من الإعجاب إلى العقاب
نزح بعض الأندلسيين إلى المشرق طلبا للجاه والمال بعد أن نغصت عليهم أندلس القرن الهجري الخامس عيشهم بفعل « تقلب دولها، وتحول ملوكها وخولها » ([1]). وعرَّضت هذه الحالة العديد من أهل القلم للبطالة، سواء المغمورين منهم أو البارزين([2]).
وأمام اشتداد ازدحامهم على أبواب القصور وانفساح المجال أمام بعض المحابين، مقابل تهميش ذوي الكفاءات([3])، لم تجد طائفة بدا من شد الرحال إلى المشرق أملا في معانقة بسطة في العيش، وثراء من المال؛ فمن قرطبة رحل العلامة ابن حي الحسين بن محمد التجيبـي (ت.456هـ/1064م)، وهو من المتخصصين في علمي الهندسة والنجوم، ولحق بمصر، ثم دخل اليمن حيث اتصل بحاكمها القائم بدعوة الفاطميين هناك، « فحظي عنده (...) ونال هناك دنيا عريضة »([4]).
أما العلامة الأديب الطبيب الفلكي أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت، فغادر وطنه دانية بعد أن تلوَّن له الدهر فقلب له ظهر مِجَنِّه([5])، وحل بمصر حيث ألقى عصا التسيار واستقرت به النوى، متمنيا لقاء من يخفف عنه الهموم ويحول محنته إلى منحة، كما عبر عن ذلك نظما بقوله:
وَكَمْ تَمَنَّيْتُ أَنْ أَلْقَى بِهَا أَحَدًا |
|
يُسْلِي مِنَ الْهَمِّ أَوْ يُعْدِي عَلَى النُّوَبِ([6]) |
وفي بلاد الكنانة عرض أبو الصلت بضاعته العلمية المتنوعة، ومنها علم الحيل الذي شكل أحد مكونات هذه الشخصية العلمية الموسوعية.
فما هو علم الحيل؟ وما هي تفاصيل التجربة التي عرضها أبو الصلت بالمشرق في إطار هذا التخصص؟ وما هو الجزاء المشرقي لتلك التجربة؟
1-التعريف بعلم الحيل (الميكانيكا)
علم الحيل أو الميكانيكا تخصص علمي يبحث في عمل الآلات المتحركة بذاتها أو بالجهد اليسير، كالآلات الرافعة والموازين والساعات([7])، وقسم المسلمون علم الحيل إلى قسمين: الأول يبحث في جر الأثقال بالقوة اليسيرة بغية اختراع آلات تفيد الإنسان في حياته، فقد تم صنع آلات ميكانيكية لجر الأثقال، وأخرى لرفعها([8]). أما القسم الثاني فيبحث في آلات الحركات وصناعة الأواني العجيبة، وما يتصل بها من صناعة الآلات التي تتحرك بذاتها([9]).
عرف المسلمون علم الحيل عن طريق الكتب المترجمة عن اليونان، ككتب أرخميدس وأقليدس، غير أن استفادة المسلمين من تراث اليونان في علم الحيل تظل محدودة، فعملوا على تطوير هذا العلم والإضافة إليه، لتظهر إسهاماتهم النظرية في هذا التخصص، بتصنيف مجموعة من الكتب، وإبداعاتهم التطبيقية بابتكار مختلف الآلات وتصميمها وصناعتها، وذلك على يد مجموعة من الرواد([10]).
وفي أندلس القرن الخامس الهجري لمع نجم أبي الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الداني في علم الحيل، إلى جانب مشاركته في تخصصات علمية أخرى، وتجاوزت خبرته الميكانيكية الأندلس لتحظى بإعجاب المشارقة.
2-التجربة الميكانيكية لأبي الصلت وإعجاب المصريين بها
قدم أبو الصلت الاسكندرية سنة 489هـ/1096م فيما يروي ابن خلكان([11])، في حين حدد ابن أبي أصيبعة([12]) تاريخ دخول أبي الصلت إلى ديار مصر في حدود سنة 510هـ/1116م. أما ابن الأبار([13]) فذكر أن أبا الصلت خرج من بلده طالبا العلم وهو ابن عشرين سنة، ثم عاد من رحلته العلمية، فنزل المهدية على رأس الخمسمائة ليقيم هناك بين أحضان ملوكها.
وصادفت إقامته بمصر وزارة الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي([14]) الذي استبد بالخلفاء الفاطميين بعد وفاة أبيه بدر الجمالي سنة 487هـ/1094م، إلى أن قتل سنة 515هـ/1121م([15])، وخدم أبو الصلت هذا الوزير بالهندسة وعلم الحيل، وذلك في إطار تجربة علمية فريدة، فماذا عن تلك التجربة؟
لا تذكر المصادر الأندلسية المعتمدة شيئا عن تجربة أبي الصلت في علم الحيل بالمشرق، بل إن أبا الصلت نفسه لم يشر إليها في رسالته التي بسط فيها ما عاينه ببلاد مصر وعاناه، ليبقى المصدر المشرقي منبرا منفردا أطل من خلاله العطاء الأندلسي بالمشرق في مجال الميكانيكا.
فقد روى ابن أبي أصيبعة([16]) أن مركبا محملا بالنحاس قدم إلى الاسكندرية، فغرق بالقرب منها، ولم تكن للقوم حيلة لتخليص المركب الراقد في أعماق البحر، وهنا برزت العبقرية العلمية الأندلسية في شخص أبي الصلت أمية بن عبد العزيز، الذي اقترح خطة لإنقاذ المركب تتضمن شقا نظريا وآخر تطبيقيا.
فعلى المستوى النظري، بعد أن فكر أبو الصلت وأجال النظر في قضية المركب، « تلخص له فيه رأي » ([17])، ليجتمع بصاحب الأمر في الاسكندرية: الوزير الأفضل بن أمير الجيوش، وعرض عليه خطته لإنقاذ المركب الغارق، وما تستلزمه من الآلات، وتعجب الوزير من الخطة ورحب بها، رغم متاعبها المادية التي ستنهك خزينة الدولة، وأتى الوزير لأبي الصلت بجميع « ما يطلبه من الآلات، وغرم عليها جملة من المال » ([18])، لتبدأ المرحلة التطبيقية من الخطة.
وعلى المستوى التطبيقي وضع أبو الصلت الآلات التي تهيأت له في مركب كبير على موازاة المركب الغارق، ليمد إلى المركب حبالا من الإبرسيم، وليأمر قوما لهم خبرة في الغوص، بربط الحبال بالمركب الغارق، وكلف جماعة أخرى فوق المركب الراسي لإدارة آلات بأشكال هندسية، كان قد صنعها لرفع الأثقال، ومن ثم بدأت عملية الإنقاذ، فأخذت حبال الإبرسيم « ترتفع إليهم أولا فأولا، وتنطوي على دواليب بين أيديهم » ([19]).
فظهر المركب الغارق قريبا من سطح الماء، غير أن الحبال لم تلبث أن انقطعت، ليرجع المركب ثانية إلى قعر البحر.
هكذا إذًا انتهت التجربة الميكانيكية لأبي الصلت بالفشل، وقد عزا أحد الدارسين([20]) فشل المحاولة إلى غياب قانون أرخميدس عن أبي الصلت، ومفاد هذا القانون أن كل جسم مغمور في سائل يفقد من وزنه بقدر وزن حجمه من ذلك السائل، فعند ارتفاع المركب إلى سطح الماء، أصبح له وزن أكبر مما كان عليه وهو في قاع البحر، لكون الماء يسلط قوة يدفع بها إلى الأعلى كل جسم مغمور فيه([21]).
فهل يكون هذا القانون قد غاب عن أبي الصلت، وهو النابغ في عدة علوم، ومنها علم الحيل؟ على أي حال فشلت التجربة، وحسب ابن أبي أصيبعة([22]) فإن أبا الصلت أدى ثمن فشل محاولته قاسيا.
3-أبو الصلت وتضارب الروايات حول طبيعة جزاء تجربته
أورد ابن أبي أصيبعة تجربة أبي الصلت الميكانيكية في سياق بيانه لسبب سجن هذا الأندلسي بالإسكندرية، فإذا كانت روايته تعزو سبب الحبس إلى فشل تجربته العلمية، لكون الوزير الأفضل حنق عليه « لما غرمه من الآلات وكونها مرت ضائعة »([23])، فإن مصادر أخرى ترى خلاف ذلك.
فقد أرجع الحموي([24]) (ت. 626هـ/1229م) سبب سجن أبي الصلت بالإسكندرية إلى مؤامرة دبرها كاتب الوزير الأفضل، بعد أن أصبحت مكانة أبي الصلت لدى هذا الوزير عالية، شعر الكاتب بالخطر يهدد مكانته ومنصبه، فكان أن « أضمر لأبي الصلت المكروه » ([25])، فتغير الوزير على العالم الأندلسي، فحبسه مدة ثلاث سنين وشهرا واحدا([26])، وذلك في سجن المعونة بمصر([27]).
أما ابن سعيد([28]) فيذكر أن أبا الصلت توجه رسولا إلى الفاطميين بمصر من قبل حاكم المهدية، فسجن في القاهرة، دون أن يبين سبب هذا السجن، موزِّعا عمر أبي الصلت –البالغ ستين سنة- إلى ثلاثة أشطار: « عشرون في إشبيلية، وعشرون في المهدية، وعشرون في مصر محبوسا في خزانة الكتب »([29]).
وعن ابن سعيد ينقل المقري([30]) الرواية نفسها، دون أن يشير، بدوره، إلى سبب سجن أبي الصلت من قبل حكام مصر.
أما ابن خلكان([31]) فتحدث عن نفي الوزير الأفضل لأبي الصلت من مصر سنة 505هـ/1111م، وتردد بالإسكندرية إلى أن سافر إلى المهدية سنة 506هـ/1112م.
ويمكن الخروج بالاستنتاجات الآتية حول هذا التضارب في الروايات بشأن العقاب الذي لحق بأبي الصلت خلال إقامته بالديار المصرية:
-إجماع المصادر المعتمدة على حصول العقاب في حق العالِم الأندلسي على يد الوزير الأفضل شاهنشاه.
-تباين المصادر حول طبيعة هذا العقاب، إذ اعتبره ابن خلكان نفيا، في حين أجمعت باقي المصادر على أن الأمر يتعلق بالسجن الذي كان حبسا في خزانة كتب حسب ما ورد في هذه المصادر، أو حبسا في سجن المعونة بمصر حسب ما في إحدى روايتَي الحموي.
- اختلاف روايات المصادر التي أجمعت على سجن أبي الصلت حول مدة هذا السجن، حددها الحموي في ثلاث سنين وشهر، في حين أوصلها المقري نقلا عن ابن سعيد إلى عشرين سنة.
- تباين الروايات حول سبب سجن أبي الصلت، فعزاه ابن أبي أصيبعة إلى فشل التجربة العلمية لإنقاذ المركب، في حين أرجعه الحموي إلى مؤامرة كاتب الأفضل، وفي رواية إلى وشاية تلميذه.
في ضوء هذا الاختلاف حينا، والائتلاف أحيانا أخرى بين مختلف الروايات فيما يتعلق بالعقوبة التي لحقت أبا الصلت أمية، يمكن ترجيح المعطيات الآتية:
- حصول عقوبة السجن لأبي الصلت، وأن ليس هناك تعارض بين روايتَي السجن والنفي، ويبدو أن هذه العقوبة الأخيرة حصلت بعد الأولى كما يفهم من رواية الحموي([32])، الذي تحدث عن إطلاق سراح أبي الصلت، ثم توجهه إلى إفريقية. أما ابن أبي أصيبعة([33]) فتحدث عن شفاعة بعض الأعيان لإطلاق سراحه، ولا يستبعد أن يكون هذا السراح مقابل مغادرة البلاد.
- وعن سبب سجن أبي الصلت، يبدو أن الأمر يتعلق بفشل التجربة العلمية التي أثقلت كاهل ميزانية الدولة، وخيبت آمال الوزير في إنقاذ المركب وحمولته من النحاس. وشكل ذلك بابا واسعا نفذ منه منافسو أبي الصلت للوشاية به لدى الوزير الأفضل، من أجل إطفاء بريق نجمه لدى حكام مصر.
- أما عن طبيعة سجن أبي الصلت، فيمكن ترجيح حبسه في خزانة كتب كما ذهبت إلى ذلك معظم الروايات، وباعتبار أبي الصلت من الأعيان المقربين فإن مثل هذا الحبس هو المناسب في حقه، ومما يزكي هذا الرأي أن المقريزي([34]) (ت. 845هـ/1141م) ذكر أن حبس المعونة خاص بأرباب الجرائم، أما الأمراء والأعيان فيتم حبسُهم بخزانة البنود.
- وعن المدة التي قضاها أبو الصلت في السجن، فإن رواية الحموي (ثلاث سنين وشهر) أقرب إلى المنطق من جانبين: أولهما أنها مأخوذة عن الثقة([35])، وثانيهما: أن أبا الصلت « بقي في الاعتقال مدة إلى أن شفع فيه بعض الأعيان وأطلق » ([36]).
أما رواية عشرين سنة فمستبعدة، لكونها لم تستند إلى أحد، واكتفائها بلفظ "يقال"([37])، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإن فيها بعض الصنعة بتقسيمها لعمر أبي الصلت تقسيما مثيرا، يعتمد الرقم العشريني.
صفوة القول، فإن الأندلس سجلت عطاءها العلمي الفريد بالمشرق ممثلا في التجربة العلمية في مجال الميكانيكا، لأبي الصلت الداني بمصر، التي نالت إعجاب المصريين في بدايتها، غير أن نهايتها بالفشل تزامنت مع الوشاية به لدى حكام مصر، مما آل إلى نكبة العالِم الأندلسي.
المصادر والمراجع
بالعربية
1-الحياة العلمية في عصر ملوك الطوائف في الأندلس 422-488هـ/1030-1095م لسعد بن عبد الله البشري، ط. 1، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، 1414هـ/1993م.
2-الرسالة المصرية لأمية بن عبد العزيز أبو الصلت، تحقيق: عبد السلام هارون، نوادر المخطوطات، ط. 2، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي وأولاده، مصر، 1392هـ/1972م.
3-المغرب في حلى المغرب لأبي الحسن علي بن موسى المغربي ابن سعيد، جزآن، تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، 1953-1955.
4-المقتضب من كتاب تحفة القادم لأبي عبد الله محمد بن عبد الله القضاعي ابن الأبار، تحقيق: إبراهيم الأبياري، ط. 3، دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، القاهرة،-بيروت، 1410هـ/1989م.
5-النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لجمال الدين أبي الحسن يوسف ابن تغري بردي، الجزء 5 من أصل 14 جزء، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة، (بدون تاريخ).
6-تاريخ العلم عند العرب لعبد الله العُمري، ط 1، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عَمان، الأردن، 1410هـ/1990م.
7-تاريخ العلوم عند العرب لنصر الله ومطرجي محمد السكاف، ط 2، دار نظير عبود، بيروت، 1988.
8-دراسات ومباحث في تاريخ الأندلس: عصري الخلافة والطوائف لأحمد الطاهري، ط. 1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1993.
9-عيون الأنباء في طبقات الأطباء لموفق الدين أبي العباس أحمد بن القاسم ابن أبي أصيبعة، تحقيق: نزار رضا، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1965.
10-كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (المعروف بالخطط المقريزية) لتقي الدين أبي العباس أحمد بن علي المقريزي، الجزء الأول من جزءين، ط 2، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1987م.
11-معجم الأدباء أو إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب لشهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي، الجزآن 2 و3 من أصل 5 أجزاء، ط. 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411هـ/1991م.
12-مفاتيح العلوم لمحمد بن أحمد الخوارزمي، تحقيق إبراهيم الأبياري، ط 1، دار الكتاب العربي، بيروت، 1404هـ/1984م.
13-نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب لأبي العباس أحمد بن محمد التلمساني المقري، الجزآن 2 و3 من أصل 11 جزء، تحقيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي، ط. 1، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/1986م.
14-وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر ابن خلكان، الجزء الأول من أصل 8 أجزاء، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1968-1977.
بغير العربية
Pons Boigues, Francisco
1-Los historiadores y géografos arábigo-españoles, 800-1450 A.D., Philopress, Amsterdam, 1972.
([11]) – وفيات الأعيان، ج 1، ص. 246.
Pons Boigues, "Los historiadores y géografos ar?bigo-espa?oles, 800-1450 A.D. ", p.198, N° 159.
([12]) – عيون الأنباء في طبقات الأطبـاء، ص. 501. ويرى عبد السلام هارون في رواية ابن أبي أصيبعة هذه –إن صحت- دليلا على ورود أبي الصلت مرة أخرى إلى مصر، تقديم الرسالة المصرية، ص. 7.
([25]) – نفس المصدر، ص. 321. وفي رواية ثانية عزا الحموي سبب سجن أبي الصلت إلى وشاية أحد تلاميذه به لدى الوزير الأفضل. (نفس المصدر، صفحتا. 324-325).
([27]) – نفس المصدر والصفحة. وفي رواية ثانية للحموي أن أبا الصلت حبس في الاسكندرية في خزانة الحكيم أرسططاليس، (نفس المصدر، ص. 324).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق