباب والشتات.
لم تعد القضية محصورةً ببياناتٍ رسمية؛ بل
أصبحت جزءًا من وجدان الأمة السورية. وعبر هذا الحراك، برزت الدولة الثورية كأمين
على الذاكرة والعدالة، لا كسلطةٍ مؤقتة.
العقيدة العسكرية
الجديدة
رغم تأكيد الحكومة الجديدة مرارًا أنها لا
تسعى لحروب، إلا أنها تدرك أن الدفاع عن السيادة يتطلب الاستعداد. وفي مارس 2025،
اعتمد المجلس العسكري الموحّد عقيدةً دفاعية جديدة تركّز على الجبهة الجنوبية.
القادة العسكريون الجدد—كالعقيد قاسم
الدرني—أوضحوا في مقابلات إعلامية أن سوريا ما بعد الثورة ترى في الجولان قضية
ردع، لا وسيلة حرب. جيشها الجديد لا طائفي، ولا تابع لأي محور خارجي، بل جيش وطني
تحت إشراف مدني.
اختبار الاستقلال
السوري
أصبحت قضية الجولان اختبارًا لمصداقية
الثورة، ومقياسًا لعدالة المجتمع الدولي. هل سيعترف الغرب بحق سوريا الثورية في
استعادة أرضها؟ أم ستظل الحسابات الجيوسياسية تتغلّب على مبادئ القانون والعدالة؟
السوريون يعرفون أن الطريق طويل. لكنهم
أيضًا يدركون أن الثورة لم تكن فقط لإسقاط طاغية، بل لاستعادة وطن كامل. واسترجاع
الجولان—بالقانون، بالثقافة، أو بالردع—سيكون شاهدًا على بقاء القيم التي أطلقت
شرارة التغيير.
المصادر والمراجع
1. وكالة فرانس برس: "سوريا تودع ملف
الجولان لمحكمة العدل الدولية"، مارس 2025.
2. الجزيرة العربية: "الثورة السورية
والجبهة المنسية: الجولان من جديد"، ديسمبر 2024.
3. هآرتس: "كيف تحوّل الجولان إلى ورقة
مساومة بيد الأسد"، يوليو 2019.
4. هيثم سليم: "العقيدة العسكرية
السورية الجديدة وتداعياتها الإقليمية"، مركز كارنيغي، أبريل 2025.
5. هيومن رايتس ووتش: "الجولان المحتل:
المصادرة والمقاومة"، أكتوبر 2023.
6. مركز الدراسات الأمنية
(INSS): "تقييم استراتيجي 2025: إسرائيل وسوريا ما
بعد الأسد"، فبراير 2025.
7. سوريا اليوم: "إحياء الجولان:
التعليم والثقافة الثورية"، فبراير 2025.
8. المجلس الانتقالي السوري: بيان الأولويات
الوطنية، يناير 2025.
9. قرار مجلس الأمن رقم 497 (1981): رفض ضم
إسرائيل للجولان.
10. العربي الجديد: تقارير ميدانية حول الجنوب
السوري ما بعد الأسد، 2025.
11. مركز دراسات الجمهورية السورية:
"الجولان في الذاكرة الوطنية السورية"، إسطنبول، 2020.
12. زمان الوصل: شهادات من نشطاء وسكان
الجولان المحتل، 2024–2025.
13. يزيد صايغ، "مآزق الإصلاح والمقاومة
في العالم العربي"، مؤسسة كارنيغي، 2021.
14. تشارلز غلاس، "سوريا تحترق: تاريخ
موجز لكارثة"، دار فيرسو، 2016.