ـ لمناسبة الروح الخبيثة التي انطوت عليها رسالة (محمد خلف الله) ـ
بقلم : محب الدين الخطيب
أغراض التربية والتعليم
يقول السير جون أدمز : « إن أسمى أغراض التربية عند جمهرة أهلها أن يغتنم
المرء الفرص أحسن اغتنام ليحقق ما لديه من رغبة مشروعة في أن يجعل من
نفسه أحسن ما في وسعها أن تكون ».
ونحن ـ أبناء جامعة الدول العربية ـ مقبلون من الآن على طور جديد من
حياتنا القومية يحتاج إلى رجال يستطيعون أن يجعلوا من أنفسهم أحسن ما في
وسعها أن تكون، ليتمكنوا من الإضطلاع بالأعباء القومية لهذا الشرق العربي
وليتولوا استغلال ذخائر الطبيعة الزاخرة فيه، واستثمار ثروته الإقتصادية،
وإدارة نهضته الصناعية، وتنظيم تراثه التاريخي واللغوي والأدبي والفكري
والفقهي والعلمي.
ومما يؤسف له أن هذا الطور الجديد الذي انتقلنا إليه ـ ونحن بحالتنا هذه
على غير استعداد له ـ لا نرى وزارات المعارف في القاهرة وبغداد ودمشق
وبيروت تتأهب لمواجهته بمعاهد تتوفي فيها أسباب الفرص ووسائل الإستعداد
ليغتنمها من شبابنا من يشعر في نفسه برغبة مشروعة في أن يجعل من نفسه
أحسن ما في وسعها أن تكون. وأعجب من ذلك أن رجال التعليم، وعمداء
الجامعات، وقادة الحركة الفكرية في الوطن العربي الأكبر؛ قلما فكروا في
تذكير وزارات المعارف العربية بما يقتضيه هذا التطور الجديد من (انقلاب
أساسي) في سياسة اللتربية ، وأوله تعيين الأهداف القومية والإنسانية
لتكوين (رجال العروبة)، الذين سعتمد عليهم الوطن في ميادين السياسة
والإدارة والتشريع، وفي النهوض بالصناعات والتطلع إلى مستوى الأمم
المحترمة التي تستطيع أن تستغني بنفسها عن غيرها أن يستغني عنها.
التربية قبل التعليم
والعيب الأساسي في مدارسنا ـ من الإبتدائي إلى الثانوي فالعالي ـ أنها
معاهد تعليم لا تربية، وأن التعليم فيها نظري قلما يستفيد منه صاحبه في
معترك الحياة وميادين العمل، وأن هذا التعليم النظري يتناول الذاكرة
والحفظ أكثر مما يتناول الوعي والفقه، وأن ما يعتني بحفظه وتذكره منه
إنما يراد منه الحصول على تلك الورقة التي يسمونها (شهادة) ليتسنى السعي
بواسطتها للوظائف التي اشترطت تلك الشهادة للحصول عليها.
إن الفوز في معترك الحياة وميادين العمل مكتوب لصاحب التربية المتينة وإن
كان علمه يسيراً أكثر مما هو مكتوب لصاحب العلم الكثير إن كان مجرداً من
التربية. والعلم الذي يحتاج إليه من يخوض معترك الحياة كثيراً ما يكون
غير العلم الذي تعلمه في المدرسة وأذكر أني كنت في مجلس شيخي العظيم
الشيخ طاهر الجزائري في رمضان 1325 (اكتوبر 1907) وكان بين يديه شاب من
محرري جريدة (الأهرام) يومئذ وهو الأستاذ خليل الخوري شقيق السيد فارس
الخوري، وقد أخذ يشكو إلى الشيخ طاهر الجزائري أنه تعلم خمسة وعشرين
علماً في الجامعة الأمريكية في بيروت ويتناول راتباً من خزينة الأهرام
قدره سبعة جنيهات بينما الأستاذ داود بركات رئيس تحرير الأهرام يتناول
أضعاف ذلك وهو لم يتعلم شيئاً من تلك العلوم. فأجابه الشيخ طاهر: إن داود
بركات تعلم العلم اللازم لصناعة الصحافة ومهر فيه، وأنت تعلمت خمسة
وعشرين علماً ليس فيها ما يلزم للصناعة التي تشكو من قلة راتبك فيها،
ولولا أنك تلقيت مبادئ في التربية أهلتك للمران على الفوز في معترك
الحياة لفشلت حتى في الحصول على هذا الراتب في جريدة الأهرام. وبالفعل
فإن مزايا الأستاذ خليل خوري في تربيته وأخلاقه حملته على دراسة الحقوق
إلى جانب اشتغاله في الصحافة، وكان منه بعد ذلك قاض من قضاة السودان، ولو
كان ضعيف التربية لما أفادته علوم الجامعة الأمريكية شيئاً.
والتربية لا تكون إلا عملية، ولا تكون التربية عملية إلا إذا كانت
المدرسة الأولية والإبتدائية للتلميذ كالبيت الصالح للإبن الصالح. ولقد
سألت عشرات من كبار موظفي وزارة المعارف ورجال التعليم عن السبب في
إلحاقهم أبناءهم بالمدراس الأجنبية ـ وقد تكون مدارس إرساليات تبشرية ـ
فكان عذرهم أنها تعنى بالتربية ومدارسنا لا تعنى بها. والواقع أن الصبي
اليهودي في القاهرة يدخل مدرس الأليانس الإسرائيلي في العباسية والصبي
الكاثوليكي يدخل مدرسة الفرير في الخرنفش فيشعر كل منهما بصلة روحية بينه
وبين المدرسة وبسلطان تهذيبي وديني للمربي الذي يشرف عليه، بينما صبيان
مدارسنا الإبتدائية والثانوية يجربون ذكاءهم وينمون مداركهم بالعبث
بمدرسيهم والإستهزاء بما يكون شاذاً من أوضاعهم وأطوارهم. ولا يشعر
التلميذ في مدارسنا بأي سلطان روحي لأساتذته عليه. ولا بأي صلة أدبية بين
قلبه وعقولهم، ونفسه ونفوسهم ، فكيف يتلقى رجال الغد أمانات التاريج
وتقاليده ورسالاته عن أساتذتهم ومهذبيهم ما دام هذا مبلغ مدارسنا من
العناية بتربية الأخلاق؟
نعم ، إن في مدارسنا تربية، ولكنها تربية بدنية تعنى بحيوانية النشء، أما
التربية الخلقية التي تعنى بإنسانيتهم ، وأما التربية الإسلامية التي
تعنى بالإنسانية السامية (السبرمان) فهذه وتلك لا حساب لهما حتى الآن في
مدارسنا....وهذا الطور الجديد الذي أقبلنا عليه لا تصلح له (المدرسة) ما
لم تكن (التربية) هي الغرض الأول منها، و(التعليم) هو الغرض الثاني.
وضعت جمعية الهداية الإسلامية في إحدى السنين مذكرة بوجوب التعليم الديني
والإمتحان به في المدارس، وذهب الأستاذ الكبير السيد محمد الخضر حسين
بنسخة منها إلى شيخ الأزهر ( وكان الشيخ المراغي) ليستعين به على تأييد
ما جاء في المذكرة، فأبى الشيخ أن يعد بالمساعدة والتأييد، واحتج بأن
طلبة المدارس المدنية مهما تعلموا من علوم الدين لن يبلغوا ما تعلمه طلبة
الأزهر. ثم وجه السؤال إلى الأستاذ الخضر قائلاً: وهل تعجبك حالة طلبة
الأزهر؟ ولما طلب منه الأستاذ الخضر أن يضيف هذه الملاحظة إلى ما يكتبه،
وأن يطلب من وزارة المعارف العناية بالتربية الإسلامية أيضاً؛ وأجاب بأن
هذه مسألة كبيرة ! ولا أدري ولا أحد يدري لماذا تكون كبيرة، وكيف يسهل
على القائمين بمدارس الفرير والجزويت والأليانس الإسرائيلي أن يعنوا
بالتربية المسيحية والتربية اليهودية ثم يصعب على وزارة معارف كبيرة
وغنية أن تعنى في مدارسها بالتربية الإسلامية؟ إنها تستطيع لو أرادت،
ولكن المهم أن تريد، ولن تريد ما لم تؤمن بأن هذا من رسالتها، ولن تؤدي
المدرسة رسالتها للقومية العربية في طورها الجديد ما لم تبادر وزارات
المعارف في القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت إلى هذا الواجب من بداية هذا
العام الدراسي ولو بالإبتداء من الأطفال الذين يدخلون للمرة الأولى في
هذه السنة مدارس الروضة والمدارس الأولية والإيتدائية. وحتى لو كان
النجاح في السنة الأولى ضعيفاً لحداثة هذا النوع من العمل في مدارسنا فإن
إصرار وزارة المعرف عليه. وتحتيمها العناية يه، ورسنها الخطط التهذبية
لتحقيقه ومراقبة ذلك بجد واهتمام عاماً فعاماً، كفيل إن شاء الله بأن
يكون لنا مدارس تخرّج المثقفين الصالحين.
مواد العلوم ومواد الثقافة
ومن أعظم العيوب في مدارسنا على اختلاف مراتبها عدم التمييز بين كيفية
تعليم مواد الثقافة وكيفية تعليم مواد العلوم.
إن العلوم ـ وأعني بها الرياضية والطبيعية ـ علوم عالمية، فالهندسة
والكيمياء تعلم كل منهما في طوكيو وجنيف ومانشستر وواشنطون بأسلوب واحد،
ولا مانع في أن تعلم عندنا بالأسلوب العام لأنها علوم عالمية وقد ساهمت
عقول شعوب الأرض في تكوينها، فكان للهند القديمة ومصر القديمة وبلاد
العرب وفنيقيا والإغريق والرومان وعرب الإسلام نصيب عظيم في وضع أسسها،
ثم أخذت الترقيات العلمية يساعد بعضها بعضاً على التقدم بهذه العلوم حتى
صارت إلى ما صارت إليه الآن. نعم إن كل أمة من هذه الأمم تبرز ما كان لها
من أثر في هذه العلوم عندما تلقنها لأبنائها، إلا أن هذا التلقين يكاد
يكون واحداً في الجملة. وأذكر أنني لما كنت في مدارس الدولة العثمانية
كانوا يعلموننا الكيمياء من كتاب كبير باللغة التركية من تأليف عالم حلبي
اسمه وسيل نعوم بك، فكان هذا المؤلف إذا وصل في كتابه إلى بحث سبق للعرب
اكتشاف حقيقة من حقائقه أن ينبه إلى ذلك في هوامش الكتاب فكنا نحن العرب
نعتز بذلك ونعتقد أن نجاح أجدادنا في تقدم العلوم على أيديهم كفيل بأن
يكون لنا نحن أيضاً مثل نجاحهم. ومع ذلك فإن الكيمياء التي تعلمناها هي
نفس الكيمياء التي تعلم في بلجيكا وهولندا وإرلندا لأنها علم عالمي،
وكذلك الجبر والهندسة والفلك والطبيعة إلخ.
فأبناؤنا لا بأس أن يتعلموا ذلك كما يتعلمه أبناء الأمم الأخرى، ولكن يجب
على مدارسنا أن تنبه أبناءنا إلى كل ما كان لأسلافهم من خدمة في تقدم هذه
العلوم، ليكون لهم أسوة بهم، وليفعلوا في الغد ما فعل أجدادهم في الأمس.
أما مواد الثقافة فلها شأن آخر. إنها في كل أمة من وسائل إنعاش الحيوية
القومية في تلك الأمة. خصوصاً التاريخ ولا سيما تاريخ العرب والإسلام
الذي يصل بين حاضر هذه الأمة وما ضيها.
نحن أمة عربية من بضعة عشر قرناً حتى الآن بلا انقطاع، ودولتنا إحدى دول
الجامعة العربية تتعاون معها في السراء والضراء، وبيننا وبين بقية
الأقطار العربية الشقيقة مبادلات ثقافية واقتصادية، ويوشك أن يزول ما
أقامته بيننا عهود الإستعمار من حواجز وفواصل. فمن الواجب أن يقوم تعليم
المواد الثقافية في جميع بلادنا العربية ـ مصر والعراق والشام والحجاز
واليمن ـ على أساس القومية العربية التي نحن أهلها، ومالكوا تراثها،
والكادحون بعقولنا لزيادة هذا التراث الثقافي وتوسيع نطاقه. ولا يكون ذلك
جداً إلا إذا آمنا بعروبتنا، وأعدنا النظر إلى مفاخرها، وعنينا بتنظيم
تركتها، ونفضنا عنها غبار الماضي، وجردناها مما ألصقته العصبيات المذهبية
والدسائس الشعوبية، وهذه الدسائس والتشويهات ظاهرة لمن شاء أن يراها من
نبهاء رجالنا. وقد جربت ذلك بنفسي فوجدت أمره عظيماً، ووجدت أننا أغنى
أمة بأثمن تراث وأمجد ماض، وكانت تغرورق عيناي أحياناً بدموع الإجلال
والإكبار لهذا الماضي العربي والإسلامي، فأتمنى لو أن لرجال وزارات
المعارف العربية مثل هذا الشعور فيفيضوا منه على مناهج تعليمنا الثقافي ـ
من تاريخي وأدبي ـ ليؤمن الجيل الجديد بماضيه فتكون له من هذا الإيمان
قوة تزعزع الجبال وتهوّن الصعوبات
ومن شر ما يفسد علينا التعليم الإبتدائي والثانوي أن يناط تعليم هذه
المواد بمن لا يؤمنون بها لأنهم لا يعرفونها، ولعلهم يعرفون غيرها، فيكون
من الظلم العظيم لهم ولهذه المواد ولأبناء الجيل أن يكلفوهم تعليم ما لا
يعلمون. وأذكر أن ابني لما كان في السنة التوجيهية بمدرسة الخديو اسماعيل
كان مدرس تاريخ النظم الإسلامية مدرساً قبطياً اسمه بانوب أفندي فكان
يعترف بأن غيره أولى منه بتدريس هذه المادة، فهل لوزارة المعارف أن تحسن
اختيار المدرسين للمواد التي يحسنونها ويؤمنون بها؟
إن هذا جد ، وأصلح الأوقات لإعلانه الوقت الذي يتولى فيه وزارة المعارف
رجل كالسنهوري باشا يعد من رجال جامعة الدول العربية، ومن واجبه منذ
اليوم أن يلتفت إلى هذه النواحي، نواحي التربية ولا سيما التربية
الإسلامية، ونواحي المواد الثقافية ولا سيما تاريخ العروبة والإسلام، فإن
هذه الأسس هي التي سيبنى عليها بنيان القومية العربية للجيل الذي سيستلم
هذه الأمانات منا ليضطلع بها، ويبلغ بالأمة العربية المستوى المشرف.
الحفظ والفهم
وقبل أن أنتقل من التعليم الإبتدائي والثانوي إلى التعليم الجامعي أريد
أن أذكر وزير المعارف ورجال التعليم بأن العيب الثالث في مدارسنا عنايتها
بالحفظ والتذكر دون الوعي والفقه وقد جرّب التلاميذ في الإمتحانات أن
الذي يكتب من حفظه الكلمات الواردة في الكتاب المقرر وإن لم تكن هناك أية
دلالة على فهمه لما حفظ، يضمن النجاح أكثر ممن فهم ما في الكتاب وهضمه
وتكلم عنه بعبارات أخرى من عنده قد لا تبلغ في فصاحتها وتركيزها الألفاظ
المذكورة في الكتاب المقرر إلا أنها على كل حال من بضاعة التلميذ فكان
ينبغي أن تكون محل تقدير الممتحنين . ومما يؤسف له أن هؤلاء الذين هضموا
ما تعلموه وأدوه بعبارات من عندهم لا يشجعون على طريقتهم النافعة في
التعليم، فيعطون درجات أقل من الآخرين، ويحملهم ذلك على الإكتفاء بحفظ
عبارات مختصرة يؤدونها كالببغاء، ثم ينسونها فيما بعد وتذهب مع أنفاسهم
في مهب الرياح.
أما التعليم الجامعي..
وأما التعليم الجامعي فأشد فساداً من التعليم الإبتدائي والثانوي، لأنه
لا رسالة له، ولأنه لم يترك في المجتمع المصري والعربي أثراً نافعاً؛ بل
إني لا آتي بشيء جديد إذا قلت أنه تعليم شعوبي يخرج طبقة من الطابور
الخامس. وبما أن جامعاتنا لا تزال حديثة عهد فيجب أن يهدم نظامها من
أساسه هدماً، وأن يعاد بناء هذا التعليم من جديد. وأول ما يجب توجيه
العناية له تعيين الغرض من التعليم الجامعي، وإعلان رسالة هذه الجامعات
التي أسسناها في الممالك العربية.
إن الجامعة تتألف من كليات بعضها كان موجوداً في بلادنا من عهد بعيد
ككلية الطب التي احتفلنا في مصر قبل تسع سنوات بمرور مائة سنة على
تأسيسها، وهي اليوم في نهاية العقد الأول من قرنها الثاني، وكان يجب
عليها أن تقوم للمجتمع العربي في تلك المدة الطويلة بنتيجة أعظم مائة مرة
من النتيجة التي جاءتنا بها، وسأعود إلى الكلام على ذلك فيما بعد. وكلية
الحقوق أيضاً مضى على أدائها لمهمتها تحت سماء البلاد أمد طويل وقد قصرت
كثيراً في واجبها لتشريع البلاد الأصيل وهو الفقه الإسلامي، وسأتكلم على
ذلك بالمقدار الذي يتسع له المقام. وهنالك كلية العلوم، وهي إن تكن حديثة
العهد عندنا إلا أنها رديف كلية الطب ومخزن تموينها، وطالما شكا عميدها
والممتازون من رجالها من أنها لا تزال كلية نظريات وشهادات، بينما
أمثالها عند غيرنا قد تحولت إلى ميادين اختبارات علمية أثمرت في تقدم
الصناعة وحيوية الحضارة ثمرات يتلمظ لها أمثالنا وتهلع نفوسهم. وكليتا
الزراعة والهندسة سيكون لهما نصيب عظيم من التطور والإصلاح متى وضحت
رسالة الجامعة إلا أنهما على كل حال كالعلوم الطبيعية والرياضية في
الإبتدائي والثانوي يعد مجالهما مجالاً علمياً، ولكن البلاء الأعظم
والفساد الأكبر في هذه الكلية التي تسمى كلية الآداب، وهي التي عقدت
لأجلها هذا الفصل كله، والجريمة التي أقدم على ارتكابها أحد معيدي هذه
الكلية (محمد خلف الله) هي التي لها الفضل في التحدث إلى القراء وإلى
وزارة المعارف وإلى رجال التعليم وقادة الفكر بهذا الحديث النافع إن شاء
الله.
يجب علينا قبل كل شيء أن نتفق على رسالة التعليم الجامعي وأن نعلم
النتيجة التي لأجلها تنفق الدولة الأموال الضخمة على هذا التعليم.
إذا كنا فتحنا هذه الكليات ليتخرج منها شبان يفرضون أنفسهم على وظائف
الدولة، ويتذرعون لذلك بكل الوسائل ويبحث لهم المجتمع عن وظائف بدل أن
تبحث الوظائف عنهم فلا نكون قد صنعنا شيئاً، إن لم نكن قد تأبطنا شراً.
أما إذا كان للأمة رسالة تتوقف حياتها على أدائها ويتوقف أداؤها على
إعداد رجال صالحين للقيام بها، وكانت الجامعة هي المصنع الذي يصنع فيه
هؤلاء الرجال، فإن كل ما يصرف على الجامعة لتخريج هؤلاء الرجال يعد
مصروفاً على حياة الأمة نفسها.
وقد يتخرج في كليات الجامعة رجال أكثر عدداً من الأعمال التي تحتاج إليهم
وحينئذ يتفرغ الزائدون عن ميادين العمل لميادين العلم، فينتجون للأمو
بحوثاً تساعدها على النهوض بما فتحت له ميادين العمل، فإن كان هذا
الإنتاج العلمي يأتي بثمرة تقوم بأود منتجيه كان ذلك سيبلاً لمعاشهم وإلا
كان لهم على الدولة حق المساهمة في تحقيق ذلك والمساعدة عليه بقدر حاجة
الأمة إليه.
مقارنة
وقد خطر على بالي وأنا أجيل النظر في جامعتنا ورسالتها وما هي عليه الآن
أن أقارن ذلك بما عليه جامعة حديثة العهد قامت على مقربة منا وهي الجامعة
العبرية في القدس، فالمتخرجون في كلية العلوم وكلية الهندسة وكلية
الزراعة من هذه الجامعة هم الذين تعتمد عليهم الصناعات الصيدلية
والميكانيكية والصناعات الزراعية التي يقوم بها اليهود بمقياس واسع في
فلسطين فيكفون حاجة تلك البلاد ويفيضون منها على أقطار وممالك قريبة
وبعيدة ، وعندما نشبت الحرب العالمية الأخيرة توسعوا في هذه الصناعات
وجنوا من ورائها الملايين وصار خريج كلية العلوم أو كلية الهندسة أو كلية
الزراعة في الجامعة العبرية لا يرضى براتب وزير فضلاً عمن دونه لكثرة ما
يجنيه من استثمار علمه في الميدان الصناعي. ونحن عندنا في جامعتنا مثل
هذه الكليات التي في الجامعة العبرية وفي كلياتنا شبان لا يقلون عن شبان
اليهود في صحتهم ومداركهم ، ولاشك أن مصر ميدان أوسع من ميدان فلسطين لمن
يشاء أن يستثمر علمه بعمل منظم معقول يسهر أصحابه عليه ويبذلون له من
صبرهم وجهدهم ما يلزم لنموه وإثماره فلماذا نجحت كليات الجامعة العبرية
في رسالتها على هذا النحو وبات خريجو كلياتنا يبحثون لهم في وزارات
الحكومة عن وظائف يتقاضون من رواتبها ما تجنيه الدولة من جهود الجماهير
غير المثقفة وغير الموظفة في الدولة؟
السبب في ذلك هو أن التعليم عندنا لا يراد منه العلم المنتج في ميادين
العمل، ولكن يراد منه الشهادة التي يحق لصاحبها العيش السهل من ميزانية
الدولة. وهذا عيب فاضح إذا قورن بما تؤديه كليات الجامعة العبرية للأمة
اليهودية، فإما أن يكون هذا العيب آتياً من ناحية الجامعة نفسها وأنها لا
رسالة لها، أو من ناحية خريجيها وتقصير وزارة المعارف في إعدادهم
بالتعليم الإبتدائي والثانوي للتعليم الجامعي، أو من ناحية أن سياسة
التعليم عندنا سنّها لنا دانلوب وسادته وأذنابهونحن لا نزال مندفعين
بالعربة التي أركبونا فيها، وقد آن لنا أن نتساءل إلى أين نحن سائرون؟
إن كلية الطب التي مضى عليها مائة سنة وتسع سنوات كان يجب أن يتأسس بها
للأمة العربية طب عربي عصري يملأ الدنيا بثمراته العلمية . والعرب في
نهضتهم الأولى في الإسلام استولوا على قيادة علم الطب في العالم بأقل من
هذه المدة، فكان علينا بأقل تقدير أن نسير الآن مع الأمم بمستواها ، وأن
نكون متبوعين في الإستقلال العلمي لا تابعين. فأين دوائر معارفنا الطبية،
وأين معاجم اصطلاحاتنا العلمية؟ إن الأتراك صنعوا لأنفسهم بعض هذا
فاستعاروا من لغتنا العربية الألفاظ لاصطلاحاتهم. فاللعجب من تقصيرنا نحو
أنفسنا ولغتنا ونحو كرامتنا العلمية في الدنيا. دعني أعتذر بأن زمامنا
كان بأيدي غيرنا، إذن فلنستيقظ بعد اليوم ولنعرف واجبنا نحو العلم ونحو
القومية ونحو الوطن.
إن اليونان الذين كانوا ولاية عثمانية عند تأسيس محمد علي لكلية الطب
المصرية صار لهم من دوائر المعارف ومعاجم العلوم وعظيم المصنفات ما أستحي
أن أتحدث عنه، فحسبنا ما مضى فقد شبعنا نوماً أو موتاً.
وكلية الحقوق التي لا تحب أن تعرف من فقه المسلمين والعرب إلا الأحوال
الشخصية والوقف كان يجب أن تكون لها حتى الآن دائرة معارف للفقه الإسلامي
المقارن في جميع المذاهب الموجودة والتي ماتت، بل كان يجب عليها أن
تستخرج فقه إمام المصريين الليث بن سعد من النقول عنه المتفرقة في الكتب
فتجمع أحكامه بعناية ودراسة، بل كان يجب عليها أن تستنبط من قسم
المعاملات في كتاب (الأم) للشافعي بحوثاً لا آخر لها في الفقه تملأ عشرات
المجلدات. وكل هذا وأمثاله يجب أن يضطلع به رجال أوفياء للماضي عارفون
بأقدار رجال التشريع الإسلامي خبيرون باتجاهاتهم الفقهية ومذاهبهم بين
الأدلة المنقولة وأهدافها من العدالة الإسلامية المطلقة التي لا سيطرة
عليها للمتموّلين ولا للمتسلطين ولا للجماهير... أقول هذا لأن للجامعة
العبرية ورجالها بحوثاً أوسع من ذلك وأدق فيما يتعلق بتشريعاتهم الضيقة
النطاق التي لا تبلغ قطرة من بحر فقهنا وبحوثنا التشريعية.
أما كلية الآداب عندهم فإنها تدرس اللغة العبرية دراسة مقارنة بالعربية
والآرامية لا تقوى على مثلها الشياطين، فكل لفظة عبرية لها عندهم أضبارة
يستقصون فيها جميع استعمالات تلك اللفظة في كل ما تصل إليه أيديهم من
نصوص ثم يأتون إلى أختها العربية القريب اشتقاقها من الإشتقاق العبري
فيدرسون تفرعها وتطورها ووجوه استعمالها عصراً فعصرا باستقصاء وتدقيق لا
أعرف أزهرياً ولا جامعياً عربياً له مثل هذا الصبر والجلد على المثابرة
فيه.
وتحت أيديهم كتب أئمتنا من سيبويه وشراحه إلى ابن دريد فأبي علي الفارسي
فابن جنّي يقطعونها بحثاً وتحليلاً بينما الجامعيون منا والأزهريون في
نوم عميق عن ذلك، وبعض الجامعيين منا على الخصوص في شاغل عن هذا الجد
بسفاسف عدوانية آن لنا أن نرفع أصواتنا بالشكوى منها.
رسالة محمد خلف الله
ومحمد خلف الله هذا واحد من خريجي دار العلوم وهو معيد في كلية الآداب
بجامعة فؤاد الأول، ويحاول الآن أن يحصل منها على لقب (دكتور) فتقدم
لكليته برسالة عنوانها (الفن القصصي في القرآن) ، متوسماً في أساتذته أن
ما أورده فيها سيكون أهلاً لرضاهم فيشهدون له بالكفاءة للدكتوراه.
ومما ذهب إليه في هذه الرسالة دساً وتلميحاً تكذيب النبي صلى الله عليه
وسلم في أن القرآن موحى به إليه من الله عز وجل ، موهماً أنه من تأليف
محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ما فيه من القصص عمل فني خاضع لما يخضع له
الفن من خلق وابتكار من غير التزام بصدق التاريخ والواقع، وأن محمداً
فنان بهذا المعنى، وأن الأنبياء أبطال ولدوا في البيئة وتأدبوا بآدابها
وخالطوا الأهل والعشيرة وقلدوهم في كل ما يقال ويفعل وآمنوا بما تؤمن به
البيئة من عقيدة ودانوا بما تدين به من رأي وعبدوا ما تعبد من إله، وزعم
أن القرآن متناقض فكان يقرر أولاً أن الجن تعلم بعض الشيء ثم لما تقدم
الزمن قرر أنهم لا يلمون شيءاً، وأن قصة موسى في سورة الكهف لم تعتمد على
أصل من واقع الحياة بل ابتدعت على غير أساس من التاريخ.
ويمنّ محمد خلف الله على الإسلام بأنه دافع عنه بقوله : « إن ما تمسك به
الباحثون من المستشرقين ليس سببه جهل محمد بالتاريخ بل قد يكون ذلك من
عمل الفنان الذي لا يعنيه الواقع التاريخي، ولا الحرص على الصدق العقلي »
.
هذه نماذج من الجهود التي يتقدم بها إلى كلية الآداب معيد يساعد بمهمة
التدريس فيها ويريد أن يكون بلقب (دكتور) ركناً من أركانها، ليمضي في بث
هذه الروح الخبيثة في صفوة النشء ورجال الغد، حتى تكون أمة الغد عدوة لله
ورسوله، وحاملة لواء البغي على أقدس تراث للإنسانية.
ومن العجيب أن الذين اطلعوا منه على هذه الجريمة لم يبلغوا النيابة حتى
الآن لتوضع اليد التي كتبت هذا الخزي في الحديد ويحال صاحبها إلى محكمة
الجنايات. وأعجب من ذلك أن يتحدث الناس بأن في أساتذة هذا المخلوق من
يقول أنه متضامن معه وموافق له فيما ذهب إليه.
إن هذه الروح الإلحادية في كلية الآداب ليست بالشيء الجديد، وقد سبق أن
ترددت تحت قبة البرلمان أصوات مدوية بالشكوى من هذه الكلية ومن تأصل
جرائيم هذا الوباء الخبيث فيها، وأن تلاميذ علم من أعلام هذا الباطل
كانوا يكتبون في كراريسهم تعليقاً على بعض الآيات والسور: إن القرآن هنا
بليغ، وعلى بعض آخر منها: إن القرآن هنا ركيك أو سخيف. وعلة ذلك أن
التعليم عندنا فاسد من أساسه، فأبناؤنا في المدارس الإبتدائية لا يجدون
المناعة التي تحول بينهم وبين جراثيم هذا الشر، وطلبة المدارس الثانوية
على ما وصفناهم به في صدر هذا المقال، فإذا دخلوا الجامعة ولا سيما كلية
الآداب تلقفهم جو موبوء ببقايا من الذين تعهدوا الكلية في أول نشأتها أو
أشياعهم ، فلا يلبثون أن يتحولوا إلى طابور خامس في كل ما ينتسبون إليه
من دين وقومية وماض عظيم.
فكيف يثمر التعليم الجامعي في كلية الآداب غير هذا الحنظل إذا كان الذين
يحشرون إليها من الطلبة قد تدرجوا في هذه المدارج حتى بلغوا هذه المرحلة
؟!
إن الأمة العربية تستقبل في حياتها العقلية الحاضرة مهمة التنقيب عن تراث
العروبة والإسلام لتبني عليه بنيانها العلمي فتصل آتيها بماضيها كما يفعل
اليهود في بعث تراثهم اللغوي والقومي والديني منظمين ذلك برفق ووفاء
وعناية في دوائر معارف ومعاجم ومراجع سيكون لها شأن عظيم في مكتبتهم وفي
نهضتهم، فإذا كنا سنباشر نحن أيضاً مثل ذلك في كياننا فهل سيتولاه أمثال
السي محمد خلف الله من أعداء الله ورسوله، مع ما هم عليه من جهل مركب،
وغرور قاتل، وروح عدائية خبيثة واستسلام بالهوى للنزعات الضالة ؟
من نعم الله على المعارف في مصر أن وزيرها الحاضر من رجال الجامعة
العربية ويقدر المهمة العلمية التي يجب أن بناط بدول الجامعة للإضطلاع
بها ليقوم بنيان الأمة على أساس متين، ومن نعم الله في كلية الآداب في
جامعة فؤاد أن عميدها عماد لهذه المهمة وبعيد النظر فيها. وإني أقول لهما
إن السي محمد خلف الله وإن كان كما رأينا إلا أنه مسكين وضحية من ضحايا
الشعوبية، وإن أمثاله كثير في كلية الآداب طلبة ومدرسين، وما دام أساس
المعارف في مصر هذا النظام الدانلوبي الراسخ في مدارسها الإبتدائية
والثانوية فلن يكون في كلية الآداب إلا أمثال هؤلاء الضحايا المساكين،
فالتعليم عندنا محروم من التربية، والتربية عندنا مجردة من الإسلام،
والإسلام عندنا قد فرق بينه وبين العروبة، وكل ذلك قائم على التعبد بهذه
الأوراق التي تسمى شهادات، وسبيلها في مناهج دانلوب الشعوبية والإلحاد
والجهل والفساد، فارجعوا بالإصلاح إلى الأساس وتداركوا الأمر من اليوم
فالوقت ماض بسرعة، والمستقبل القريب في حاجة إلى الرجال الصالحين للعمل.
صحيفة الفتح ، العدد 849 (ذو القعدة، 1366 [سبتمبر 1947])، ص 857 ـ 862
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق