الأحد، 4 أغسطس 2013

في رحاب الخالدين يوسف بن يحيى البويطي

بقلم الفضيل 


            قال أحد أصحاب الشافعي وقد تحلقوا من حوله في مرض موته يواسونه ويستوصونه:
- من الذي تحب أن يخلفك من بعدك في حلقة العلم والدرس؟ فأومأ إلى أبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي قائلاً:
- هذا.. ليس ثمة أعلم منه بين أصحابي.
وتوفي الإمام الشافعي، فكان الإمام البويطي هو الذي يملؤ من بعده مكان الدرس والإفتاء والتعليم بما أوتي من غزارة العلم وقوة الاجتهاد واستقامة في الدين.
            حتى إذا ذرّ قرن الفتنة التي قادها المأمون من أجل القول بخلق القرآن، طُلب إليه أن يعلن موافقته لذلك، فأبى واستعصم بما استيقنته نفسه مما لزمته عامة أهل السنة والجماعة، وأعلن عن عقيدته هذه في حلقة درسه، موطناً نفسه لما قد تلقاه من أذى في سبيل ذلك. فحمل إلى السجن مخفوراً مقيداً، ووضع في الأغلال معذباً مضطهداً، ليراد ممالاة أولي الحكم والنفاق لهم. غير أنه لم ينزل عن الحق الذي تربع فيه إلى الباطل الذي أكره عليه قيد شعرة، وقد كان بوسعه أن يستخرج الفتاوى المصطنعة ويلفق المصالح المخترعة ليتخلص من عذاب الأغلال ووحشة السجن وفنون الاضطهاد وليعود بالربح في المال والجاه والتقرب من أولى الحكم والسلطان. ولكنه لم يتزحزح عن عرش حقه قيد أنملة وصبر على الضراء محتسباً.
            كان إذا أقبل يوم الجمعة، غسل ثيابه، واغتسل للجمعة، ثم جر جسمه المثقل بالقيود والأغلال جراً، حتى إذا بلغ الباب، قال له السجان: إلى أين؟ فيقول: أجيب داعي ربي! فيقول له السجان: ارجع رحمك الله، فينفتل عائداً، وهو يقول: اللهم لقد بذلت جهدي لاستجابة دعائك وتلبية ندائك.. فلا تؤاخذني بما لا طاقة لي به..
            وأخبر الربيع قال: رأيت البويطي وفي رجله أربع حلق، قيود، فيها أربعون رطلاً، وفي عنقه غل مشدود إلى يده.
            غير أنه كان يشعر بشيء أثقل من هذه الأرطال كلها عليه، هو ثقل الحق الذي أنبط به.. لقد كان ثقل الحق والأمنة الذي يشده إلى ركن شديد من العزيمة والثبات والصبر أقوى من ثقل أصفاد الباطل الذي يريد أن يشده إلى باطل الحكام وأهوائهم. من أجل ذلك خفت عند نفسه أثقال الأغلال والسلاسل وصبر عليها مخلصاً محتسباً، تماماً كما هو شأن كل عالم حملَ أمانة العلم والدعوة في عنقه.
            ولم يشفق عليه هوى الحكام الذين أرادوه على مالا يوقن به.. فظل في محبسه ذاك ينبض قلبه بالصبر والثبات، ويلهج لسانه بالشكر والحمد، إلى أن توفي في سجنه عام 231 ضارباً لدعاة الإسلام المثل الأكبر في صيانة الحق الذي يدعون إليه، ومهيباً بهم أن لا يستبدلوا عنه مصلحة دنيوية أو غرضاً عابراً أو جاهاً زائلاً.

مجلة حضارة الإسلام، العدد الثاني، السنة الرابعة، أيلول 1963، ص 64-65

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق