بقلم: إسماعيل الكيلاني
قال
محمد بن عجلان: »لم أرَ أحداً أنصح للمسلمين من الأوزاعي..«
كان إذا وعظ الناس لم يبق أحد في مجلسه
إلا بكى بعينه أو قلبه، ما رؤي ضاحكاً
مقهقهاً ولا باكياً في مجلسه قط، وكان
إذا خلا بكى حتى يُرحَم..
أفتى وله من العمر خمس وعشرون سنة..
ولم يزل يفتي حتى مات رحمه الله، وقد
أفتى في سبعين مسألة بحدثنا وأخبرنا..
حياته ومولده
هو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد، أبو
عمرو الأوزاعي، نسبة إلى محلة »الأوزاع« قرية خارج باب الفراديس من
قرى دمشق. ولد بمدينة بعلبك سنة ثمان
وثمانين للهجرة، ونشأ بالبقاع يتيماً
في حجر أمه التي كانت تنتقل به من بلد
إلى بلد. تأدّب بنفسه، فلم يكن من أبناء
الملوك والخلفاء والوزراء والتجار
وغيرهم أعقل منه، ولا أورع، ولا أعلم،
ولا أفصح، ولا أحلم، ولا أكثر صمتاً منه.
ما تكلم بكلمة إلا كان المتعين على من
سمعها من جلسائه أن يكتبها عنه من
حسنها، كما قال ابن كثير رحمه الله.
سكن بيروت مرابطاً إلى أن مات فيها
سنة سبع وخمسين ومائة للهجرة، وعمره
يومذاك سبع وستون سنة..
سمع جماعات من التابعين، كعطاء بن
أبي رباح، وقتادة، ونافع مولى ابن عمر،
ومحمد بن المنكدر، والزهري..
وحدث عنه جماعات من سادات المسلمين،
كمالك بن أنس، والثوري،والزهري، وهو من
شيوخه، وأثنى عليه غير واحد من الأئمة.
قال النووي رحمه الله: »وقد
أجمع العلماء على إمامة الأوزاعي
وجلالته وعلو قدره وكمال فضله..«.
وقال أبو عمرو الشامي الدمشقي: »الأوزاعي
إمام أهل الشام في عصره بلا مدافعة ولا
مخالفة«.
وقال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: »كان
الأوزاعي إماماً يقتدى به«.
أما سفيان بن عيينة فقال: »كان
الأوزاعي إمام أهل زمانه«.
كان رحمه الله كثير العبادة، حسن
الصلاة، حتى قال في حقه الوليد بن مسلم: »ما رأيت أحداً أشد اجتهاداً من الأوزاعي
في العبادة«.
وكان رحمه الله يقول: »من
أطال القيام في صلاة الليل هوّن
الله عليه طول القيام يوم القيامة«
أخذ ذلك من قوله تعالى: (ومن الليل
فاسجدْ له وسبحه ليلاً طويلاً. إنّ
هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم
يوماً ثقيلاً) [الإنسان: 26-27].
كما كان، رحمه الله، إلى جانب زهده
وورعه كريماً سخياً، لم يمسك شيئاً، ولم
يترك يوم مات سوى سبعة دنانير كانت
جهازه، وكان ينفق كل ما يأتيه في سبيل
الله، وفي الفقراء والمساكين عدا عن
كونه شديد التمسك بالسنة، فهو القائل: »العلم
ماجاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم، وما لم يجئ عنهم فليس بعلم.. عليك
بآثار السلف وإن رفضك الناس،وإياك
وأقوال الرجال وإن زخرفوه وحسنوه، فإن
الأمر ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم..
اصبر على السنة، وقف حيث وقف القوم،وقل
ما قالوا، وكفّ عما كفوا، وليسعك ما
وسعهم..«.
إلى جانب كونه قائماً بالحق لا يخشى
في الله لومة لائم،وقد روي عن والي
بيروت عند وفاه الأوزاعي رحمه الله قوله:
»رحمك
الله يا أبا عمرو، فقد كنتُ أخافك أكثر
ممّن ولاّني«
أي: الخليفة.
وهو القائل: »
لا يجتمع حب عثمان وعلي رضي الله عنهما
إلا في قلب مؤمن.. وإذا أراد الله بقوم
شراً فتح عليهم باب الجدل وسدّ عنهم باب
العلم والعمل..«.
من مواقفه: »فلا تحل لك إلا بطريق شرعي«..
لما
دخل عبد الله بن علي، عم السفاح
العباسي، دمشق بعد القضاء على الدولة
الأموية، طلب الأوزاعيَ الذي يحدثنا
فيقول: دخلتُ عليه وهو على سرير وفي يده
خيزرانة، والمسوّدة علي يمينه وشماله،
معهم السيوف مسلطة، فسلمتُ عليه، فلم
يردّ، ونكت بتلك الخيرزانة التي في يده،
ثم قال: يا أوزاعي، ما ترى فيما صنعنا من
إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد
والبلاد، أجهاداً ورباطاً هو؟ فقلتُ:
أيها الأمير، قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: »إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل
امرء ما نوى، فمن كانت هجرتُه إلى الله
ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن
كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة
ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه«.
فنكت بالخيزرانة أشد مما كان ينكت، ثم
قال: يا أوزاعي، ما تقول في دماء بني
أمية؟ فقلت: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: »لا
يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس
بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه
المفارق للجماعة«. فنكت بالخيزرانة أشد من ذلك
وقال: ما تقول في أموالهم؟
فقلتُ:
إن كانت في أيديهم حراماً، فهي حرام
عليك أيضاً، وإن كانت لهم حلالاً، فلا
تحل لك إلا بطريق شرعي.. فنكتَ أشد مما
كان ينكت من قبل، ثم قال: ألا نولّيك
القضاء؟ فقلتُ: إن أسلافك لم يكونوا
يشقون علي في ذلك، وإني أحب أن يتم ما
ابتدؤوني به من الإحسان. فقال: كأنك تحب
الانصراف؟ قلت: إن ورائي حرماً، وهم
محتاجون إلى القيام عليهن وسترهن،
وقلوبهن مشغولة بسببي... فأمرَني
بالانصراف..
(ألاّ تزر وازرة وزرَ أخرى)
ذكر صاحب كتاب »الأموال«
أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله،
وكذلك صاحب »فتوح البلدان«
البلاذري وغيرهما من المؤرخين، ما أقدم
عليه نفر من أهل الذمة –النصارى- في جبل
لبنا أيام العباسيين من نكث للعهود وحمل
للسلاح وإعلان للفتنة والتمرد، وكيف
قضى على فتنتهم الوالي العباسي صالح بن
علي بن عبد الله بن عباس،وكيف أقر من بقي
منهم على دينهم وردّهم إلى قراهم، ثم
كيف شرّد أهل القرى وأجلاهم عن قراهم
رغم عدم اشتراكهم جميعاً في هذه الفتنة..
ويذكرون كيف أن إمام أهل الشام،
الأوزاعي رحمه الله، لم يرضَ بما حلّ
بهم، ولم يسكت عن هذا الظلم، فما كان منه
إلا أن أرسل رسالة إلى الوالي يقول فيها:
»... وقد كان من إجلاء أهل الذمة
من أهل جبل لبنان، ممن لم يكن ممالئاً
لمن خرج على خروجه، ممن قتلتَ بعضهم،
ورددتَ باقيهم إلى قراهم ما قد علمتَ،
فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة حتى يُخرَجوا
من ديارهم وأموالهم؟ وحكم الله تعالى: (ألا
تزرَ وازرة وزرَ أخرى)، وهو أحق ما وقف
عنده واقتدى به.. وأحق الوصايا أن تحفظ
وترعى وصية رسول الله صلى الله عليه
وسلم فإنه قال: »من
ظلم معاهداً أو كلَّفه فوقَ طاقته فأنا
حجيجه«
(أي: خصمه). وأصرّ على الوالي أن يبادر
برفع هذا الظلم، وإزالة الحيف عن كاهل
هؤلاء المظلومين مبيناً له ضرورة
التزام مبادئ الإسلام مهما كانت الظروف..
ولقد استجاب الوالي وفعل ما طلبه
الأوزاعي..
هذا على الرغم من أن الذين قاموا
بالفتنة من هؤلاء النصارى نكثوا العهد،
وكانوا على صلة بالبيزنطيين، يعملون
لحسابهم، إضافة إلى ارتكابهم عمليات
النهب والقتل وقطع الطريق وترويع
الآمنين. يقول فيليب حتي اللبناني
المتأمرك في كتابه (تاريخ سورية 2/165): ».. لجأت جماعة من نصارى الجبل
إلى السلاح تفادياً لمصادرات جديدة
تنزل بهم، منتهزين فرصة وجود الأسطول
البيزنطي في مياه طرابلس، وانقضوا من
قاعدتهم وانتهبوا عدداً من قرى البقاع،
وكان يتزعمهم فتى قروي عظيم البنية، بلغ
من جرأته وتهوره أن أقام نفسه ملكاً،
لكن العصابة اللبنانية قيدت بعد حين إلى
كمين قرب بعلبك، نصبته لهم فرقة فرسان
عباسية وفتكت بهم..«
ولقد أوردتُ في هذا الجانب رواية
فيليب حتي لأنه غير متهم بمعاداة هؤلاء
بل بموالاتهم وحبهم والحدب عليهم.. ومع
ذلك لم يقبل الأوزاعي، رحمه الله، ما
لجأ إليه الوالي لكسر شوكتهم، احتياطاً
وتحسباً لأمر قد يحدث مستقبلاً، فشردهم
من القرى في الجبل وأسكتهم غيرها... وأصر
عليه بضرورة التزام حكم الله عز وجل
وإنفاذ سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. »وقد
بلغنا أن حكم الله عز وجل أن يؤخذ العامة
بعمل الخاصة، ولكن يؤخذ الخاصة بعمل
العامة، ثم يبعثهم الله على أعمالهم،
فأحق الوصايا أن تحفظ وصية رسول الله
صلى الله عليه وسلم«.
موعظته للمنصور العباسي
اجتمع الأوزاعي بالمنصور العباسي
حين دخل الشام – وكان الاجتماع استجابة
لطلب المنصور، وبعد محاولات من
الأوزاعي للتهرب- فوعظه وذكّره، وكان
مما قاله: »يا أمير المؤمنين، إنك تحمل أمانة هذه
الأمة، وقد عرضت على السموات والأرض
والجبال فأبينَ أن يحملنها وأشفقن منها..
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »ما من راع يبيت غاشاً لرعيته إلا حرّم
الله عليه رائحة الجنة«. يا أمير المؤمنين، من كره
الحق فقد كره الله، إن الله هو الحق
المبين، فأعيذك يا أمير المؤمنين أن ترى
قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم
تنفعك مع المخالفة لأمره، فقد قال صلى
الله عليه وسلم: »يا
صفية عمة محمد، ويا فاطمة بنت محمد،
استوهبا نفسيكما من الله، فإني لا أغني
عنكما من الله شيئاً«. إنك عند الناس لحقيق أن تقوم
فيهم بالحق، وأن تكون بالقسط فيهم
قائماً، ولعوراتهم ساتراً، لِمَ تُغلِق
دونهم الأبواب،ولِمَ تقم عليك دونهم
الحجاب؟ يا أمير المؤمنين، إن أشد الشدة
القيام لله بحقه، وإن أكرم الكرم عند
الله التقوى.. إنه من طلب العز بطاعةالله
رفعه الله، ومن طلبه بمعصية الله أذله
الله ووضعه..
ولما استأذن الأوزاعي بالانصراف،
أمر له المنصور بمال يستعين به على
خروجه، فرفض الأوزاعي المال، وقال: أنا
في غنى عنه، وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض
من الدنيا..
هذا غيض من فيض من مواقف وفقها
الأوزاعي لله، فلا عجب أن يهابه الولاة،
ولا عجب أن لم يمكنهم الله عز وجل أن
يمدوا أيديهم بالأذى إليه.
رحمك الله أبا عمرو، وقيض للمسلمين
في أيامهم هذه من العلماء العاملين
أمثالك..
المراجع:
-الأموال لأبي عبيد.
-فتوح البلدان للبلاذري.
-البداية والنهاية لابن كثير.
-تهذيب الأسماء واللغات للنووي.
-الجرح والتعديل للرازي.
مجلة الأمة، العدد 35، ذو القعدة 1403 هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق