بقلم: طارق حميدة (1)
أخرج الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم, يقول :" كانت امرأتان معهما ابناهما ,جاء الذئب فذهب بابن
إحداهما فقالت صاحبتها إنما ذهب بابنك ، وقالت الأخرى إنما ذهب
بابنك،فتحاكمتا الى داود - عليه السلام- فقضى به للكبرى فخرجتا على
سليمان بن داود عليهما السلام , فأخبرتاه فقال ائتوني بالسكين أشقه
بينهما ، فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى"
أول ما يسترعي الانتباه ويستدعي الدهشة لقارئ هذه القصة ، هو التساؤل عن
السبب الذي جعل المرأة الثكلى تبادر وتسارع الى الادعاء بأن الابن
المقتول هو ابن صاحبتها , وأن الآخر السليم الناجي هو ابنها؟ إذ كيف
يختلط عليها هذا الأمر؟ والمفروض أن الصورة غير الصورة ، والثياب غير
الثياب ، وربما اختلف العمر أيضاًَ ، وإذا التبس الأمر على كل الناس فكيف
يلتبس على الأم؟ أغلب الظن أنه شعور بالحسد لصاحبتها التي سلم لها طفلها
، ولم يتقطع قلبها عليه أو يغمرها الحزن والألم لفراقه ، بعكسها هي .
إنها إذن تريد الولد الصغير لا لترعاه وتغمره بحنانها ، ولكن لأجل
إيلام والدته وإيلامه ، حتى لو وصل الأمر إلى قتله كما حصل لابنها ،
إنها تتلذذ بالعدوان والإيذاء على الآخرين ، يؤكد هذا المعنى أنها لم
تمانع في أن يشق سليمان الولد نصفين.
إن الصراع على الطفل ، بين المرأتين ؛ الأم الحقيقية والأم الموتورة
المزيفة ، يكاد يطابق الصراع بين القيادتين الإسلامية والجاهلية وكل
منهما تسعى ليكون الشعب تحت زعامتها ، وتعلن كل منهما أنها الأحق بقيادة
ورعاية الجماهير وأنها الأم الحقيقية للشعب والحريصة على مصالحه.
في القصة ذهبت المرأتان إلى داود عليه السلام فقضى بالولد للكبرى ، مع أن
الولد في الحقيقة - وكما يظهر في نهاية القصة - هو ابن الصغرى ، وهذا
يعني أن المظهر كثيراً ما يخدع فمن يصدق بأن الكبير يكذب ؟ إن الكذب -
كما يظن الكثيرون - يمكن أن يصدر عن الصغير، أما الكبير فلا.
هذا أمر، والأمر الآخر الذي يستنبط من السياق أن المرأة الكبرى - وهي
الأم المزيفة - كانت ألحن بالحجة ، وأقدر على التظاهر بالحرص على الولد
.وهذا السبب - فيما يبدو - هو الذي خدع داود عليه السلام ، فحكم بالغلام
لها بعد سماعه لحجة المرأتين .
وفي الصراع بين الإسلاميين والجاهليين تبرز قضية(الحجم) ؛ فالزعامة
الجاهلية هي (الكبرى) من حيث القوة والعدد ,وهي الأسبق زمناً في التواجد
، فيما يتراءى للناظر عندما يأتي الرسل بعد انحراف أقوامهم ، أو تأتي
دعوات إصلاحية تجدد للناس أمر دينهم , ويكون الإسلاميون هم الأقل عددا
وقوة والمتأخرين زمنيا ...الأمر الذي يظهرهم بمظهر الدخيل الطارئ المعتدي
,وأما الجاهليون فيظهرون بمظهر الطرف الأصيل ، والأحق بقيادة الشعب حتى
في أعين كثير من "المنصفين"!
إن (الكبرى) وما تمتلكه من رصيد الخبرة والتجربة في التعامل ، يعطيها
إمكانية التأثير حتى على القضاة والأنبياء ، بعكس (الصغرى) التي لم
تعركها الحياة ولم تنضجها التجارب ، ولما تبسق أغصانها ، وتتعمق في الأرض
جذورها .
وبالتالي فأين قادة الحركات الإسلامية من الملك الفلاني ، أو الرئيس
العلاني ، أو القائد الشعبي العريق والممثل الشرعي لقومه؟ ,وقبل ذلك أين
موسى عليه السلام من فرعون ؟ وأين محمد صلى الله عليه وسلم ، من زعماء
قريش والطائف بميزان القوى الأرضية؟ ولذلك قالوا (لولا أنزل هذا القرآن
على رجل من القريتين عظيم ) .
لكن الأم الحقيقية لم تتوقف عن المطالبة بحقها في ولدها بعد الحكم
الاجتهادي من داود عليه السلام في الولد للكبرى ، بل تتوجه إلى سليمان
لتحكي له قصتها ، وهو أمر طبيعي وواجب في حق الأمهات تجاه الأبناء ،
ولكن المستغرب أن الام المزيفة هي الأخرى ترافقها الى القضاء ، ولا تتهرب
من المحكمة أمام داود ولا عند سليمان عليهما السلام ، والملاحظ أنها
تتحرك وتواجه بثقة ، الأمر الذي يوحي بصدقها وأمومتها للطفل ، مما يجعل
مهمة الأم الحقيقية اكثر صعوبة .
وحين يستمع سليمان عليه السلام ، الى القصة ، يقوم باختبار شعور الحرص
والشفقة على الغلام، فيدعو من حوله أن يحضروا له سكيناًً ليشق الغلام
بين المرأتين ، فأما الكبرى فسكتت راضية بالأمر ، وأما الصغرى - وهي الام
الحقيقية - فما كانت لتحتمل ذلك ، فصاحت قائلة : لا تفعل يرحمك الله هو
ابنها. فهي هنا مستعدة لتتخلى عن حقها في ولدها وحضانته ، وترضى بأن
تتحمل آلام بُعده عنها ، وأن يعيش مع امرأة لن تتدخر جهداً في ظلمه ،
وهضم حقوقه وإيذائه نفسيا وجسديا ، المهم – عندها - أن يعيش ويظل على قيد
الحياة .
إن الحركات الإسلامية في سعيها لتولي القيادة واستلام زمام الأمور ،
وتنافسها مع القيادات الجاهلية ، تستعمل كل الوسائل القانونية أمام محاكم
العقل والفكر والعمل ، لتأكيد أحقيتها وهي تحمل شرع الله بقيادة المجتمع،
و لكن حرص الزعامات الجاهلية واستمساكها بالكراسي يجعل المهمة الصعبة،
وكل طرف يمسك بالشعب من جهته ويحتدم الصراع إلى درجة يصبح فيها الاستمرار
في (الشد) مؤديا إلى ذبح الشعب وتقطيع أوصاله وإنهاك قوته وإهدار طاقاته
ومقدراته.
وعندها يتراجع الإسلاميون خطوة الى الوراء ، لا شكاً في أحقيتهم أو يأساً
من الوصول الى هدفهم ؛ بل حرصاً منهم على الشعب الذي يريدون له الخير
والنجاة والسلامة ، لأن بقاء الشعب فتره إضافية من الوقت تحت الظلم أفضل
ألف مرة من سوقه الى معركة لن تحرره بل ستفنيه عن آخره.
وإذ يلمس نبي الله سليمان عليه السلام مشاعر المرأتين تجاه ذبح الولد ،
لا يبقى لديه شك في أنه ابن الصغرى فيحكم به لها. والإسلاميون ليسوا على
استعداد - كما الجاهليون - للتضحية بالشعب على مذبح حب الزعامة وهذا
الأمر لن يفقدهم أحقيتهم في قيادة الشارع بل سيرسخ في الأذهان أنهم
الأولى الأحق إذ ضنوا بالدماء أن تسفك بدون ثمن، ولعل في هذه القصة ما
يوحي بأن الله تعالى وكما ألهم سليمان فحكم بالولد لأمه فسيقضي بقيادة
الشعوب لمن حمّلهم رسالة الاسلام ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس
لا يعلمون
وقد يعترض معترض بقوله إن هذا الطرح يتناقض مع الدعوة إلى الجهاد وحب
الاستشهاد وطلب الموت في سبيل الله. وأقول بأن كلا الأمرين مناسب في وقته
ومحله , والدواء قد يكون عسلاً أو حنظلاً أو كيّاًً بالنار (ومن يؤت
الحكمة فقد أوتى خيرا كثيراً).
(1)
فكرة هذا المقال سمعتها من أستاذي الدكتور محمد أبو فارس ، قبل
عقدين ، أيام الدراسة في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية . لكن أنا
وحدي المسئول عما في المقال .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق