الأحد، 4 أغسطس 2013

دروس مستفادة من القرن الماضي




د. أحمد عسال


بين يدي القرن الخامس عشر
ومنهج المسلم في الاعتبار بالتاريخ

قلت للرجل الواقف على الباب العام: أعطني نوراً أستضيء به، فقال: ضع يدك في يد الله فإنه سيهديك سواء السبيل. نعم: فإننا على أبواب عام جديد وقرن جديد وليس هناك أفضل ولا أجلّ من نور الله وهدْيه نستفتح به ونستلهمه الدرس والعبرة، فإنه سبحانه نور السموات والأرض ويهدي لنوره من يشاء ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور. وقد جعل نوره في محكم كتابه: (لقد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) (المائدة 15)، وإذا قصَده عبادُه ويمّموا وجهتهم إليه شرح صدورهم، وسطع نور  الحق بين جنباتهم فأصبح الحق دليلهم وهاديهم، أليس هو القائل، وقوله الحق: (أفمن شرح اللهُ صدرَه للإسلام فهو على نورٍ من ربّه، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين) (الزمر 22).
          ولقد كان من نور الحق الذي نزل على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في محكم التنزيل أنْ قص علينا خبر أنبيائه وظروف أممهم وما جرى معهم من حوار وجدال، وما وقع من صراع ومعارك، ليتربى وعيُ المسلم على إدراك جوانب النفس البشرية واستيعاب ظروفها في حالة الصحة والفساد ولِيَفهم المجتمعات الإنسانية في حال القوة والانحطاط لتكون حصيلته من ذلك التاريخ حصافة تقيه المزالق، وفطنة تأخذ بيده إلى مواطن القوة والنهوض، وتمكّنه من الدعوة والجهاد (لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب. ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) (يوسف 111).
          ولقد جاء القصص القرآني –وهو القصص الحق- مستوعباً تاريخ الأمم التي قصّ علينا خبرها في كل الجوانب النفسية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بطريقة محكمة رائعة لا تبلى جدتها ولا تنتهي عبرتها. انظره وهو يتكلم عن أثر الاستبداد السياسي في الأمم فيقول في أعقاب حديثه عن معركة بدر عن آل فرعون في سورة الأنفال: (كدأب آلِ فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب. ذلك بأن الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم) (الأنفال 52),
          وهنا المجتمع كله وافق على الخطأ وتابع المخطئين فكان الأخذ والانتقام وكانت العبرة والسّنّة التي مضى عليها نظام الخالق عز وجل.
          إن الله عز وجل لا يبدل نعمته عن قوم، ولا يرسل نقمته إليهم إلا عند حدوث الانحراف والبعد عن الصراط المستقيم، وبالمثل لا يحصل النهوض والارتقاء والخير والصلاح إلا إذا أقلع الناسُ عما فيهم من سوء وتخلوا عما بهم من اعوجاج وأخذوا بأسباب القوة النفسية والأخلاقية (طسم. تلك آيات الكتاب المبين. نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون لقوم يؤمنون. إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إن كان من المفسدين. ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكّن لهم في الأرض ونُرِيَ فرعونَ وهامان وجنودهما منهم ماكانوا يحذرون) (القصص 1-3).
          وقد جاءت أحداث سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم في حركته في الدعوة إلى الله وتربية أصحابه وجهاده وحكمه وسياسته وفي سيرة الراشدين المهديين من بعده والدعاة والمجددين ممن مضوا على أثره واقتفوا نهجه مصدقة ومؤكدة لسنن الله عز وجل في قيام المجتمعات ونهوضها، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
          وكان في فضل الله عز وجل علينا أن سجّل لنا أحداث سيرة نبيه ومصطفاه وقيام المجتمع الإسلامي الأول، وجعل هذا السجل وحياً يتلى، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا تأتي عليه يد التحريف ولا التبديل ليظل مصدر معرفة وإلهام ببشريته وواقعيته في حال صوابه فيُقتدى بذلك عالمية الإسلام وختمه للرسالات، وليصبح العقل الإسلامي مؤسَّساً على قواعد مضبوطة ومناهج سليمة في وزن الأمور وتقويمها، فلا تزيغ به الأهواء ولا تلوي عنقه الشهوات، فالتاريخ الأسوة أمامه مشربلاً ثوب الشهود والحضور والأشخاص والأحداث، والصور النفسية والاجتماعية بكل ملابساتها ومعاناتها في حالات العسر واليسر والنصر والهزيمة، والإيمان والنفاق والفقر والغنى. وصدق الله إذ يقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذَكَر اللهَ كثيراً) (الأحزاب 21).
          ويظل ما جاء في القرآن بهذا الخصوص موضع التذكر الدائم، والفهم المستمر، من مثل قوله الله عز وجل: (وإذكروا إذ أنتم مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) (الأنفال 26). وقوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان ذلك على الله يسيراً) (الأحزاب 9). وقوله عز وجل: (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين. وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسلاً يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) (القصص 58-59). وقوله عز وجل: (فكأيّن من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد. أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (الحج 45-46). إلى آخر ما صرّف الله في القرآن الكريم من آيات بينات ولائل شاهدات وعظات بالغات.
تاريخ القرن الرايع عشر، وذاكرة الأمة
          ومن هنا فامتداد تاريخ الأمة على أساس من عقيدتها ومن رسالتها في الحياة وتسجيله على أساس من واقعها وما أصابته في مسيرتها من خير أو شر أو ما حققته من عز وتقدم أو ما وقع بها من نكبات وإحن ومحن. هذا التاريخ المسجل هو الكفيل أن يشكل ذاكرتها ويوحد فكرها، ويصبح مصدر وحيها ورؤيتها، وهو ما حدث في عصورها الأولى وما زال بحمد الله عز وجل واضحاً ومسطراً في أفئدة قلوب وعقول هذه الأمة، بفضل القرآن والسنة وبفضل جهود الأجيال الأولى من جلة علماء المسلمين وجهابذته. ولكن تاريخ هذا القرن والقرون التي سبقته –منذ أن آلت قيادة العالم الإسلامي لآل عثمان خلال القرون الأربعة الأخيرة وحتى العقود الأولى من هذا القرن- منذ أن قادت الدولة العثمانية أمة الإسلام عملت يد التشريد والتجزئة فيه فصار مزقاً وصارت الرؤية فيه غائمة وقاتمة، فلقد قلبت فيه الحقائق وعميت الأمور ونعتت حركات الخيانة والغدر بحركات الاستقلال والتحرر، وسحبت أثواب النسيان على رجال وقادة وأبطال وقفوا ضد الغزوة الغربية الشرسة وسطروا بدمائهم الزكية وثيقة الحياة لهذه الأمة. لقد كتب تاريخ هذا القرن كله والذي سبقه بيد الجيل الذي أفرزته ظروف الغزوة الاستعمارية وفي مناخ عمليات دفع المتناقضات من داخل الدولة العثمانية ليحصل الإجهاز على الخلافة واقتسام أسلابها وتجزئتها إلى أقاليم على أساس من النظرة الشعوبية والقومية والوطنية ليتم للمستعمر ما أراد ولتستيقظ الجاهلية فتقف ضد الروح الإسلامية والرابطة الإسلامية. لقد كان المسلم ينشد من قديم:
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه** إذا افتخروا بقيس أو تميم
كما كان ينشد أيضاً:
ولستُ أبالي حين أقتَل مسلماً**على أي جنبٍ كان في اللهِ مصرعي
وكما أنشد أيضاً:
طمعٌ ألقى عن الغرب اللثاما** فاستفقْ يا شرق واحذر أن تناما
واحملي أيتها الشمس إلى كل من** يسكن في الشرق السلاما
فإذا الفكر الوطني يصدّر لك مفهوم التجزئة والفصل بين الدين والحياة في قول القائل:
الدين للديان جل جلاله**لو شاء ربك وحّد الأوطانا
ويوحي لك بتقديش الوطن والوطنية في مثل قول القائل:
وطني ل شُغلت بالخلد عنه**نازعتني إليه في الخلد نفسي
بيد أن من الحقائق الهامة التي يجب أن تسجل هنا أن الأمة حين كانت تدفع المستعمر وتقاتله وتحاربه في كل موضع وموطن إسلامي إنما كانت تجاهده بدافع من عقيدتها وإيمانها، وكان نشيدها في حومة الوغى وعرصات القتال التكبير والتهليل والشوق إلى الجنة، حدث هذا في الجزائر وفلسطين وطرابلس الغرب. ولكن الذين كتبوا التاريخ كان أغلبهم ممن تأثروا بالنزعة الأوروبية وممن ولوا وجهتهم نحو النهضة الأوروبية، فلا غرو أن يأتي تاريخ القرون الماضية غفلاً من المسيرة الإسلامية النابضة بالحياة والقوة، وبالتالي أهمِل قادة الجهاد الإسلامي في المرحلة  الماضية عن عمد وتخطيط بل وأغفِلت المعاناة التي عانتها دولة الخلافة في مواجهة الأطماع الأوروبية والروسية في بلاد العالم الإسلامي والمؤامرات التي حيكت ضدها والظروف الداخلية التي واجهتها وسبب الكوارث الحالية التي نشهدها ونراها والمخاص الموصل الذي نعيشه.
          وكان من نتائج ذلك أن أصبح الجيل الجديد يرى تاريخه غير مترابط الحلقات ويرى أحداث هذا التاريخ تقدم له مبتسرة مقطوعة عما سبقها، ويرى تعليلاً فجاً غائماً فتزداد حيرته ودهشته فتصك أذنه البريئة مثلاً وصف الأتراك بأنهم مستعمرون، ليصيح إخوة العقيدة والإيمان الذين لم يفرطوا في شبر من أرض الإسلام في أي مكان إلا بعد أن دفعوا الثمن غالياً؛ مِثلَ الكفرة المستعمرين من الإنجليز والفرنسيين.
          من هناك فنحن في أشد الحاجة وأمسها لنظرة أمينة ومستوعبة لتاريخنا تضعه في إطار حركة الإسلام وحركة أمته، وحركة التاريخ الإنساني كله.
          فكما جاء رسولنا الكريم خاتماً للأنبياء وشاهداً على الناس، فهكذا وضع هذه الأمة شاهدة على الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فمن العار على هذه الأمة أن تمسخ أفكار أبنائها وتخرّب ذاكرتهم، فتكون معلوماتهم وأفكارهم عن تاريخ أوروبا أكثر من معرفتهم بتاريخ أمتهم، ومن العار أن يسلّط الضوء على بعض الأحداث وتقطع عن ملابساتها، كما سلط القوميون الضوء على محاكمات الشام أثناء الحرب العالمية الأولى ولم يظهروا الجانب الآخر من الصورة وخطأ المتّصلين بالإنجليز في وقت كانت الدولة العثمانية تدافع الحراب والأخطار من كل جانب.
          كما لم يسلطوا الضوء على العمل الاقتصادي العظيم الذي كان له أبعد الأثر في ربط أقاليم الإسلام بعضها ببعض ألا وهو مد سكة حديد الحجاز في عهد السلطان عبد الحميد.. وبالمقابل، لم ينعتوا بالخيانة والغدر من خرّبوه ودمروه ومن أطاعوا في هذا الفساد (لورنس) عميل حليفتهم الكبرى بريطانيا، ولا زال دعاة القومية وسدنتها حتى اليوم عاجزين عن إصلاح هذا الخط وإعادته للحياة.
          كما أن قضية التاريخ للوهن الذي أصاب الدولة العثمانية من داخلها وجعلها عاجزة عن مواكبة حركة التحديث والتصنيع، وأوروبا على بابها تنهض وتتطور وتخترع وتبدع، وتحاصرها من كل جانب وتفاجئها بكل جديد، يجعلنا بحاجة إلى نبش النظام التعليمي الذي أصاب العقلية الإسلامية بالجمود والتقليد وجعلها ترتمي في أحضان الغرب تستلهمه وتظل أسيرته وتحت قدمه.
          وكل الأنظمة الأخرى القانونية والدستورية التي كبلت الأمة وجعلتها حبيسة تلك الأنظمة الفردية البعيدة عن الإسلام وروحه.
          إنها إطلالة سريعة على القرن الرابع عشر الهجري تليها وقفات متأملة رصينة وهي أيضاً دعوة للمخلصين من أبناء هذه الأمة أن يدْلوا بدلْوهم ويشحذوا هممهم لينفضوا الغبار عن تاريخ أمتهم فيتكون من كل ذلك الوعي البصير والإدراك المستنير وهو مقدمة العمل الصحيح. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

مجلة الأمة، العدد الثاني، محرم 1401 هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق