د. أكرم
علي حَمدان
-------------------------
أسعدني
جدًّا أن بتنا نسمع الناس يتكلمون
العربية الفصيحة عبر القنوات التلفزيونية،
ويتحاورون بِها أو يتجادلون،
وسرني أي سرور سماع كثير من تقارير المراسلين،
يتكلمون في موضوعات حية، تَمَسُّ حياةَ
الناس من قريب، تقرؤها مذيعةٌ شابة، أو
يلقيها مراسلٌ في مقتبل العمر، من غير تقعُّرٍ
ولا تكلّف، ولا مبالغةٍ ولا تطويل، فكلماتُها
موزونة، وغرضها واضح،
وموضوعها مدروس، لأن الزمن الهوائي له
بالدقيقة محسوب. وزاد من
سعادتي أنِ انتقلت العربية الفصيحة إلى
بعض المحطات المخصصة للأطفال،
التي لو رافقها بعضُ إرشاد من الأهل
وتوجيه لكانت لها ثمرة مباركة
طيبة. فلِعهودٍ طويلة ظلت العربيةُ الفصيحةُ
حبيسةَ الكتب، رهينةَ الرفوف، لا نسمعُها
إلا في خطب الجمعة، أو بعض البرامج الإذاعية
التي لا يستمع إليها أكثر الناس، أو نشَرات
الأخبار التي تُسَمِّمُ البدن، أو عندما
يُلقّن المأذون الخاطب والمخطوبة.
إنَّ
كلمةً تفوه بِها مذيعةُ أخبارٍ في قناة
شهيرة، كالجزيرةِ مثلاً،
لا تُلقي لها بالاً،
أو تركيبًا يردده أحد
مقدمي برامجها المتنوعة، سيكون أبلغَ أثرًا
من قرار خَلَصَ إليه أعضاء مجمع اللغة العربية
بالقاهرة بعد صولات من النقاش وجولات،
ثم أُودعَ بطنَ عددٍ من أعداد مجلتهم، لا
يراه إلا قلة قليلة من المهتمين، تذهب به
بعدُ الأيام، ولا يلتفت إليه في الاستعمال
أحد، أما ما يلقى على مسامع الناس في هذه
القنوات فهو أقربُ منالاً، وأكثرُ ذيوعًا،
وأسهلُ محاكاة، فهو
يتناول موضوعات حية مَعيشة، تَهُمُّ أكثرَ
الناس، وتشغلُ بالَهم
كلّ حين، دأب الإعلام في كل زمان، وما أمر
الجوائبِ وأثرِها في ذيوع ما استجد في اللغة
مما تواضع عليه الناس ببعيد.
غيرَ
أن مما يشوبُ هذه السعادةَ
ما نزالُ نراهُ من فُشُوِّ اللحن، وكثرةِ
التَّكرار، ووضوح الحشو، وقرب الأساليب
إلى الرّكاكة، ولا سيما في البرامج الحوارية.
تسمعُ أستاذًا جامعيًّا، أو محللاً سياسيًّا،
أو طبيبًا مختصًّا، يتحدث في مسألة ما،
فتراه لا يُمَيِّزُ بين "ذات" و"ذي"،
ولا بين "ذا" و"ذو"،
وهي في المفرد، بل يخلط بينهما خلطًا
قبيحًا، فإن جاءت في الجمعِ غلبَ عليه العِيُّ
وانعقدَ منه اللسان، فإن اضطُر للحديث
بصيغة المثنى سمعتَ كلامًا عَجبًا، فإن
انتقل إلى الكلام بصيغة المؤنث،
أوجب عليك شكرَه أن أضحكك بعد غمّ، ورفّه
عنك بعد طول ملل، فإن اجتمعت النسوة وتعينَ
عليه استعمالُ نونِهنّ، فتلك
ثالثة الأثافي. لكنك إن سألته فيم يخطئ
في العربية إن كتب، ويلحن فيها إذا تكلم،
ولا يكاد يقيم جملة معربة، اعتذر إليك بأنه
ليس متخصصًا في العربية، ونسي الأعوام
الطوال التي كان فيها دَرْسُ العربية درسًا
أساسيًّا لا بدَّ له من حضوره والنجاحِ
فيه.
ولا يزال
كثيرون يجعلون مَعيشًا مُعاشًا، ومَصونا
مُصانًا، ومَبيعًا مُباعًا؛ ترى هذه الكلمات
تتكرّر مئات المرات في المقالات والحوارات
وعلى أبواب المحال، وأسوأ منها أنك ترى
أكثر المحال التجارية في مصر إذا أرادت
أن تعلن عن حاجتها لموظفات كتبت على واجهاتها
الزجاجية: "مطلوب موظفات ذو خبرة"
أو ما شابه ذلك، من الأغلاط المنكرة، وقد
قرأت الكثير من مثل هذه الإعلانات، لم أجد
من بينها واحدة صائبة!
وهذه
مسألة جدُّ خطيرة، توجب علينا إعادة النظر
في طرق تعليم العربية، أو في مناهجها، أو
فيهما معًا، وتَحثنا على النظر في طرق تخريج
معلمي العربية، في المدارس والجامعات على
السّواء، وتفرض علينا البحث عن سُبُل تعيد
للعربية روحَها، وتأتي بِها لغةً طيّعةً
سهلة، تنطلق بِها ألسنة
الناس وتجري بِها أقلامُهم، ويكون المتكلم
بِها جهير الصوت، جاري اللسان، لا تعترضه
لُكنة، ولا تقف به حُبسة، ولا يخطئ فيجيء
باللفظة على غير ما هي عليه في الوضع اللغوي،
ولا يُكرِّرُ في غيرما حاجة، ولا يحشو ولا
يعيد.
هذه مسألة
جد خطيرة لأنّها تُثبتُ إخفاقَ المدارسِ
إخفاقًا ذريعًا في تعليم العربية،
إذ لم تستطع تخريج طلبة قادرين على التحدث
بلغة سليمة، أو كتابة أسطر معدودات بريئة
من أخطاء محزنة، في النحو واللغة والإملاء،
فضلاً عن الأساليب والتراكيب،
مع أنّهم قضوا في مدارسهم اثني عشر عامًا
يتلعمون العربية، لم يكونوا
خلالها من البلداء ولا الغافلين، بل خرج
من بينهم الطبيب والمهندس والمعلم والمحامي
وغير ذلك.
وقد عرض
لهذه المسألة من قبلنا كثيرون، أذكر منهم
الأستاذَ أحمد أمين الذي تناولها في مقالتين
ضافيتين في فيض خاطره، افتتحهما بالتسليم
بأن الطلبة ضعاف جدًّا في اللغة العربية،
وأن الضعف في اللغة العربية نكبة على البلاد،
لا لأن اللغة العربية لغة البلاد، والضعف
فيها ضعف في القومية فقط، ولكن لأنّها اللغة
التي يعتمد عليها جمهور الأمة في ثقافتهم
وتكوُّن عقليتهم، فالضعف فيها ضعف في الوسيلة
والنتيجة معًا. وإن كنت أختلف مع الأستاذ
في أنه ردّ الأمر جزئيًّا
إلى طبيعة اللغة العربية، إذ رأى أنّها
صعبة عسرة، من حيث إنّها لغة معربة، ومن
حيث إن حروفها لا تدل على كيفية النطق بِها،
إلى أسباب أخرى لا نوافقه فيها لأمور نبينها.
لقد تكلّم
العرب وفق السليقة التي وهبهم الله، من
قبل أن يُخلق النحو، فجاؤوا بالعجيب من
القول، حُسنَ سبك، وخفةً على اللسان، وعذوبةً
في السمع، وتأديةً للمعاني الكثيرة بالكلام
القليل، وتباينت حظوظُ الناس من تلك الفصاحة
والبلاغة، ما بين حَسَنٍ وأَحسن،
وفصيح وأفصح، كلٌّ حسب البيئة التي نشأ
فيها، والقبائل التي احتك بِها،
ثم جاء النحاة ونظروا في كلام العرب،
وأعملوا فيه مباضعَهم وأدواتِهم، فاستنبطوا
ما بات يعرف بقواعد النحو، كما نظر الخليل
في شعر الشعراء واستنبط منه بحور الشعر،
وكما نظر علماء التجويد في قراءة القارئين
واستنبطوا منها أحكام التلاوة، وإلا فما
حاجة صاحب الذوق والسليقة الصحيحة أن يقال
له: إن الفاعلَ مرفوعٌ والمفعولَ به منصوب؟
أَوَتُراه قائلاً، ما حَيِيَ، غيرَ ذلك؟
أم تراه يصرفُ ما حقُّه المنع من
الصرف، فيقال له إنه ممنوع من الصرف؟ إنه
يتبع سليقته وما أخذه عن أمِّه وأبيه، فلا
يصرف ما لم تصرفه العرب، ليس لعلل النحاة،
ولكن لأن صرفه ثقيلٌ ممجوج، لا تسمحُ
به قريحة جيدة ولا يرضاه ذوق عال.
وطُوِيتْ
أيامٌ ونُشِرَتْ أيام، وفشا اللحن، ولم
تعد السليقة صافية كما كانت، ومن عكف على
العربية وتذوقها وخبر دواخلها وخوارجها،
عرف فضل العرب السابقين، واعترف أمامهم
بالقصور، فِعْلَ المفسر الكبير الإمام
ابن عطية الأندلسي، صاحب تفسير المحرر
الوجيز، وناهيك به،
إذ يعترف للعرب الأولين بتفوقهم ذوقًا
وجودة قريحة وميزًا للكلام، ويقر بقصوره
بالنسبة إليهم، فيقول في وصف
القرآن الكريم: "وكتاب الله لو نُزِعت
منه لفظةٌ ثم أُدير لسان العرب في أن يوجدَ
أحسنُ منها لم يوجد! ونحن تبينُ لنا البراعةُ
في أكثره، ويخفى علينا وجهُها في مواضع،
لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة
الذوق وجودة القريحة ومَيْزِ الكلام.
ولمعتذر
أن يعتذر اليوم ببعدنا حتى عن زمن ابن عطية،
ومجافاتنا للغة الصافية التي لم تكدرها
الدلاء، وأننا لسنا كذاك الأعرابي الذي
لم يكن يسمع من حوله إلا عربية خالصة، لا
تشوبُها شائبة ولا يعتريها لحن، ولئن ساغ
لنا أن نقبل عذر ذاك المعتذر،
إنه لا يجوز لنا أن نركن إلى هذا الخمول
والتراجع، حتى في زمن ما بعد النهضة، ولكن
أن نعيد النظر في هذه القضية الخطيرة، ونقلبها
على وجوهها، وأن يدلي فيها أصحاب الرأي
والفكر بدلائهم، حتى نصل فيها إلى ما يمكن
أن يطمئن إليه القلب، ويرتاح به الضمير.
وبدأة
ذي بدء، أحب أن أقرر أن العربية ليست بدعًا
من اللغات، وليست هي أصعبها، ولا أكثرها
تعقيدًا، وإعادة إحيائها في كلام الناس
ليست أمرًا ممتنعًا ولا مستحيلاً، ولا
سيما أن اللغة العامة في الأقطار العربية
لم تبعد عن الفصيح بما تصير به لغة مستقلة،
وأكثر ألفاظها فصيحة الأصل،
ودعوى أن الإنجليزية أو الفرنسية أسهل
من العربية غيرُ مُسَلَّمة، بَلْهَ الصينيةَ
وما شاكلها، والألمانيةَ وما والاها،
ومع ذلك فأهل كل لغة من هذه اللغات يتعلمونَها
ويتقنونَها ويحسنون التحدث بِها، وإن لم
يكونوا من المختصين، وأننا عندما نتكلم
عن العربية فنحن لا نتكلم عن النحو والصرف،
فالعربية ليست مقصورة على النحو والصرف،
أو ما كان يعرف بعلوم الآلة، على أهمية
هذه العلوم، وإنما آفاقها من ذلك أرحب،
ومجالاتُها لا شكّ أوسع، فبلسان العرب
كتب ابنُ سينا شفاءه وقانونه، والبيرونيُّ
تحقيقَه واستيعابَه، والرازي حاويَه وشكوكَه،
وابنُ عربي فتوحاتِه وفصوصَه، ونقل حُنينٌ
من العلوم ما نقل، في الطب والفلسفة، والمنطق
والطبيعة، والدين والأخلاق، وسائر المعارف
والعلوم والفنون.
أُحِبُّ
النحوَ العربيَّ حبًّا جمًّا، وتُطربني
قراءة مسائله ونكته،
وأنتصر للنحاة، وأستمتع بجوابات بعضهم
على بعض، ولكني أقول إن العربية ليست هي
النحو، ولا النحو هو العربية، وإن كانوا
قديمًا يطلقون على النحو علم العربية،
لشدة اهتمامهم به، وإيمانِهم بفضله،
وأرى أن من الغبن للطلاب والدارسين أن نضيع
كثيرًا من أوقاتِهم في تدريس النحو على
الطريقة التي ما برح يُدرّس بِها في المدارس،
ولا ننفك نرتلُ لهم قواعده ترتيلاً، ونطالبهم
بحفظها عن ظهر قلب: إن
هم حفظوها لم يعوها، وإن وعَوها لم يطبّقوها،
وإن طبقوها أخطؤوا التطبيق.
ولئن
عدمنا البيئة العربية التي تعين على اكتساب
اللغة من أفواه أهلها،
إننا لم نعدم الوسائل التي يمكن أن تعيننا
على محاكاة مثل تلك البيئة، من خلال الفضائيات
والإنترنت ببرامجه الكثيرة المتنوعة،
ثم من خلال اختيار معلمي اللغة العربية
من أصحاب الملكات لا من خريجي كليات التربية
الذين إن صلح بعضهم فلا يصلح أكثرهم. فمعلم
العربية يجب أن يكون ذا ملكة راسخة، وذوق
عال ممتاز، يعلمُ أن ههنا دقائقَ وأسرارًا
طريق العلم بِها الرويّة والفكر، ولطائف
مستقاها العقل، وخصائص معان ينفرد بِها
قوم قد هُدوا إليها ودُلّوا عليها وكُشف
عنها لهم، ورُفعت الحجب
بينها وبينهم، كما قال الجرجاني،
وأن يَسلك في تعليمها مسلك الصوفيِّ المتعبد،
الذي يؤمن أن من ذاق عرف، ومن عرف اغترف،
ومن اغترف اعترف، فالعربية لغة الذوق العالي،
والشعرية السامية، والموسيقى العذبة؛
لغة البناء المرصوص، والنظم المرصوف،
في كل لفظة من ألفاظها حلاوة، ولكل تركيب
من تراكيبها جرس بديع وإيقاع.
تقرأ
كلام أصحاب الذوق فلا تشك أنك أمام قطع
موسيقية بديعة، فلا عبارة قلقة، ولا كلمة
نافرة، ولا تركيب ركيك،
بل بيان مشرق، وأسلوب جميل،
كأنه الحفر والله والتنزيل. هذا الإمام
الشاب حسن البنا يَسّره الله لتتوج به مرحلة
الإصلاح الديني التي بدأها جمال الدين
الأفغاني، ويبزغ على يديه فجر الصحوة التي
سرى وميضها في صفوف الشباب والشابات، فتتغير
الأرض في بلادنا غير الأرض، ويأتي الشيخ
القرضاوي ليصف هذا التغير بِهذه اللغة
العبقرية فيقول: "رأيتُ هذا الشبابَ
الذي عاد إلى الإسلام بفهمٍ جديد، وإيمانٍ
جديد، وعزمٍ جديد، شبابًا يُشرقُ كضياء
الفجر، ويتدفقُ كأمواج البحر، نراه في
رقة الزهر، وفي صلابة الصخر، يصوم الاثنين
والخميس، يتلو القرآن ويتعبد بتلاوته،
ويدرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم،
ويتابع سيَر الصحابة ويتمنى أن يقتدي بِهم.
شباب والله مكتهلون في شبابِهم، غضيضةٌ
عن الشر أعينُهم، ثقيلةٌ عن الباطل أرجلُهم،
يمشون على الأرض وأعينُهم ترنو إلى السماء،
ويعيشون في الدنيا وقلوبُهم موصولةٌ بالآخرة،
ولقد قلتُ يوما في هذا الشباب الذي خالطت
قلبَه بشاشةُ الإيمان، وعاش للإسلام وبالإسلام،
هو أثمن ما في مصرَ من ثرَوات، إنه أثمن
وأغلى من الذهب الأبيض، والذهب الأسود،
والذهب الأصفر المعروف. إنه الثروة التي
لا تدانيها ثروة، وهي التي تغالي بِها الأمم،
وتعقد عليها الخناصر، وبِها تقوم النهَضات،
وتنتصر الرسالات: (إنّهم فتية آمنوا بربهم
وزدناهم هدى) .
أطمع
في أن يدرك من يتعاطون تدريس العربية هذه
المسألة، وأن يضعوا نصب أعينهم أنّهم إذ
يعلمون العربية فإنّهم يصقلون أذواقًا،
ويصنعون قرائح، وينشئون ملكات، فالعربية
تأبى أن تنقاد إلا لصاحب الذوق السليم،
والقريحة الجيدة، لا لحافظ القواعد المملة،
والقوالب الجاهزة، فكأيّن من حافظ لمتن
الأجرومية إن تكلم سبق لحنُه إعرابه، أو
متيم بالألفية غلب خطؤه صوابَه! ورحم الله
العلامة الطناحي، صاحب الذوق الرفيع، إذ
قال: "ووجوهُ الإحسان في تأدِية المعاني
كثيرة، ومنادحُها واسعة، ولا يكادُ يظفر
بِها إلا من وُهِب لطافةَ الحسّ، وخفّة
الروح، ورحابة النفس، والارتياح والطرب
لمظاهر إبداع الله عزّ وجلّ في هذا الكون،
وما بثّه في ملكوت السموات والأرض، وما
أجراه على ألسنة خلقه، أمّا "أهل الكثافة"
وهم الّذين امتحنهم الله بثقل الظلّ وركود
الهواء، فما أبعدهم عن البيان والإحسان:
وهُلْك
الفتى ألا يَراح إلى الندى وألا يرى شيئًا
عجيبًا فيعْجَبا"
أما القواعد
الكثيرة المتشعبة فإن هي إلا وصف أمين لعبقرية
العربية، ومبلغ العرب من الذوق والبراعة
والجري وراء طلب الخفة في كل ما قالوه وفاهوا
به، ولا حاجة للناس بها إن هم عرفوا الصواب،
وسبيل ذلك أن يعالج الذوق العام، وأن تقوم
السليقة الجماعية، بأن يطرق الصوابُ أسماعَ
الناس في كل وقت وحين،
وأن يرَوا الكلام في الكتب مشكولاً شكلاً
صحيحًا، لا أن نلجأَ إلى القواعد التي لا
تنتهي: قلت مرّةً لصديق لي من علماء الندوة
بالهند إني أعجب من الناس كيف يعدلون عن
صواب خفيف إلى خطأ ثقيل، كعدولهم عن
لفظة "الكيّ"، في قولهم "كيّ الثياب"،
إلى لفظة "الكَوي"، فأجاب بأن ثقل
لفظة "الكوي" أخفُّ من تعلُّم القاعدة
الصرفية التي جعلت "الكيَّ" كيًّا!
أنا لا يعنيني أن يعرفَ غيرُ المختصِّ كيف
صار الكيُّ كيًّا، ولا أن يحذقَ قواعد الإعلال
والإبدال، وإنما أن يعرف الكلمة الصحيحة،
ويشعر وهو ينطقها أنّها أخف على
اللسان وأوقع في الآذان.
ثَمَّةَ
قواعدُ ما انفكَّ الطلبة يستصعبونها، كقواعد
الممنوع من الصرف مثلاً،
فقد منعت العرب من الصرف
أسماء بعينها، ثم جاء النحاة وبوّبوا للمواضع
التي منعت من الصرف ونصّوا على علل منعها،
وسَمَّوا أسماء كثيرة،
ولكنك إن تأملت تلك المواضع بعيدًا عن علل
النحويين، أدركت أن باب المنع من الصرف
مجلى لبراعة العربية وعبقريتها، وعلمت
أن العلة في الحقيقة
واحدة، هي طلب الخفة والفرار من الثقل،
اقرأ إن شئت قوله تعالى: "لهدِّمت صوامعُ
وبِيَعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يذكر فيها اسم
الله" وجرِّبْ أن
تبدل بضمة صوامع أو مساجد
تنوينًا، ثم انظر كيف تكون ثقيلة في النطق
ممجوجة في السمع. ولو تأملت الحالتين اللتين
صرفت فيهما العرب ما حقه المنع من الصرف
تعجبت من لطيف حسهم،
وحسن ذوقهم، فقد صرفوا ما حقه
المنع من الصرف إذا أضيف أو عُرِّف بأل،
وفي كلا الحالتين يزول الثقل الداعي إلى
المنع من الصرف، فسبحان من ألهمهم هذا وأنطقهم
به.
وفي العربية
ألفاظ كثيرة حدّثنا عنها علماء الصرف،
كيف صارت إلى صورتِها التي نعرفها بِها،
وهي صورة سهلة سلسة، منها في القرآن الكريم
الكثير، ونحن لا حاجة بنا إلى معرفة كثير
مما قالوه إن لم نكن من المختصين، ولكن
أحببنا أن نري الذين يحبون العربية كم هي
طالبة للتخفيف، طاردة للتثقيل، قارن إن
شئت بين كلمة مجرَيَها ومجراها، وانظر
كم خفت الكلمة عندما قلبنا ياءها المفتوحة
ألِفًا!
ولو قلّبت
الكتب المؤلفة في الصرف وتأملت أبوابَها
من مثل التصغير والتكسير والنقص والقلب
والنقل والاشتقاق بفرعيه، والإعلال والإبدال،
لوقفت من العرب على ما لا ينقضي منه العجب،
مما حيّر العلماء بعدُ في تتبعه واستقصائه
وتبويبه، وكله يرجع إلى القاعدة الكبرى
وهي طلب الخفة والفرار من الثقل، وكأني
بأبي الطيب حكى حال العرب مع النحاة وعلماء
اللغة في بيته المشهور:
أنامُ
مِلْءَ جُفوني عَنْ شوارِدِها ويسهرُ الخلقُ
جراها ويختصمُ
وكلمة
أنا إذا وليها حرف متحرك أسقطت العرب ألفها،
واكتفت بفتحة النون القصيرة، ولو أثبتتها
لكانت ثقيلة، وقد أثبتتها بعض القبائل
فلم تحظ لهجتها بالذيوع،
بل أهملت وعُدّت في عداد الشاذّ والقليل،
وإن وقعت في بعض قراءات القرآن
التي فيها الفصيح والأفصح وما دون ذلك.
ومن عبقرية
اللغة العربية الاختصار، ومنه باب النحت،
وهو بناء كلمة جديدة من الجمع بين كلمتين،
ويشتق منها فعل من جنسها، كقولهم حيعل،
من حيَّ على، وكبّر، أي قال الله أكبر،
وأمثلته كثيرة، يراها الراغب في كتب فقه
اللغة وعلومها، كفقه اللغة للثعالبي والخصائص
والمزهر. ولم تترك العرب شيئا من هذا الباب
إلا وضعت له لفظًا يدل عليه اختصارًا، ودونك
الهيللة والحوقلة والحمدلة والبسملة والجعفدة
والسبحلة والحسبلة والمشألة والسمعلة
والطبقلة والدمعزة، بل
لقد قال ابن جني في هذا وأضرابه إن الاشتقاق
من الأصوات باب يطول استقصاؤه. وقد وجدتني
أنحت مصطلحات جديدة بينما كنت أنقل إلى
العربية بعض الكتب المؤلفة باللغة الإنجليزية،
فكان من ذلك: العِرْقومية، والعردينية،
والرمزَعرقية، والنفسياسة
أو النفطياسة، وهي أوصاف تصدق على كثير
مما يواجه العالم من نزاعات في حقبتنا هذه،
فالعرقومية منحوتة من العرقية والقومية،
وكذلك العردينية من العرقية والدينية،
أي النزاعات المشتملة على ذين البُعدين
معًا.
ثم انظر
إلى أبنية الأفعال عند العرب ومعانيها
تَرَ عجبًا، فوزن فعّل مشدد العين مثلاً
يفيد النقل، كفرّحتُه، أي نقلت إليه الفرح؛
والتكثير كقطَّعته؛
والجعل على صفة كفطّرته؛ والتسمية، كخطّأته
وفسّقته وكفرته، أي سميته مخطئًا أو فاسقًا
او كافرًا، والدعاء للشيء، كسقَّيته؛ أو
عليه، كعقرّته؛ والقيام على الشيء، كمرّضته؛
والإزالة كقذَّيتُ عينه، أي أزلت قذاها؛
والرمي بالشيء، كجبّنته، أي رميته بالجبن.
وإن شئت
ألا ينقضي عجبك فانظر من العربية إلى باب
الإدغام وما فيه من أقسام يعرف بعضها من
لهم صلة بعلم القراءات وفنّ التجويد، وهو
باب واسع يجعل المرء يقف إجلالاً أمام عبقرية
هذه اللغة في التخفيف على الناطقين بِها.
أدغمت في مواضع وفكّت في أخرى، ولو
جعلت هذه مكان تلك أو عكست وقفت على مبلغ
العرب في تذوق الكلام والسعي للخفة في كل
ما فاهوا به. ورحم الله الإمام حمزة بن حبيب
الزيّات في اختياراته اللطيفة في هذا الباب،
والإمام السوسي قطب باب الإدغام، كما سمّاه
الإمام الشاطبيّ في
لاميته العظيمة المشهورة بالشاطبية.
ولا
تفوتنك
في هذا السياق تلك المنادح الواسعة من التقديم
والتأخير، والحذف والتقدير، والإضمار
والفصل، والاتساع والحمل، والتضمين والجوار،
والاستغناء ورعاية الظاهر واعتبار المحل،
ومعاني الحروف والأدوات ووقوع بعضها موقع
بعض، وتبادل وظائف الأبنية، ثم لغة الشعر
التي يسمونَها الضرائر، وكلُّها ظواهرُ
تَدُلُّ على عِظَمِ العربية وعُلُوِّ كَعْبِ
أهلِها في كمال الذوق وجودة
السليقة.
أَلَمْ
تَرَ إِلى العربِ كيفَ بالغت
في طلب الخِفَّةِ حتى حذفت كلَّ ما لا حاجة
إليه في جلاء المعنى واستغنت عنه، فقالت
امرأةٌ طاهرٌ من الحيض، لأنَّ الرجلَ لا
يشركها في الحيض، وطاهرةٌ من العيوب لأنه
يشركها في ذلك، وكذلك قاعدٌ من الحبل، وقاعدةٌ
من القعود، ومثله حاملٌ وحاملة؟ وكلُّ
ما استقلت به المرأة عن الرجل سقطت
من آخره التاء التي يجاء بِها للتأنيث.
وفي الهمز
وأحواله دلائلُ باهرة على مبلغ العرب في
طلب الخفة، فالهمز ثقيل، والعرب تصرفت
فيه ما لم تتصرف في سواه من الحروف، فجاءت
به على سبعة أوجه مستعملة في القرآن؛ جاءت
بها محققًا، ومخففًا، ومبدلاً بغيره، وملقًى
حركته على ما قبله، ومحذوفًا، ومثبتًا،
ومسهلاً بين حركته والحرف الذي منه حركته.
وهم في ذلك كله إنما كانوا يسعون لطلب الخفة،
فإن حققوا فللخفة، وإن سهلوا فللخفة، يحدوهم
الذوق وتسندهم الرواية.
من العرب
من كان لسانه يطوع بنطق الهمزتين متتاليتين
محققتين، فنطق بِهما كذلك، وجاءتنا بِهذا
الروايةُ القرآنية عن عاصم برواية حفص،
وهي الرواية التي كتب لها من الذيوع والانتشار
ما لم يكتب لسواها، ومنهم من كان يستثقل
هذا فجنح إلى التخفيف، وبالتخفيف جاءت
روايات أخرى كثيرة. كان نافع، وهو قارئ
الدينة يقرأ بتخفيف الهمز في مواضع كثيرة،
وقد روى عنه تلميذه النجيب الملقب بورش
المصري، إبدال الهمز الساكن هروبًا من
ثقله، فإن رأى الهمز أخفَّ من الإبدال همز،
كما وقع في باب الإيواء، وقد أفردنا مسألة
الهمز ببحث طويل، فليرجع الراغب إليه،
ففيه فوائد كثيرة. وللحديث
إن شاء الله بقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق