الثلاثاء، 23 يوليو 2013

لا نزال سائرين في غير الطريق *

            التقليد شرُّ ما تتصف به الأمم ، ولعل ما نحن فيه من شر إنما جاءنا من ناحية إسفافنا إلى منزلة المقلدين في كثير من شئوننا ، مع أننا أمة تعلم أن التقليد في العقيدة رائد للكفر ، وأن التقليد في العلم والفقه وليد الضعف ،وأن التقليد للأجانب عنوان الذلِّ . والأمة التي تريد النهوض حقاً لا تأخذ من الأمم الأخرى شيئاً من محاسنها إلا عند الحاجة إليه وبشرط هضمه وتمثيله .
            أرأيتَ لو كان لك ولد في السادسة من عمره ، ودخل على قلبك الابتهاج والسرور من احتفال أخيك بتزويج ابنه الذي في سن العشرين ، هل يحملك التقليد على أن تحتفل أنت الآخر بتزويج ابنك وهو لا يزال في السادسة ؟ إنك لو فعلت لكنتَ في هذا التقليد كوزارة معارفنا التي رأت عند الأوربيين مدارس للتمثيل وأخرى للتصوير والنحت ، فرصدت في ميزانية الدولة ألوفاً كثيرة من الجنيهات لإقامة مثل ذلك عندنا . ولو كان الأمر إليَّ في تعيين سياسة التعليم لأكثرت من مدارس الصناعات حتى يكثر عدد المصريين الذين يصنعون أسرَّة النوم ويطلون المعادن ، بل كنت أفتتح مدارس للصناعات الزراعية حتى يكون لنا في مصر رجال يغنوننا عن استيراد الجبن بأنواعه ، والصابون بأنواعه ، وغير ذلك ما تحمله إلينا البواخر من جميع بلاد العالم وتعود بأثمانه مأخذوة من جيوب المصريين لتدخل خزائن الغربيين ، مع أن هذه الصناعات من أبسط ما تستطيعه كل أمة مهما كانت وسائلها ضعيفة .
            صناعة الجبن الرومي وجبن الفلمنك ألزم لمصر من صناعة نحت التماثيل ، ومتعلموها يفيدون ويستفيدون ، بينما الآخرون سيكونون عالة على الأمة أو على الحكومة ، وستخلق لهم الحكومة أعمالاً لا لزوم لها وتنقدهم عليها المال من الميزانية دون أن يكون للوطن كبير حاجة إلى ذلك
            وإذا كان تأسيسنا معهد التمثيل ومدرسة التصوير والنحت إنما هو محض تقليد لبلاد لا يتفق سنها العمراني من سن بلادنا العمراني في حالتها الحاضرة ، فإن شرَّاً من ذلك أن نقلد تلك البلاد فيما نعلِّمه أبناءنا في هذه المدارس .
            كلفني صديق لي من المؤلفين في فلسطين قبل سنتين أن أطبع له كتاباً مدرسياً في تاريخ العرب ، وأراد أن يزينه بصور تمثل بعض الحوادث والأشخاص كافتتاح خالد بن الوليد مدينة دمشق واستدعاء عمر بن الخطاب ابن عمرو بن العاص الذي ضرب المصري في حادثة سباق الخيل المشهورة ليودِّبه على ذلك ، وفي هذه الحادثة قال عمر كلمته العظيمة : « مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟» [1] فكنتُ أبحث عن مصوِّر مصري يحسن تصوُّر الحوادث الإسلامية وتصويرها ، وقد أرشدني صديق خبير إلى مصوِّر له آثار بارعة ، ولعل القارئ يدهش إذا قلت له إن هذا المصور – وهو مصري مسلم – لم يكن يعلم أن عمرو بن العاص غير عمر بن الخطاب ، ولم يكن يعلم عن خالد بن الوليد شيئاً . وذكرتُ ذلك لصديقي حسن أفندي أحمد البنا فقال لي : لا تعجب ، فإن بين زملائي المدرسين بالمدارس الأميرية المصرية والمتخرجين في المدارس العليا المصرية مَن لا يعرف مَن هم المهاجرون والأنصار .
            إلى هذا الحدِّ صرنا غرباء عن تاريخنا ، وإلى هذا الحدِّ بلغ بنا تقليد أوربا في مرافقها وأوضاعها ومناهجها .
            لقد أنشأنا مدرسة للتصوير والنحث وسائر الفنون الجميلة ، فما هو نصيب الفن الإسلامي في هذه المدرسة ؟ وإلى أي حدٍّ بلغت عنايتنا في تلك المدرسة بفنون الزخرفة العربية ؟
            هل عرض أساتذة هذه المدرسة على أنظار تلاميذهم نقوش أبنية (الحمراء) وغيرها من مباني العرب في الأندلس ، مع أنها مستفيضة في كتب نفيسة تفنَّنَ الأوربيون بإتقان طبعها حتى جاءت آية الجمال واللطافة وسلامة الذوق ؟
            هل عنى أساتذة هذه المدرسة بتنمية المعارف التاريخية عن عصور الإسلام في أذهان تلاميذهم حتى تكون مصر داراً لابتكار الصور التي تبعث أمجاد تلك العصور بما تمثله من حوادثها الكبرى ومحامدها التي تحسدنا الأمم عليها ؟
            لا شيء من ذلك في هذه المدرسة ، ولم أقل هذه الكلمة إلا بعد أن اجتمعتُ بمن يتعلم فيها ووقفتُ منه على الحقيقة .
            إنهم رأوا أوربا تعلِّم في مدارس التصوير والنحت أساليب الأوربيين في التصوير والنحت فقلَّدوها ، ورأوا أوربا تأتي بفتاة عارية فتوقفها بين أيدي التلاميذ ليصوروا أوضاعها ، فحملهم التقليد على أن يفعلوا كما تفعل أوربا . وها إن الطلبة المصريين المسلمين يتذمرون من هذه الحال ، وفي موضع آخر من « الفتح » نموذج من هذا التذمُّر .
            يسألني أحد طلبة مدرسة الفنون التطبيقية رأيي فيما عليه حال تلك المدرسة ، ويستغيث من وجود فتاة فاسدة جيء بها من الشارع لتقف أمام التلاميذ عارية ، وأنا أقول لذلك الفتى الغيور : أمَا كان لك في جميع مناهج العرفان المختلفة ما يصرفك عن هذا المنهج ، وإن كان هنالك من الضرورات ما ألجأك إلى هذه المدرسة ، فأنا أختار لك أن تعنى بفن الزخرفة ولا سيما الزخرفة العربية فإن لها فائدة عملية إذا خرجتَ إلى معترك الحياة ، لأنها يُحتاج إليها في المباني والنقوش الملونة وفي النقش على النحاس وفي النجارة وغيرها ، وها إن صناعة السجاد أخذت ترتقي في مصر وهي تستمد في أوضاعها وأشكالها من أذواق المشتغلين بفن الزخرفة ، ومتى نبغ فيه نابغ احتاج إليه الوطن في كثير من وجوه العمل . أما إن كان في الإمكان التحول عن هذه المدرسة الكمالية جداً إلى مدرسة أخرى تعلِّم ما تمس إليه حاجة الأمة أكثر فيكون في التحول عنها إلى المدرسة الأخرى كل خير .
            وعلى كل حال فإن ما أوجِّه إليه أنظار كل من يهمُّه أمر هذه الأمة ممن لهم يد في تعيين مناهج التعليم هو أن التقليد شر مطايا الحياة ، وما دمنا نقلد أوربا غير ناظرين إلى اختلاف ظروفنا وظروفها فإننا سنبقى سائرين في غير الطريق ، ولن نصل بذلك إلى الغاية المنشودة من القوة والعز .
محب الدين الخطيب

*  العدد 225 ، القاهرة : يوم الخميس 22 جمادى الآخرة 1349 ، السنة الخامسة [ص 385 – 386].
[1]  هذه القصة وبهذا اللفظ اسنادها منقطع ومظلم وكذلك لنكارة المتن والذي فيه طعن ببعض الصحابة رضوان الله عليهم ممن ذكر اسمهم بهذه القصة . ولقد فند الشيخ إحسان العتيبي هذه القصة .  انظر تفصيل ذلك على الرابط التالي :
الفسطاط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق