عبد العظيم البسيوني
إن تاريخ البشرية منذ خلق الله آدم إلى يومنا هذا ليشهد بالحق أنه لم تحدد لأمة
أوصاف وسمات مميزة بقدر ما حدد للأمة الإسلامية في شكل تكاليف محددة ونتائج مقدرة،
طبقاً لتنزيل محفوظ، وهدي متواتر سُنَّةً واجتهاداً.
فيصفها الحق سبحانه وتعالى بالاعتدال (وسطاً) لأن الفضيلة دائماً وسط بين
رذيلتين، فيقول وهو أصدق القائلين: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على
الناس ويكون الرسولُ عليكم شهيداً) (البقرة: 143).
وهي بهذه الوسطية، وبما تؤديه من فعل ملتزم بالتنزيل والسنة، توصف بأنها أفضل
وأزكى أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله.
ويحدد لها تكاليف للدعوة إلى الله على بصيرة، وفي شكل جماعة تظلها راية التوحيد،
فيأمرها الحق سبحانه: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر، وأولئك هم المفلحون) (آل عمران: 104).
وكل هذا محدد بأسلوب لا يزيغ، رتَّبه الحق بما يضمن لهذه الأمة القيام بدورها
كاملاً. فمهمة رسولها مرسومة بخطوات تربّيها، وتزكّيها، وتسمو بها حتى تكون أهلاً
لمكانتها بين الأمم.
ومَنَّ الله بهذه النعمة على أمة الإسلام فيقول سبحانه: (لقد مَنَّ الله على
المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم أياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب
والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) (آل عمران: 164).
كل هذا التحديد الدقيق للأمة المسلمة والسبيل المحدد المرسوم من حكيم خبير، جعل
الأمة صاحبة فعل مستقل، وإرادة قوية، ودور بارز لأن النهج موحى به من الله الذي
تؤمن به وحده، ولا تشرك به أحداً، ولأن الحكم لله، ولأن أمر الأمة كله لله، وعملها
إليه وحده تبتغي به رضاه.
وهذه المقدمة معلومة تماماً لكل مسلم، ومطروقة لا جديد فيها، إنما كانت ضرورية
لنتعرف على موقف أمة الإسلام مع بداية القرن الخامس عشر الهجري.
وهو يحمل مع أول يوم فيه أحداثاً سريعة تهز كيان هذه الأمة، وتصيبها بضربات
متلاحقة تلهث في متابعتها، ونزلزل مع وقوعها، فمن احتلال لأفغانستان المسلمة، إلى
مسالمة مع قتلة الأنبياء والمرسلين، إلى تمزّق بين جماعات وأفراد الأمة المسلمة.
أفعال
لا ردود أفعال
وبتدبر المسلمِ للمقدمة، وباسترجاع المؤمن لتاريخ الدعوة الإسلامية منذ وقف
المصطفى صلى الله عليه وسلم يدعو الناس لكلمة التوحيد إلى يومنا هذا نجد:أن الأمة
الإسلامية يعزها الله، ويؤيدها بنصره المبين،ويحقق لها وعده الصادق، ومن أصدق من
الله وعداً قطعه على ذاته العلية في محكم آياته فيقول سبحانه: (وعد الله الذين
آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم،
وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعدهم خوفهم أمناً يعبدونني لا
يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) (النور: 55).
كل هذه النتائج تتحقق إذا صدرت أعمال هذه الأمة طبقاً لنهج الله المحدد وكانت
أفعالاً مستقلة لا رد فعل أعدائها. هذا القول يؤيده تاريخ طويل بدأ في مكة قبل
الهجرة، حيث انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة التوحيد المنزّه، وتبعت هذه
الدعوة ردود الأفعال من المشركين الذين يملكون كل شيء: المال والولد، السلطة
والجاه، الشجاعة والبلاغة. وبدأت الأفعال المستقلة للمسلمين الأوائل تصدر بعيدة عن
ردود الفعل، بل على العكس، فإن كل ما حولهم كان هو رد الفعل لأفعالهم.
وكانت النتيجة أنْ مكّن الله للمستضعفين، وبدأوا يتزايدون يوماً بعد يوم، وكان كل
واحد منهم يعدل من حوله من المشركين جميعاً حتى صدرت ردود أفعالهم بطيش وحماقة
مزّقت وحدة الشرك وزلزلت جبروته، فترنحت خطواتهم، وذهب كيدهم، ورغماً عن أنفهم
بدأت أول جماعة مسلمة تتكون في المدينة المنورة (يثرب) تحت بصرهم وهم عاجزون.
واستمرت الأمممة المسلمة في فاعليتها يصد ر عنها الفعل المستقل يدعو إلى التوحيد
عقيدة، وإلى الإسلام ديناً، وخرجت لتقطع على تجارة المشركين طريقها واستطاعت هذه
التجارة الانفلات من المسلمين، ليكون رد فعل المشركين نداء للحرب ليتقابل الفعل مع
المسلمين مع رد الفعل من المشركين، وكان من الله القوي العزيز النصر للمسلمين.
وتوالت الغزوات حتى فتح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة لتنتهي دولة
الشرك، وينتهي رد الفعل لتتفرغ الدعوة لما يحيط بها من شرك وكفر وقوتين أعظم،
تتربص بهذا الوليد الذي بدأ يذيع صيته، وهو الأمة المسلمة.
وانتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، واشتد البلاء على الخليفة
الأول رضي الله عنه من ردة وتكذيب، وقوتين أعظم، فلم يشغله كل فعل حوله عن استمرار
الفاعلية، وصدور أفعال الأمة الإسلامية عن عمل مستقل هو الدعوة ونشرها، وتمكين دين
الله الذي ارتضى لعباده في الأرض ليظلهم بعدله، ويرزقهم من فضله، ويضمن لهم الأمن
بعد الخوف، والنور بعد الظلمة، والعلم بعد الغفلة، والهداية بعد الضلالة.
جيوش
الخير
وجهز الخليفة الأول ثلاثة عشر جيشاً خرجت جميعها تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف،
وتنهى عن المنكر، ودانت لها الجزيرة العربية، وانتصرت على القوتين الأعظم، وأتم
الله النصر في عهد الخليفة الثاني رضي الله عنه.
هكذا خرجت الأمة بفاعلية بعيدة عن ردود الفعل وأطلت على المعمورة شرقاً من حدود
الصين، وغرباً إلى حدود الأندلس، وشمالاً من البحر الأسود، وجنوباً إلى المحيط
الهندي، كل هذا خلال قرن من الزمان. واستمرت فاعلية الأمة المسلمة ثلاثة قرون تدعو
إلى الله على بصيرة، ولا تنسى مهمتها المحددة من الله لإسعاد البشر جميعاً، طالما
استظلوا بحكم هذه الأمة مهما كان لونهم، ومهما كان دينهم، وعقيدتهم، طالما يدفعون
الجزية ولا يُساعدون عدواً.
ولما انصرفت الأمة المسلمة عن فاعليتها، ونسيت مهمتها، وأصبحت هي الفعل التابع
لأعدائها، تتوقى ضرباتهم العسكرية، انحسر الإسلام عن أوربا، وضُيّع في أفريقيا،
وكُبِّل في أواسط آسيا، واضطُهد في شرقها، وترنّح في الهند ليتقوقع في باكستان.
ونشط أعداء الإسلام في تهدئة رد الفعل حيث لاحظوا أنه غالباً ما يكون بنفس قوة
الفعل، فأفاقت وردّت التتار، وصحَت لترد همجية الصليبية.
لقد بدأ الغزو الفكري ذو النبرات الخفيضة حتى يكون رد فعل الأمة الإسلامية بنفس النبرات
التي لا تزيد عن شكوى، أو نكتة تفرغ رد الفعل هذا، واستطاعت الصليبية العالمية،
والإلحاد العالمي واليهود أن يمزقوا الأمة إلى قوميات، لتشيع عصبية الجاهلية
الأولى ولتتفرق الأمة عن أصل جماعتها ودينها، وزرع في وسطها وطن لليهود ويجري زرع
وطن للصليبية المارونية.
هل
توقظنا الفتن؟
فهل بعد هذا الهوان الذي نعيشه، والضنك الذي نحياه، ترجع الأمة المسلمة إلى
فاعليتها، وتصدر عنها أفعال مستقلة حددها الحق بدعوة إلى التوحيد عقيدة وإلى
الإسلام ديناً، وأن تبتعد عن ردود الأفعال، حتى لا تضل ولا تزيغ عن دورها؟ وحتى لا
يتبدد جهدها كله في ردود أفعال لا طال منها غير صرفها عن دورها؟ فأعداؤها يعلمون
خطورة قيامها بدورها فعلاً مستقلاً غير تابع وغير منعكس وهم يقدرون مواطن قوتها
خيراً مما يقدره المنتمون حالياً إليها، لهذا يحرصون على صرفها عن التنزيل والسنة
بإدخال المسلمين في جدل حول الفروع، وخلاف حول الحواشي، والعلاج كما حدده رسولنا
صلى الله عليه وسلم يكمن في الالتفاف حول كتاب الله وفي الالتزام بسنته. فيقول
المصطفى صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم فيه لن تضلوا بعدي أبداً،
كتاب الله وسنّتي). ويقول في حديث طويل: (والذي بعثني بالحق نبياً لتفترقن
أمتي عن أصل دينها وجماعتها على اثنتين وسبعين فرقة كلها ضالة مضلة يدعون إلى
النار، فإذا كان ذلك فعليكم بكتاب الله).
فهل تفيقنا الفتن والأهوال التي تحيط
بنا أن نفر إلى الله ونتبع النور الذي أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، ونلتزم
بالسنة، وألا نتولى إلا الله ورسوله والمؤمنين؟ وأن نكون بحق الأمة التي
تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتخرج من دائرة الذين لا
يتناهون عن منكر فعلوه؟
وإني لأظنها البشير في إحداق الخطر من خارجنا ومن داخلنا وفيما نحن فيه من زلزلة،
إذا ما صدقنا وعد الله ورسوله، وعملنا على تحقيقه، وجاهدنا مخلصين لإعلاء كلمة
الله، وقاتلنا طالبين الشهادة أو النصر متأسين ومقتدين برسول الله صلى الله عليه
وسلم وصحبه رضي الله عنهم يوم الأحزاب: (ولما رأى المؤمنون الأحزابَ قالوا هذا
ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً. من
المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمن من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما
بدلوا تبديلاً) (الأحزاب: 22-23)
مجلة
الأمة، العدد 3، ربيع أول 1401 هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق