أما تاريخ أمتنا القديم، فقد
كتبته شعوبُ هذه الأمة بإيمانها، وشهد عليها في ذلك ضمير المسلم الحي،
وعيون الدينا المأخوذة بهذا التاريخ العظيم. لقد شهد العالم كله على هذا
التاريخ يوم كتب فيه: أن هذه الأمة ولدت بمولد هذا الدين، وتوحدت يوم
آمنت كلها بنبيه ورسالته، وخطت في طريق الخلود يوم قامت في الدنيا تنشر
حضارته الزاهرة، في يمينها كتاب الله... تبدد به سجف الظلام، وفي شمالها
سيف الحق... لا تنهزم معه أمام دولة الباطل.. فكانت حضارة وكان تاريخ..
ولقد علم كل أحد في الدنيا أن من
مزايا هذا الدين الخالد: الوضوح التام المطلق الذي لا يعترف معه بالحجب
والرموز، ولا بالأسرار والخفايا «لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ليلها
كنهارها، لا يضل عنها إلا هالك»، فكما تشرق الشمس على الدنيا مضيئة
لامعة، تشرق الشريعة في نفس المسلم وضاءة وهاجة، فيعمل في النور، ويخطو
في النور، يستمد من بساطة العقيدة سهولة النفس، ومن إشراقها صدق
المعاملة، ومن توحيدها المطلق الاستقامة على الطريق.. لا تقية ولا باطنية
ولا كذب ولا نفاق، ليست العصمة لغير الأنبياء، ولا الطاعة في غير
المعروف، ولا الحكم بغير الشورى، ولا سلطان بحق موروث، فلا كسروية ولا
قيصرية.. ولكنها البيعة تؤخذ على رؤوس الأشهاد.
ومن أن ولد في هذه الأمة ، وعلى
أنقاض الخلاف السياسي الأول – موالاة الحسب والنسب، تحت ستار رقيق من
التشيع لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ذر قرن الخلاف في أطراف هذه
الأمة الوليدة، وتطور الأمر – أو هكذا خطط له أولاً – إلى السير في شعب
بعيدة عن خط العقيدة السليمة التي جاء بها الإسلام سافرة واضحة، فكتب
تاريخ هذه الأمة في صفحته السوداء.. الظاهر والباطن، والعصمة والتقية،
والملل والنحل، كما كتب على بعض من يدي الانتساب إلى دينها، الطعن على
صحابة رسول الله، وحملة دينه الأوائل، والذين أرسوا دعائم الإسلام في
حنايا الصدور، وحملوا دعوته إلى فجاج الأرض.
ولقد عملت هذه المذاهب التي آمنت
بالظاهر والباطن، عملها في تهديم دولة الإسلام، وتشويه مبادئه ونظمه، مما
يحفظه التاريخ عبرة لكل ذي عينين، وما يوم هولاكو وتآمر هؤلاء معه على
إسقاط الخلافة وقتل مليون وثمانمائة ألف مسلم – ودوس خليفة المسلمين
بالأقدام حتى الموت.. ليس هذا اليوم –وغيره كثر- عنا ببعيد.. وإن مضى
عليه سبعة قرون.. لأن أحداثه ماثلة في أذهاننا.. والحضارة تسقط، والكتب
تغرق أو تحرق.. والملايين تساق إلى حتفها سوق القطيع!
ذلك يوم، وهذا يوم، والإسلام
يستأنف في طريق النور، وأعداؤه لا يزالون يخبطون في كهوف الظلام، ذاك
يوم، وهذا يوم، والمؤمرات تحاك ضد الإسلام والمسلمين في هذه الكهوف
الآثمة المظلمة.. التي يعيش فيها أناس يحملون الإسلام تقية، ويحاربونه
حقيقة، ويندسون بين أشياعه بنسب مزور، وضمير مكذوب.
وتاريخنا العظيم الأمين حفيظ لنا
كل هذا عبرة وعظة ودرساً قاسياً، حفظ لنا وجوه الشر باسودادها وأغوارها،
وبالنفاق المر الذي تقول فيه الشفتان «نعم» عندما يقول القلب من ورائها
«لا»، كما حفظ لنا وجوه الإيمان ببشرها وأنسها، وذكائها الذي قرأت فيه
سطور النفاق، وقوتها التي حطمت به أركانه الظاهرة والباطنة.
فمن لتاريخنا الحديث يكتب على
الدنيا أحدائه ووقائعه، بأمانة المؤرخ، وصدق المسلم، فيبين عن دعوات
الإصلاح ودعوات الإفساد، وعن تاريخ الحروب والثورات وكفاح هذه الأمة مع
الصليبية والاستعمار؟
هذه الثورات الرائعة التي قامت
في العالم الإسلامي، من أقصاه إلى أقصاه، في سبيل الخلاص من المستعمر
الغشوم الظلوم، من يكتب عن هذه الثورات فيم قامت؟ ومن أي دين قبست؟ وأي
غاية كانت إليها تسعى وفي سبيلها تقاتل؟
هل الذين خططوا لها مؤمنون أم
منافقون؟ وهل الذين اكتووا بنارها عرب مسلمون، أم ملاحدة متفرنجون؟ ومن
أي شيء استمدت هذه الثورات «ثوريتها» وقبست جذوة كفاحها؟ أمِن كفاح
الإسلام عبر القرون؟ أم من كفاح ماركس ولينين وواشنطن ونابليون؟ وهل قامت
هذه الثورات في سبيل الزعماء والرؤساء؟ أم في سبيل الله ونصره دينه
وشريعته؟
أما نحن، فالذي نكتبه هنا: إنه
الإسلام دين الكفاح، وإنه محمد بن عبد الله رائده، وإنها الشهادة في سبيل
الله وحده، وبعد هذا.. ليقل من شاء ما شاء، فلقد علم التاريخ صدق الذي
نقول.
وهذه البلاد التي حررتها الثورات
من الاستعمار والاستعباد! من ورثها بعد ثوراها؟ وبأي شيء حكمت ثمثاً
لانتصارها؟ هل حكمت بما قامت من أجله هذه الثورات؟ سلوا أندونيسيا
والجزائر، وباكستان وسهولها، والجزائر وجبالها. سلوها اليوم وسلوا
غيرها.. إن عندكم من أخبار أمسها الدامي ما تعرفون به أمسها الدامي
وحاضرها الباكي.
ثم هذه الدعوات والرسالات،
والمبادئ والشعارات، من سيؤرخ لها بصدق؟ هذه الدعوة المباركة المكافحة!
من لتاريخ نضالها على أرض النار في فلسطين، وعلى ضفاف القنال في مصر؟ من
لثوارها الذين حملوا شعلة الكفاح في مقدم الركب، فحرروا العقل من الوهم،
والدين من الخرافة، والأمة من الجهل، والبلاد من استعمار الدخيل، وتسلط
المحترفين للسياسة، المستغلين لجهود الكادحين؟ هؤلاء الثوار الأوائل
الذين أعطوا لكلمة الحق معنى القوة، ولكلمة القوة معنى الحياة، فوهبوا
لأمتهم الحياة الرائعة.. وسقطوا هم في ساحة الجهاد، شهداء بدمائهم، أو
مثخنين بجراحهم..
من لهذا الأمة يؤرخ لها بصدق
تاريخ دعوات الإصلاح ودعوات الإفساد.. هذه التي اشترى الشيطان روحها،
وباعت دينها، واستوردت لأمتها المبادئ الدخيلة والمذاهب المنحولة، فمكّنت
من نفوسها عبودية الذل، ومن أمتها عبودية التبعية، ثم قلبت الحقائق وشوهت
المفاهيم، وأفسدت الضمائر والعقول..
يا شباب الأمة المكافحة! إن
أمتكم التي وهبتم لها سواعدكم القوية بالأمس، في حاجة إلى سواعدكم القوية
وأقلامكم الأمينة.. اليوم. اكتبوا لأنفسكم تاريخكم المعاصر.. وسيحفظ
التاريخ غداً ما تكتبون، لأنكم لسان أمتكم الناطق وقلمها المعبر، وسترون
أن أمتكم جميعاً تكتب ما تكتبون.. والمستقبل الزاهر لكم «وعلى الله قصد
السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين».
ع . م
مجلة حضارة الإسلام، العدد الثاني، السنة
الرابعة، أيلول 1963 (مقال الافتتاحية ص6-3)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق