الخميس، 31 يوليو 2014

على الفكر الإسلامي أن يتحرر من سارتر وفرويد ودوركايم


الأستاذ أنور الجندي - رحمه الله

استطاع فرويد أن يخدع الفكر البشري أكثر من سبعين عاماً قبل أن تكتشف هويته. وبالرغم مما أوردته بروتوكولات صهيون من إشارة إلى أنه – هو وماركس – من مخططات اليهودية العالمية، فقد ظل كثير من الرازحين تحت أحمال التبعية الفكرية الوافدة ينظرون إليه في تقدير كبير وخاصة أولئك الذين احترفوا تدريس مادة علم النفس في الجامعات وفي البلاد العربية. كان سلامة موسى في مقدمة من دعا إلى هذا الفكر وظل يكتب عنه يوماً بعد يوم - لا على أنه نظريات أو فروض - وإنما على أنه حقائق علمية وصلت مكان الكمال المطلق وجرت على الألسنة كلمات: مركب النقص، والعقل الباطن، وغيرها من مصطلحات، حتى جاء الوقت الذي استطاع علماء النفس أنفسهم أن يضعوا الحقائق كاملة بين أيدي المثقفين والباحثين عندما أعلن المتخصصون منهم أن ما أورده فرويد من أصول لنظريته جرت مجرى العلم الصحيح ما هي إلا أصول الفلسفة التلمودية الصهيونية اليهودية مجددة ومصاغة في قالب علمي براق استطاع أن يخدع الكثيرين. وقد كشف الدكتور صبري جرجس في كتابه (التراث التلمودي الفرويدي) عن هذه المؤامرة الخادعة. أما سلامة موسى فلم يكن عالماً متخصصاً بقدر ما كان مروجاً للفكر الغربي الصهيوني في عشرات من النظريات والأفكار التي دعا إليها ورددها في مؤلفاته (وسوف يأتي الوقت الذي نحصي هذه الشبهات). بل إن الدكتور صبري جرجس بوصفه مسيحياً – يرى مدى الخطر الذي يحيط بعقيدته من جراء استسلامه لزيوف الفكر التلمودي اليهودي الذي قام أساساً لضرب المسيحية الغربية وتدميرها والذي استغل كلمات (نيتشة) ورينان وأوجست وماركس وفرويد وسارتر ضد الدين والتي كانت موجهة أساساً إلى المسيحية الغربية وحدها باعتبارها "الموقف" العقلي لمرحلة من الفكر الغربي إزاء العقيدة القائمة في مجتمعه. ومن هنا كانت حملة الدكتور صبري جرجس الذي لم يكن يكتشف هذا الخطر لولا أن بعض مؤرخي اليهود أعلنوا أن فكر فرويد هو من صميم مذهبهم التلمودي الذي يقوم على أساس إثارة روح التحلل والفساد.
 في حياة فرويد نفسه ما يوحي بأنه كان صديقاً (لهرتزل) الذي حمل لواء الدعوة إلى الصهيونية والذي كان على رأس مجموعة الحاخامات الثلاثمائة في بازل عام 1892 م ومعهم صحائف (بروتوكولات صهيون) التي أشارت إلى هذا المخطط والتي لا يزال كثير من الذين يكتبون بالعبرية يدافعون عن الصهيونية وينفسون نسبة هذه البروتوكولات إليها (ولا ريب أن كل دعاة الفصل بين اليهودية والصهيونية وهؤلاء المدافعين باسم التحقيق العلمي المضلل إنما هم من أتباع الماركسية التي هي وليدة الصهيونية أساساً والتي تحاول أن تحافظ على هذه العلاقة السرية).
ولقد كان علينا نحن العرب والمسلمين أن نتحرر من مفاهيم فرويد الذي لم يتوقف عند التحليل النفسي (وله فيه آراء صائبة مستمدة من الفكر الإسلامي أساساً) ولكنه مضى حتى وضع أيديلوجية كاملة شملت الأدب والفن والمجتمع والعقائد جميعاً، وحاولت في أهم ما رمت إليه إلى التركيز على الفصل بين الاعتقاد والعمل، أو بين العلم والسلوك وذلك بالقول بأنه هناك عقل باطن منفصل عن العقل الظاهر، وفي ذلك محاولة خطيرة للإخلال بحقيقة أساسية في تكوين الإنسان وهي الترابط بين المعرفة والإرادة، وتعد هذه النظرية ضربة موجهة إلى الفطرة وإلى اليقين النفسي الذي جاءت به الأديان، هذا بالإضافة إلى مؤامرته تحت اسم الجنس. ولعل هذا الاتجاه كله هو نتاج من التوزيع الدقيق للأدوار في مسألة الصراع الفكري، فحيث كانت آراء ماركس في أساسها من مخططات التلمودية اليهودية مصاغة في قالب اقتصادي عصري، فإن هذا يتمثل الجانب الاجتماعي، وبذلك يسيطر الفكر اليهودي التلمودي على الفكر البشري كله في مجالات الاقتصاد والاجتماع والنفس والأخلاق ومنها يمتد إلى الأدب والفن ولا يبقى شيء بعد ذلك صالحاً لأن تقال فيه كلمة حق.
كل هذا الذي نقول يعد الآن من البديهيات التي ليست في حاجة إلى إعادة، ولكنا نريد أن نرى إلى أي حد واصل البحث طريقه في الكشف عن زيف فرويد.
1-     هذا كتاب جديد تأليف بول روزن أستاذ علم النفس بجامعة هاروفارد تحت عنوان (قصة فرويد وتايزك) يزيح فيه فيكتور تايزك معاصر فرويد وأحد رواد علم النفس حقائق خطيرة.
ويكشف عن مدى أحقاد فرويد التي ساقها حرباً شعواء ضد هذا الباحث نتيجة غيرته منه، وفي سبيل عرقلة جهوده وأبحاثه في حقل علم النفس مما دفع به (دفع بتايزك) في النهاية إلى الانتحار بإطلاق الرصاص على نفسه في 3 يوليو 1919 م، وكان قد رحل إلى فيينا لدراسة علم النفس، وقدر لأبحاثه الرواج والانتشار، مما لفت نظر فرويد. وقد كشف المؤلف عن غيرة وحسد فرويد من تايزك لنبوغه وأصالة أبحاثه، حتى أنه رفض معالجته عندما اشتدت أزمته النفسية وحين أوكل علاجه إلى تلميذه فرويد (هيلبي ديتش) بل إن فرويد وصل إلى حد تهديد تلميذته ومنعها من مساعدته مما دفعه في نهاية الأمر إلى نوع من اليأس القاتل بإطلاقه الرصاص على نفسه.
2-     وفي فرنسا صدر كتاب عن فرويد بقلم (لوس إيرا جراي) التي تنتمي إلى المدرسة الفرويدية ، والكتاب اسمه (المنظار الطبي للمرأة الأخرى) وقد أحدث ضجة كبرى رغم أن مؤلفته قد طردت بسببه من الجامعة. لاحظت المؤلفة أن فرويد عندما يتكلم عن المرأة يضيع عقله ويشتد شريط تحليله ومنطقيته فهو يشعر دائماً أنه السيد، وهو عندما يتكلم عن المرأة يتجه إلى الرجال على أساس أن المرأة لا يجب عليها معرفة شيء من أمورها حين يناقش الرجال الموضوع وأن مشكلة الأنوثة تهم الرجال ولكنه بالنسبة للمرأة الموجودة معهم، وترى المؤلفة أن المرأة عند فرويد لغز عجز الرجال عن اكتشافه. وبذلك بقيت المرأة بمثابة (الأرض الموحشة) في علم النفس وتحاول المؤلفة أن تصل من هذا إلى أن فرويد بالرغم من كل ما يحاول إعلانه من استقامة البحث لا يرى في المرة كائناً إنسانياً، وأنه لم يأت بجديد سوى أنه صقل تحاليل أفلاطون، وتقول المؤلفة أنه ربما كان فرويد مريضاً ويعاني عقدة إزاء المرأة. وتقول أن تحويل المرأة إلى لغز عند فرويد يعتبر سلباً لطابعها الإنساني وتحويلاً لها إلى شيء خارجي.
وعندنا أن رأي فرويد مستمد أيضاً من مفهوم التلمود، فهو يحاول أن يصورها على أنها أداة جنسية للمتعة، ولذلك فهو ينكر إنسانيتها واستقلالها ويرى فيها رأي الفسلفات القديمة التي تحتقر المرأة.
4- عالج فيلكس وجاناري في كتابهما (إنني أوديب) نظريات فرويد وأشارا إلى أن فرويد هو مفتاح الإمبراطورية البروسية، وأن علم النفس التحليلي الذي أسسه فيما بعد. كما أشار بنيامين نيلسون في كتابه فرويد والقرن العشرين إلى أن فلسفة فرويد مادية صرفة، تنكر الروحانية والحرية، وأنه يعد الحالات النفسية العليا كالإلهام الشعري والحب الصوفي مجرد تحويلات وأقنعة للغريزة الجنسية.
وأن رأي فرويد في قصور الإنسان دون الوصول إلى الكمال لم يستمده من المسيحية بل من دارون وأن فرويد قد اعتمد على أساطير قديمة كالمأساة اليونانية في عقدة أوديب وعقدة الكترا والصراع بين إيروس إله الحب والحياة وثاناسوس إله الموت، وأنه غارق في فكرة الخطيئة الأولى.
ولا ريب أن هذه الحقائق التي لم يكتشفها الفكر الأوروبي إلا أخيراً كانت واضحة في عقل الباحثين المسلمين منذ اليوم الأول لنظزرهم في فكر فرويد، بل إن كتاب الإنسان بين المادية والإسلام الذي كتبه مؤلفه في سن باكرى وهو يدرس في قسم الفسلسفة وعلم النفس في كلية الآداب ما زال حتى الآن بالرغم من مضي أكثر من ربع قرن على ظهوره واضح الدلالة في عجز نظرية فرويد عن فهم النفس الإنسانية، وأن معطيات القرآن والسنة النبوية والفكر الإسلامي في هذا المجال بالغة القوة والحيوية والصدق.
ولكن الفكر الغربي لم يتنبه إلا أخيراً لفساد نظرية فرويد يعرف أن أي نقد لها اليوم لا قيمة له لأنها قد تغلغلت تغلغلاً كاملاً في كل أعمال الأدب والفن والقصة والمسرحية حتى لم يعد هناك تراجع في أثر هذه النظرية التي أرادت تدمير الفكر الغربي المسيحي ورده إلى الوثنيات والأساطير والخرافات.
ونحن نعرف أن فرويد حين بدأ مع (ادلرويونج) في أوائل هذا القرن كان عنيفاً في فرض اتجاهه بالتفسير الجنسي الذي خالفه فيه صاحباه وانفصلا عنه كما اختلف مه جيمس حين التقى به في أمريكا بعد ذلك، وأنه لم يبق معه إلا اليهود: رانك وجونز وبريل.
ولكن إذا كان فرويد على خطأ – وهو على خطأ معارض للفطرة والعلم والعقل في دعواه – فلماذا أتيح له هذا النفوذ الخطير وهذا الدور المدوى، لم يكن ذلك لوجه العلم وحده، ولم يكن ذلك طبيعياً، ولكنه كان بقوة من الدفع اليهودي الصهيوني المسيطر على النظريات والمذاهب، القادر على فرض ما يشاء منها ومن قبل كان والاس قد سبق دارون وكان أقرب منه إلى الفطرة والعلم الصحيح ومع ذلك فقد دوى صوت دارون لأنه اتخذ منطلقاً إلى النظرية المادية وإلى فرض نظرية التطور الاجتماعي المطلق وكانت نظريته قاصرة على مجال البيولوجيا وحدها.
وكذلك كان الأمر بالنسبة لفرويد من أدلرويونج، فقد قالا بأن العامل الجنسي ليس هو المصدر الأوحد للتصرف الإنساني ولكنه واحد من عوامل كثيرة منها تأكيد الذات ومركب النقص، ولكن دعوى التحدي بالجنس وحده كمصدر لتصرفات الإنسان هي التي شاعت وذاعت.
ونحن نجد النظرية تسقط اليوم سقوطاً علمياً شديداً، ولكن أصحاب الفلسفة المادية يحاولون تمديدها بربطها بالماركسية من ناحية، وبالدعوة إلى ما يطلق عليه الثورة الجنسية وبربطها بالوجودية وهذا ما سنتحدث عنه بعد.
ثانياً: سارتر:
إن أي نظرية يتقدم بها فيلسوف أو مصلح تتمثل فيها حقائق هامة:
أولاً: إن هذه النظرية هي فرضية افترضها هذا الفيلسوف بناء على نظرته إلى الأمور.
ثانياً: إنها نظرية تتصل اتصالاً تاماً بالتحديات الخاصة بشخصية هذا الفيلسوف وبيئته وعصره ومجتمعه وظروف معينة قائمة.
ثالثاً: إن الإنسان على أعلى درجة من التفكير والنظر لا يستطيع أن يخرج عن أبعاد وجوده البشري والعقلي والنفسي ولا يستطيع أن يشرع للمجتمع الإنساني كله.
ومن ثم فإن كل ما يقدمه الفكر البشري هو فرض يقبل الخطأ والصواب، ويصلح لمجتمع ولا يصلح لآخر، وينفع في عصر ولا ينفع في جميع العصور، ولقد اعتورت النظريات والمناهج أسباب القصور وحل بها النقص واحتاجت إلى الإضافة والحذف على مدى قريب من ظهورها وذهب بعضها وأنطوى عجزاً وفساداً وليس أدل على ذلك من ناحية أخرى على نحو يوحي بإنقاذ المراكب الغارقة، العصر الذي اضطربت وعجزت في بيئاتها الخاصة واضطرب أصحابها إلى تعديلها بالإضافة والحذف ومحاولة الربط بين الوجودية والماركسية من ناحية وبين الفرويدية والماركسية من ناحية أخرى على نحو يومي بإنقاذ المراكب الغارقة، وعلى بعد ما بين الأيديولوجيات الثلاث من تناقض واختلاف.
ونحن نعرف أن الوجودية "صيحة أزمة" تعالت في فرنسا بعد انهيارها في الحرب العالمية الثانية حين هوت تحت سنابك خيل الألمان صريعة الانحلال الخلقي. فجاءت الوجودية التي دعا إليها سارتر ليطلق للشباب أمر التهالك على الشهوات تحدياً للخطر الماحق الذي يعيش تحته العالم، وبعد أن أفقدت الحرب أمم أوروبا زهرة شبابها التي تجاوزت المائة مليون. ولقد كانت وجودية سارتر وجودية ملحدة نابعة من الفكر المادي وإن حاولت أن توجد للإنسان منطلقاً عاصفاً حيث جردته من مسئوليته الفردية وإلزامه الأخلاقي وأحالت ذلك كله على المجتمع.
ومن ثم أنطلقت تلك الصورة المدمرة في كل أنحاء العالم توحي بالتفكك والتحلل والتمزق والضياع. ولقد صدق جاك بيرك حين قال أن الوجودية ظاهرة زمنية عابرة لن يلبث الإنسان أن يتخطاها، وهي ليست روحاً "وأنا لا أستنتج منها نتيجة متشائمة بل واقعاً يجب أن يعترف به" وهي في تقديرنا علامة على دخول أزمة الإنسان المعاصر في مرحلة الانحدار، ودخول أوروبا والغرب والفكر الغربي كله مرحلة التمزق الذي فرضته عليه الفسلفة المادية التي قادها فلاسفة اليهود التلموديين، وإن كانت لا تخلو من تمثل أخطر ما أطلقته التعبيرات المسيحية حول نظرية "الخطيئة الأصلية" ذلك السوط الذي ما زال يلهب ظهور الفريقين ويسوقهم إلى الدمار النفسي.
ولا ريب أن فلسفة سارتر الوجودية الملحدة هي بديل "الإيمان" الذي عجز الغرب عن الحصول عليه عجزاً مطلقاً، ولا ريب أن البشرية حين انطلقت لترسم لنفسها طريقاً بعيداً عن طريق الله فإنها ستظل تائهة في مضارب الصحراء، وما دام الإنسان قد شرع لنفسه ورفض الأسس التي قدرها الحق تبارك وتعالى لينظم المجتمع البشري فإنه ليس هناك قواعد ما يمكن أن تفرق بين الحق والباطل ذلك تداخلت أهواؤه  ومطامعه وشهواته، وأصبحت الأمور كلها نسبية وليس لها ضوابط أو حدود أو قيم ثابتة راسخة تحاكم إليها، أو ليس هناك من نقطة بداية ونقطة نهاية وإنما يصبح الكون دائراً في دوامة لا نهاية لها ولا غاية منها وقد جهل الإنسان سر وجوده وهدفه في الحياة ورسالته في الأرض ومسئوليته وجزاءه وحسابه وتلك هي الحيرة التي تذوب فيها البشرية نفسها اليوم بعد أن خالفت عن منهج الله. ومن ثم تصبح حياة الإنسا نليس بها طعم، حياة القلق والتمزق والألم والإحساس بالغثيان والضياع، ذلك أنها فقدت المعنى الذي وضعه الحق تبارك وتعالى لها، والذي هو سر الحياة نفسها، الأمل والإيمان والهدف والمسئولية والرسالة التي وجد الإنسان من أجلها في الحياة.
إن الوجودية تثور على مفاهيم سحق الإنسان التي تقدمها الماركسية ولكنها مع الأسف تسحق قلب الإنسان ولا تراه إلا من وجهة النظر المادية الصرفة: وهم حين ينكرون أن يصبح الإنسان ترساً في آلة، يحيلونه إلى شعور بالضياع والفراغ، ويفرغونه من معناه الاجتماعي ويجعلونه أنانياً لا هم له إلا مطامعه التي تقوده إليها غرائزه كالحيوان في الغابة.
ولا تزال الوجودية تدفع أهلها من قيد إلى قيد ومن تمزق إلى مزيد من التمزق نراه الآن في الهيبية والخنافس.
وحين يقولون أن الوجودية تحرر الإنسان نجد كتابات أهلها لا تحمل إلا اليأس القائم: فهم يقولون عن أنفسهم أنهم جيل بلا أمل، بلا عمق، بلا مستقبل وأن عمقهم هو الهاوية، وحبهم هو الوحشية، وحياتهم علب من الورق فراغة وقابلة للتمزق، وليست الوجودية إلا تعبيراً عن هذا الهوان أين هذا من الإسلام الذي يقدم للبشرية الأمل وللنفس الإنسانية السكينة والإيمان، حيث يرفض اليأس والقلق والشك والحقد، وهو لا يترك الناس صرعى في أوهامهم، ولكنه يقدم لهم الترياق، يقدم لهم العون، يطلب لهم المبررات، ويفتح لهم الآفاق التي تخفف الشهوات، ويحررهم من قيود الحيوان، ويراوح بينهم دين السماء والروح والمعنويات، هو لا يحرمهم رغائبهم الجسدية ولكنه يبني فيهم الروح والعقل.
إن أخطر ما تقدمه الوجودية التشاؤم وهو طابع عام لكل معطيات الفكر الغربي البشري، الضال عن الإيمان بالله والروح والمعنويات. إن مصدر التشاؤم في الفكر الغربي هو عدم الاقتناع العقلي لوراثة البشر جميعاً لما يطلق عليه الخطيئة الأصلية" هذه التي ينكرها الإسلام إنكاراً كاملاً ولا يرى أن إنساناً مسئولاً عن خطأ الآخر، (ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى).
ومن خلال أيديولوجية الخطيئة الأصلية السوداوية المتشائمة تنشر على أوسع نطاق في الفكر الغربي نظرة "لا معقولية الحياة" وعبث الوجود، ثم جاءت الوجودية لتكون أعلى مراتب التشاؤم.
وهذه كلها أفكار غريبة عنا كل الغرابة، مختلفة عن طوابع الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي، ولا تتصل بسبب إلى ثقافتنا أو قيمنا أو عقائدنا وهي توحي بأن الفكر الغربي والمجتمع الغربي يمر بمرحلة انهيار كامل يتمثل في الأسرة والفكر والمجتمع، وأن طوابع المادية الخالصة قد صرعته تماماً، وأن إنكاره للروح والدين والخلق والإيمان بالله قد دمره تماماً.
ولذلك فهي تبدو غريبة عنا دخيلة علينا متناقضة مع جوهر الإنسان، ومع فطرته وأغرب ما فيها أنها حين تعتز بحق الفرد في الوجود – وهو مفهوم إسلامي، فإنها تغطي عن أعظم معطيات الإنسان والركن الركين في وجوده على الأرض ولبس المسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي الذي يحاسب على أساسه ويقرر جزاؤه. ولا ريب أن إفسادها يتمثل في أنها ترى أن الإنسان يكون نفسه مستقلاً عن الدين والتقاليد والمجتمع، وأن الزواج نظام عتيق، وأن الطلاق لا يبقي بإرادة الزوج فضلاً عن إنكارها "قوامة الرجل" ودعوتها إلى حرية الصداقة، وإسقاط الدين كله من حساب الحياة. وهي لأنها تعارض الفطرة الإنسانية لم تجد قدرة على البقاء وتساقطت جوانبها، إلا من تلك النزوات التي يقوم بها المنحرفون ولا ريب أن المفاهيم الوجودية كلها إنما هي تعبير فكري ونفسي وأخلاقي عن الفراغ الروحي المخيف.
ذلك أن رفض فكرة الالتزام، وفكرة الرقيب النفسي "الضمير" وفكرة الفضيلة وفكرة الخير، وفكرة الإيثار وفكرة العدل وفكرة المسئولية إنما تجرد الإنسان من كل قدراته ومعطياته التي تجعله قادراً على أداء دوره الحق في الحياة وأن أخطر ما تدعو إليه الوجودبية هو "أنانية" الفرد في مواجهة المجتمع بإنكاؤ دوؤه في العطاء والبذل والإنفاق والعطاء للآخرين، ومن فسادها قولها أن الإيثار يعني أن يصبح الإنسان مجرد أدارة للآخرين، بينما يدعو الإسلام إلى أن الإيمان هو انتقال الإنسان من الأنانية إلى الغيرية.
ولا ريب أن موقف سارتر من الألوهية موقف أشد عنفاً وخطراً مما يقول به الملحدون أو المشركون، فهو يضع الذات الإلهية في مقام التزاحم مع الإنسان وأن وجود أحدهما يلغي وجود الآخر، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، والإنسان ليس في الحقيقة إلا خلق الله وعبده وفضل من فيض فضله وعطائه.
وإذا قيل أن الوجودية تحمل مفهوم الحرية، فإنما هي الحرية بمفهوم تحرير الإنسان من مسئوليته وإطلاق أهوائه إلى أبعد مدى وكيف تستقيم أمر نظرية تدعي أنها علمية حين تنكر وجود الحق تبارك وتعالى وكيف يمكن أن تعلل وجود العالم، وكيف يمكن القول مع الوجودية بأن العالم وجد بلا داع ويمضي لغير غاية ونحن نقرأ قول الله تبارك وتعالى (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون).
ولا ريب أن الفرد هو موضوع هام شغل الفلاسفة وأصحاب الأيديولوجيات ولكن أهم ما هنالك: هو مسئوليته وموقفه من الجماعة، وتلك هي القضايا التي تتلاعب بها أهواء الفكر البشري، وحين تراه سيداً مؤلها، وحين تراه حيواناً وحين تراع ترساً في آلة، وقد برأ الإسلام من ذلك كله ووضعه في موضعه الحق، واعترف برغائبه المادية وأشواقه الروحية جميعاً، فليس الفرد مؤلهاً ولا معبوداً ولا حيواناً ولكنه من أعظم ما خلق الله لو استقام على الطريقة واهتدى إلى الحق، وقد حدد الإسلام موقفه من ربه ومن الكون ومن المجتمع وحدد مسئوليته ورسالته وجزاءه، وعلاقته بالدنيا وبالآخرة وبالوجود كله، على نحو تعجز كل الفلسفات والمذاهب عن الوصول إليه. أما الغرب فإنه حين أنكر الألوهية والدين والوحي فإنه ذهب وراء الأهواء كل مذهب في سبيل مفهوم للحياة وللإنسان.
ولكن الإسلام وهو وحي الله ورسالة السماء كان أصدق من كل هذه المذاهب والأيديولوجيات وأقربها إلى الفطرة وأبعدها عن الغلو والاضطراب، ومن ثم فهو أصلح المناهج للبشرية على مدى العصور وعلى اختلاف البيئات لأنه قدم الشريعة المحكمة الخالدة القائمة على إطار ثابت مع القدرة على التغير والحركة والتطور، رابطاً بين العقل والقلب، والروح والمادة، والدين والعلم، والدنيا والآخرة.
ولقد سقطت الوجودية وتجاوزها الزمن لأنها خالفت الفطرة، ولم تستطع أن ترضي العقل، ولم تعترف بالروح، فهي تجعل الإنسان في عزلة عن الجماعة أنانياً غاية الأنانية أولاً وتجعله يستطيب أبرز القبيح من جوانب الطبيعة الإنسانية؛ ثانياً، وتجعله يفصل نفسه عن ربه وعن السماء وعن الدين ويتنكر لكل القيم الخالدة؛ ثالثاً ولأنه يؤوس قنوط قلق ممزق لا يجد قرارة ولا راحة ولا طمأنينة ولا أمنه النفسي، بينما الإسلام هو ما عكس هذا كله، نوراً وهدى.
ثالثاً: دوركايم:
منذ سنوات ومن خلال الضباب المخيم على آفاق الفكر الإسلامي ارتفعت صيحة صاعقة ثم سرعان ما انطفأت وساد الصمت بعدها. كان صاحب هذه الصيحة هو أستاذ العلوم الاجتماعية في إحدى الجامعات العربية، قال الدكتور عاطف غيث: إن علم الاجتماع الذي يدرس بجامعاتنا بصورته ومادته الحالية أداة انهزامية في مجتمعنا العربي. إن مدعم علم الاجتماع الذي نعتمد على نظرياته في جامعاتنا هو العالم اليهودي الفرنسي إميل دوركايم الذي حاول مع من ردد آراءه أمثال "ماكس فيبر" الألماني "وظفر" الإيطالي، أن يطمسوا فعالية الإنسان ويجعلوه عبداً لمصير مجهول، وحاولوا كذلك أن يميعوا حركة التاريخ ويبعدوا الأحداث التاريخية عن مضمون الواقع المعاصر حتى لا يتعرف الباحث على حقيقة مسيرة التاريخ نحو هدفه الذي لابد منه وهو ضرورة تحرير المجتمع الإنساني من القيود التي كبلته قروناً عديدة.
ودوركايم هو صاحب الأفكار التي تعوق النزعات الحرة كلها ويقف حائلاً أمام تخطيط الإنسان لمستقبله.
إن خطر علم الاجتماع يتضح عندما تعلم أن موضوعه الرئيسي هو دراسة بناء المجتمع وعوامل تغييره وهو ما نعتبره أساس معركة النضال للخلاص من الثغرات التي خلفها الاستغلال والاستعمار في المجتمع العربي.
ولاشك أن علم الاجتماع الذي يدرس الآن في جامعاتنا بوضعه الحالي عاجز تماماً عن متابعة التغيرات فهماً أو تقويماً ولذلك فإن بناء قيم جديدة وصناعة جيل جديد، لا يمكن أن يحظى من علم الاجتماع بوضعه الحالي بأدنى اهتمام وهو بوضعه الحالي أداة لتحويل الأنظار عن أوجه النضال الاجتماعي والاقتصادي. ولذلك فإننا نعتبر نقله دون تغيير إلى بلادنا يعتبر أداة إنهزامية يجب القصاء عليها.
هذه هي الصيحة التي استعلنت منذ عشر سنوات ثم سرعان ما انطوت: صيحة لا تقف عند علم الاجتماع وحده ولكنها ستصل بعدد من العلوم التي ندرسها في جامعاتنا وهي في ذاتها علوم وافدة ونظريات أجنبية صممت على مقاييس مجتمعات أخرى في الشرق أو في الغرب وسيطر عليها فلاسفة لهم اتجاهات واضحة وأهداف صريحة ويجرون في موكب "الصهيونية وأهداف بروتوكولات صهيون التي يقودها دوركايم وليفي بريل وغيره من اليهود ولكن الأمر يتصل بعلوم الأخلاق والنفس والتربية والعلوم السياسية والتاريخ والفن... ففي كل مجالات هذه العلوم تجد نظريات وافدة تقتضي الأمانة بعلمائنا أن يعرضوها على أنها ليست العلم العالمي كما يدعون ويقولون أو أنها نتائج أعلى العقول البشرية فليس الأمر كذلك في الحقيقة، ولكنها نظريات وفروض وضعها مجموعة من الباحثين والفلاسفة في ضوء عاملين خطيرين:
العامل الأول: عامل البيئة الغربية التي صنعتها عوامل ثقافية ودينية واجتماعية معينة.
والعامل الثاني: عامل العصر المعين الذي يقع في منتصف القرن العشرين الميلادي.
وفيما قبل ذلك بعقد أو عقدين من الزمان كانت هناك مواهب أخرى وحلقات متصلة بذلك الزمن، كما كانت هناك مذاهب فلسفية مختلفة ولا تزال في ألمانيا لها طابعها الوجودي وفي فرنسا لها طابعها الماركسي وفي أمريكا لها طابعها البرجماتي وهكذا.
فكيف يصح في الأذهان أن تنقل هذه المذاهب إلى مجتمع كالمجتمع العربي الإسلامي الذي يعيش عقيدته وآدابه وأخلاقه ومفاهيمه وطباعاته الخاصة التي ما زالت تستمد جذورها من القرآن والتوحيد والشريعة الإسلامية، بالرغم من مرحلة الاضطراب التي فرضتها ظروف الاستعمار والغزو الثقافي، كيف يمكن أن ننقل هذه المناهج فتدرس في الجامعات على أنها علوم مقررة وأن فروضها ونظرياتها تعلم على أنها حقائق نهائية.
وكيف يمكن لمجتمع ناهض مختلف عن المجتمعات الغربية التي استكملت وجودها، وتعيش الآن مرحلة الرفاهية والاستهلاك وقد وضعت نظرياتها في ظل هذه الأوضاع كيف يمكن أن تطابق هذه النظريات مجتمعنا وكيف تستطيع أن تعطيه، وهذه العقلية العربية الإسلامية التي تقوم على مفهوم الإيمان بالله وإرادة الفرد والالتزام الأخلاقي والمسئولية والجزاء كيف يستطيع أن يتعامل مع نظريات تقوم على الجبرية وتحاول أن تصور المجتمع بصورة الصراع وأن تقيم التناقضات أساساً بينما تقوم المجتمعات العربية الإسلامية على التقاء العناصر والأجزاء في كل متكامل، دون صراع بينها أو جبرية.
ذلك هو الخطر الذي يصل إلينا، لا عن طريق الفكر المفتوح حتى نناقشه ونكشف عن زيفه، ولكن عن طريق الجامعة فإذا هو من المسلمات في عقول أبنائنا بينما هو في الحقيقة ليس كذلك في نظر أصحابه الذين طالما غيروا لأن الزمن لا يدعهم في راحة، إن ما ذهب إليه – دوركايم – في مذهبه الاجتماعي الذي يضمه كتابه "قواعد المنهج في علم الاجتماع" ليس إلا نظرية وفرضية بناها عقله في ضوء تحديات كثيرة منها التحديات العامة ومنها التحديات الخاصة ولكل فيلسوف من ظروفه الخاصة ظل وأثر على آرائه لا ريب في ذلك. أما التحديات العامة فذلك أن دوركايم هو ربيب الثقافة الماركسية أو المذهب الماركسي والنظرية المادية أصلاً، ومفهومه معارض تماماً لكل القيم الأساسية التي جاءت بها الفطرة، أو صاغتها الأديان في منهجها الرباني القائم على الفطرة، وهو في كل دعاواه يأخذ الطرف الثاني المعارض فإذا أعانت الأديان أن الدين فطرة وأن الأسرة فطرة أعلن هو عكس ذلك تماماً فقال أن الجريمة هي الفطرة، ولكن الدين والأسرة ليسا من الفطرة في شيء.
وهو في كل ما يدعو إليه تابع للمدرسة التي بدأها سنبسر وكانت وهو تابع في نفس للوقت للمدرسة التي بدأها ماركس في التفسير المادي للتاريخ، فهو واحد من كبار الدعاة إلى إنكار الفرد ومسئوليته ودوره وإلغاء شأن الظاهرة الاجتماعية وتحميلها كل النتائج على النحو الذي يؤدي إلى أخطر الآثار التي يترتب عليها إنكار مسئولية الفرد والتزامه الأخلاقي وجزاؤه.
ومن شأن هذا أن يبرر للأفراد تصرفاتهم ويحررهم من التبعية ويلقيها كلها على المجتمع ولا ريب أن هذا الاتجاه معارض معارضة جوهرية لمفهوم الدين الحق ولقاعدة أساسية من قواعد الإيمان بالله التي يقوم عليها المجتمع العربي الإسلامي.
يقول دوركايم: إن الفرد لا قيمة له ولا معنى للتشبث بالحرية الفردية، وإنما القيم كلها للمجتمع الذي يخلق الأديان والعقائد والقيم الروحية وكلها عبث لا قيمة لها.
وهو في هذا يحاول إرساء قاعدة فاسدة تتعارض مع الفطرة البشرية ترمي إلى القول بأن التحلل والانحلال أمر حتمي.
وأهم ما يريد دوركايم أن يصل إليه هو:
أولاً: إقامة فكرة التطور التي تلغي مفهوم الإسلام القائم على إطار من الثوابت في داخله حركة وتغيير.
ثانياً: الدعوة إلى فكرة القهر الخارجي الذي يقهر الفرد على غير رغبة منه وذلك ليلغي مفهوم الإسلام القائم على الإرادة الفردية والمسئولية الفردية والجزاء الفردي.
ثالثاً: تفسير الإنسان وفق مذاهب المادة وعالم الحيوان وذلك في مواجهة مفهوم الإسلام الذي يكرم الإنسان ويجعل له منهجاً خاصاً لفهمه يختلف عن المادة وعن الحيوان.
رابعاً: إنكاره القواعد الخلقية وثبات القيم الأخلاقية وهو ما يقرره الإسلام.
خامساً: إنكار فطرة الدين والأسرة والزواج وفي ذلك معارضة لأصول أصيلة من النظام الإنساني.
سادساً: لا يعترف دوركايم بأن الحياة البشرية يمكن أن تفسر عن طريق نفسية الفرد وطبيعته وكيانه الفردي وإنما يفسرها العقل الجمعي وهذا الرأي معارض مع مفهوم الإسلام الذي يقرر أن كل إنسان مسئول عن نفسه مسئولية خاصة. وأن تعلله بفساد المجتمع أو اضطرابه لا ينجيه من الجزاء.
سابعاً: نحي القداسة عن الدين والأخلاق والأسرة والتشكيك في قيمها وهو يدعو إلى تحطيم الدين لأنه قد يعوق التطور، وليس فطرة إنسانية وتحطيم قيود الأخلاق لأنها لا وجود لها في ذاتها.
هذه هي النظرة المادية الخالصة التي تقوم عليها مفاهيم علم الاجتماع كما دعا دوركايم وكما يدرس الآن في الجامعات العربية حيث ينشئ أجيالاً تقوم عقليتها على أساس النظرة المادية الخالصة إلى الإنسان، وحيث ننظر بسخرية إلى الأخلاق والدين والأسرة، وترى أن هذا الذي تدرسه هو الحقائق العلمية والمسلمات التي لا مرد لها، بينما هي لا تعرف وجه الحقيقة بالنسبة لمفهوم الإسلام الحق الذي هو فطرة الله التي فطر الإنسان عليها، والمفهوم الأصيل الذي يقرر أن الإنسان روح وجسد وعقل وقلب وأنه لا يمكن تفسيره عن طريق المذاهب المادية التي تعامله كالحيوان أو التجريبية التي تعامله كالمادة الصماء.
ولا ريب أن نظرية دوركايم في علم الاجتماع حين تلتقي بنظرية فرويد في علم النفس ونظرية ماركس في الاقتصاد من شأنها أن تشكل إنساناً مضطرباً مزعزع الوجدان، واليهود الثلاثة هم القادة المسيطرون على هذا الفكر العربي الذي يفرض الآن على أنه هو الفكر العالمي. بينما تختفي مفاهيم الإسلام في النفس والأخلاق والاجتماع وتتضاءل ولا تعرض حتى على أنها وجهة نظر أخرى. بل لعل شبابنا في الجامعات يرى أنه ليس هناك مفهوم إسلامي هو أعمق وأصدق وأكثر أصالة من هذا المفهوم الذي يقوم عليه مجتمعات الغرب والذي به وصلت إلى الأزمة الطاحنة المستحكمة التي يعانيها الآن من تخلخل المجتمع إلى اضطراب الأسرة التي تمزق النفس البشرية.
وبينما يجد المسلمون عندهم منهجاً صادقاً متكاملاً تترقبه البشرية كلها وتتطلع إليه، ويجد كل مطلع شمس من يؤمن به من أهل الغرب، فإن العرب والمسلمين محجوبون تماماً عن منهجهم هذا في مدارسهم وجامعاتهم، ولقد كان من الضروري أن يكون للعرب والمسلمين منهجهم الاجتماعي الأصيل المستمر من فكرهم وعقائدهم وبيئتهم، ومنهم خرج مؤسس علم الاجتماع الذي يعترف الغربيون بريادته وأثره وهذا ما قاله الدكتور غيث ما هي الحقيقة التي تختفي وراء ترك علمائنا لواجب البحث والتألف في علم كعلم الاجتماع الذي نشأ عندنا وترديد النظريات الأجنبية بكل علاتها. لقد كان من الضروري أن يقوم علم اجتماع عربي إسلامي في بلادنا على أساس يختلف عما علمه الغرب لأبنائنا. وهناك فارق بين منطق العلم وحقائق العلم "إن منطق العلم ومنهجه لا يختلف عليه اثنان مهما كان لونهما وأيديولوجيتهما ولكن تفسير الحقائق وإبراز بعضها وإغفال بعضها الآخر، واستخراج نتائج متميزة هو الذي يجب "أن نتنبه إليه تماماً".
إن أخطر ما يفرضه منهج دوركايم في علم الاجتماع هو "إن إرادة الإنسان ليست بالانطلاق الذي يمكنه من تغيير المجتمع وأن الأفراد وهم ورثة النظام الاجتماعي ليسوا إلا صوراً متشابهة متكررة كما أن إطار الدراسة فيه يدور حول مجموعة من المسلمات" هذه المسلمات الباطلة الزائفة التي لا يقرها الفكر الإسلامي.
ويقول الدكتور غيث: إن الرد على دوركايم ومن قبله أوجست كونت يقوم على أساس أنهما في تفسيرهما للعوامل الموجهة لحركة التاريخ والمجتمع الإنساني يغفلان عمداً الصراع الذي خاضه الإنسان المغلوب على أمره ضد طغيان العبودية.
لا ريب أن دوركايم ومعه زملاؤه اليهود، قد صدروا في مذهبهم عن هدف واضح وجرياً في نطاق واضح بدأه ماركس، وأكمل شطره فرويد، وجاء دوركايم ليحكم الحلقة. ولا ننسى في هذا ما كتبه الأستاذ محمد قطب في كتابه "التطور والثبات في حياة البشرية" فإنه بلا ريب قد كشف وجوهاً كثيرة وخلفات خافية مما يريده مفسرو البروتوكولات من أهداف وغايات بالبشرية. وليس هناك انتصار أكبر من أن نظرياتهم وفروضهم تدرس الآن على أنها (حقائق العلم) والجديد في هذا الأمر أن الجزائر قد حاولت في مؤتمر علم الاجتماع الذي عقد بها عام 1974 م أن تدعو إلى إنشاء علم اجتماع عربي والتحرر من منهج علم الاجتماع الوافد الاستعماري الطابع وقد دعا عدد من علماء الجزائر إلى:
"الرجوع إلى الأصالة" باعتباره أحد الحلول المطروحة الآن... غير أن الأمر ما زال في حاجة إلى نظرة إسلامية تكشف عن جوهر مفهوم علم الاجتماع الإسلامي ولذلك فإني أتوجه إلى الدكتور علي عبد الواحد وافي راجياً أن يدلي بدلوه في هذه القضية التي تعد إحدى معضلات الفكر الإسلامي المعاصر وبوصفه من رجال الفكر الإسلامي وممن درسوا علم الاجتماع الفرنسي.


إن التحديات التي تواجه المسلمين اليوم عن طريق العلوم الاجتماعية والنفسية والأخلاقية هي من أخطر التحديات لأنها تمثل في الحقيقة يد الصهيونية التلمودية الطائلة في داخل عقولنا وفكرنا ومجتمعنا في حاجة إلى أن نتحرر عقلياً من هذه المدرسة التي صاغتها بروتوكولات صهيون وغزت بها الفكر العربي المعاصر الذي ما زال يقاوم، ونحن أولى بأن نكسر هذه القيود ونحرر فكرنا ومجتمعنا من مذاهب هدامة أثبتت فشلها وزيفها في بيئاتها وما أحق أن نكشف عن مفاهيمنا الأصلية وأن ندعو الإنسانية إليها فإنها ستتطلع الآن إلى ضوء كاشف لن يأتيها إلا من عالم الإسلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق