بقلم: عبد الرحمن كيلاني
إنّ الحمد لله
نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سئيات
أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله
إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الحكيم : (وَالْعَصْرِ . إِنَّ
الإنْسَانَ لَفي خُسْرٍ. إلا الَّذينَ آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ
وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ).
لا شك أن مفهوم الأخوة في الإسلام يتعلق بالإيمان نفسه وهو قائم على
العلاقة في الله، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول في الحديث
الصحيح : "أوثقُ عُرى الإيمانِ الحُبُّ في اللهِ والبغضُ في اللهِ".
وفي الحديث الآخر: "من أحبَّ في الله وأبغضَ في الله فقدِ استكملَ
الإيمانَ" لأن الحب من عمل القلب متعلق به، وكذلك البغض، وهما - أي
الحب والبغض - يجب أن يكونا عند المؤمن في الله ولله. فالمؤمن يحب ما
أحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبغض ما أبغض الله ورسوله
-عليه الصلاة والسلام-. لذلك، فإن عمل قلب المؤمن -من حب أو بغض- إنما
متعلق بأمر الله تعالى وأمر دينه، لا بهوى النفس وحظوظها، لأن النفس في
ذاتها قد تحب ما يبغض الله - والعياذ بالله - وبالعكس، فإنها قد تبغض
ما أحب الله تعالى. وهذا - بلا شك - نقص وشرخ في إيمان المرء.
لذلك، فإن مفهوم الحب في الله والبغض فيه - سبحانه - له موازين تحكمه،
لعلنا نفصلها في السطور الآتية.
يقول المولى عز وجل:)والعَصْرِ
. إنَّ الإنْسانَ لفي خُسْرٍ . إلاّ الذينَ آمنوا وعَمِلوا الصّالحاتِ
وتَواصَوْا بِالحَقِّ وتواصَوْا بالصَّبْرِ(
.
روى الطبري في تفسيره جامع البيان [30/290] بسنده عن مجاهد: "(إن
الإنسان لفي خسر) إلا من آمن (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
يقول: إلاّ الذين صدقوا الله ووحدوه، وأمروا له بالوحدانية
والطاعة، وعملوا الصالحات، وأدوا ما لزمهم من فرائضه، واجتنبوا ما
نهاهم عنه من معاصيه، واستثنى الذين آمنوا من الإنسان، لأن الإنسان
بمعنى الجمع، لا بمعنى واحد".
وقال الطبري [30/290-291]: "وقوله: (وتواصوا
بالحق) يقول: وأوصى بعضهم بعضا بلزوم العمل بما أنزل الله في كتابه
من أمره واجتناب ما نهى عنه فيه.
وقد جاء عن الحسن (وتواصوا بالحق) يعني: كتاب الله. قوله: (وتواصوا
بالصبر) "يقول: وأوصى بعضهم بعضا بالصبر على العمل بطاعة الله.
وهذا مروي عن قتادة بن دعامة السدوسي. قال: (وتواصوا بالصبر)
الصبر: طاعة الله. وكذلك قال الحسن البصري، رحمهم الله تعالى"اهـ.
وجاء عن الشافعي قوله: "إن الناس أو أكثرهم في غفلة عن تدبر هذه السورة
" [رياض الصالحين ص 97]. ونقل إبن
كثير في تفسيره قول الشافعي -رحمه الله-: " لو تدبر الناس هذه السورة
لوسعتهم" [4/547].
وقال إبن كثير عند قوله تعالى: (وتواصوا بالحق) : "وهو أداء
الطاعات ، وترك المحرمات. (وتواصوا بالصبر) أي على المصائب
والأقدار وأذى من يؤذي ممن يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر"
[4/547-548].
وتواصي المؤمنين هو من باب تعاضدهم على الحق كالبنيان المرصوص.
روى الإمام مسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه عن بردة عن أبي بردة عن
أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"المؤمنُ للمؤمنِ
كالبنيانِ يشدُّ بعضُه بعضاً". وعنده عن النعمان بن البشير
مرفوعاً: " مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلُ
الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحمى".
وفي رواية عنه قال صلى الله عليه وسلم: "المسلمون كرجل واحد إن
اشتكى عينُه اشتكى كله وإن اشتكى رأسُه اشتكى كلُّه".
يقول النووي - رحمه الله - معلقا على هذه الأحاديث: "هذه الأحاديث
صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض وحثهم على التراحم
والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (تداعى
له سائر الجسد ..) أي دعا بعضهم بعضا إلى المشاركة في ذلك. والله
أعلم" [شرح مسلم 16/139-140].
فالمسلمون مطالبون أن يكونوا يداً واحدة على الحق، يتواصوا به ويعينوا
الآخرين فيه ويرحم بعضهم بعضاً كما قال تعالى مبينا صفة المؤمنين: (ثُمَّ
كانَ مِنَ الَّذينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا
بِالْمَرْحَمَةِ . أُولئِكَ أَصْحَابُ المَيْمَنَة)
[البلد: 17-18] . ويقول محمد بن
جرير الطبري في تفسير هذه الآية: (وتواصوا بالصبر) : "أوصى
بعضهم بعضا بالصبر على ما نابهم في ذات الله. (وتواصوا بالمرحمة)
يقول: وأوصى بعضهم بعضا بالمرحمة - وكما جاء عن ابن عباس رضي الله
عنهما قال: مرحمة الناس" [30/206].
والنصيحة واجبة على كل مسلم لأخيه المسلم، فقد روى الإمام مسلم في
الصحيح عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "الدِّينُ النصيحةُ. قلنا: لمن؟ قال: لِلَّهِ
ولكتابِهِ ولرسوله ولأئمةِ المسلمين وعامَّتِهم"
[ورواه البخاري معلقاً، وابن خزيمة وغيره من طرق].
فقوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" يحتمل أن يحمل على
المبالغة، أي معظم الدين النصيحة، كما قيل: الحج عرفة. ويحتمل أن يحمل
على ظاهره لأن كل عمل لم يرد به صاحبه الإخلاص فليس من الدين. وقال
المازري: النصيحة مشتقة من نصحت العسل إذا صفيته، يقال: نصح الشيء إذا
خلص، ونصح له القول إذا أخلصه له. أو مشتقة من النصح وهي الخياطة
بالمنصحة وهي الإبرة، والمعنى أنه يلمّ شعث أخيه بالنصح كما تلمّ
النصيحة، ومنه التوبة النصوح، كأن الذنب يمزق الدين والتوبة تخيطه.
[فتح الباري 1/138]
ونقل إبن حجر رحمه الله قول النووي في هذا الحديث، قال: "بل هو وحده
محصل لغرض الدين كله، لأنه منحصر في الأمور التي ذكرها: فالنصيحة لله
وصفه بما هو أهله، والخضوع له ظاهراً وباطناً، والرغبة في محابه بفعل
طاعته، والرهبة من مساخطه بترك معاصيه، والجهاد في رد العاصين إليه.
والنصيحة لكتاب الله تعلّمه وتعليمه، وإقامة حروفه في التلاوة،
وتحريرها في الكتابة، وتفهم معانيه، وحفظ حدوده، والعمل بما فيه، وذبّ
تحريف المبطلين عنه. والنصيحة لرسوله تعظيمه، ونصره حيّاً وميّتاً
وإحياء سنته بتعلمها وتعليمها، والإقتداء به في أقواله وأفعاله، ومحبته
ومحبة أتباعه. والنصيحة لأئمة المسلمين إعانتهم على ما حملوا القيام به
وتنبيههم عند الغفلة، وسد خلتهم عند الهفوة، وجمع الكلمة عليهم، و رد
القلوب النافرة إليهم، ومن أعظم نصيحتهم دفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن.
ومن جملة أئمة المسلمين أئمة الإجتهاد، وتقع النصيحة لهم ببثّ علومهم،
ونشر مناقبهم، وتحسين الظن بهم. والنصيحة لعامة المسلمين الشفقة عليهم،
والسعي فيما يعود نفعه عليهم، وتعليمهم ما ينفعهم، وكف وجوه الأذى
عنهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه" اهـ
[فتح الباري 1/183].
وروى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في صحيحه عن زياد بن
علاقة قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول يوم مات المغيرة بن شعبة، قام
فحمد الله وأثنى عليه وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له والوقار
والسكينة حتى يأتيكم أمير فإنما يأتيكم الآن، ثم قال: إستعفوا لأميركم
فإنه كان يحبُّ العفو، ثم قال: أما بعد فإني أتيت النبي صلى الله عليه
وسلم قلت: أبايعك على الإسلام، فشرط علي والنصحِ لكل مسلمٍ،
فبايعته على هذا، وربِّ هذا المسجد إني لناصح لكم، ثم استغفر ونزل
[عمدة القاري 1/324]. ويقول العيني:
"النصح لأخيه المسلم لكونه مسلماً إنما هو فرع الإيمان بالله
ورسوله"أهـ [نفسه].
ومن حقوق المسلم على المسلم ما رواه الإمامان البخاري ومسلم في
صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "حقُّ المسلمِ على المسلمِ خمسٌ: ردُّ السلامٍ، وعيادةُ
المريضِ، واتباعُ الجنائزِ، وإجابةُ الدعوةِ، وتشميتُ العاطسِ".
وفي رواية لمسلم: "حق المسلم علىالمسلم ست: إذا لقيتَه فسلِّمْ
عليه، وإذا دعاكَ فأجبْهُ، وإذا استنصَحَكَ فانْصَحْ له، وإذا عطس
فحَمِدَ اللهَ فشمِّتْهُ، وإذا مرِضَ فعُدْهُ، وإذا مات فاتَّبعه".
ومن حقّه عليك أن تنصره ظالماً أو مظلوماً. روى الإمام مسلم في الصحيح
عن جابر بن عبد الله قال: اقتتل غلامان، غلام من المهاجرين وغلام من
الأنصار، فنادى المهاجر أو المهاجرون ياللمهاجرين، ونادى الأنصار
ياللأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماهذا، دعوى أهل
الجاهلية. قالوا: لا يارسول الله، إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما
الآخر. قال: فلا بأس، ولْينصُرْ الرجلُ أخاه ظالماً أو مظلوماً، إن
كان ظالماً فلينهه، فإنه له نصر، وإذا كان مظلوماً فلينصره"
[شرح مسلم 16/137-138].
وفي رواية للبخاري: "أُنصرْ أخاكَ ظالماً أو مظلوماً، فقالَ رجلٌ:
يارسول الله، أنصرهُ إذا كانَ مظلوماً، أرأيتَ إن كان ظالماً كيف
أنصره؟ قال: تحجزهُ - أو تمنعه - من الظلمِ، فإن ذلك نصره".[رياض
الصالحين 122].
ومن الحقوق أيضاً التفريج عن المسلم وستره في الدنيا. قال صلى الله
عليه وسلم: "المسلمُ أخو المسلمِ، لايظلمُهُ ولايُسْلِمُهُ، من كان
في حاجةِ أخيهِ كان اللهُ في حاجتِهِ، ومن فَرَّجَ عن مسلمٍ كربةً فرّج
اللهُ عنه بها كربةً من كربِ يومِ القيامةِ، ومن سترَ مسلماً ستره الله
يوم القيامة". متفق عليه.
وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً: ". المسلمُ أخو المسلمِ: لايظلمه
ولايحقره ولايخذله، التقوى ههنا -ويشير الى صدره ثلاث مرات-.بحسب
امرىءٍ من الشر أن يحقِر أخاه المسلم. كلُّ المسلم على المسلم حرام،
دمه وماله وعرضه"
[رواه مسلم].
قوله - صلى الله عليه وسلم - "لايظلمه" معروف، ولايحقره:
لايحتقره، فلا ينكر عليه ولايستصغره ويستقله. وقوله: ولايخذله:
أي لايترك نصرته.
والمسلم كما عرّفه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث
الصحيح: "من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى
الله عنه" [متفق عليه].
وقال الخطابي في شرحة لهذا الحديث: معناه أن المسلم الممدوح من كان هذا
وصفه، فالمراد هنا أن أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله أداءَ
حقوق المسلمين والكفّ عن أعراضهم. أهـ [عمدة
القاري 1/132 بتصرف].
وأساس الأخوّة هو الإلتقاء في الله سبحانه وتعالى والمحبة فيه؛ يقول
الله تعالى: (الأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
إلاّ الْمُتَّقينَ) [الزخرف: 67]، ويقول سبحانه وتعالى:
(مُحَمَّدٌ رَسولُ اللَّهِ والَّذينَ مَعَه أَشِدّاءُ عَلى الْكُفَّارِ
رُحَماءُ بَيْنَهُم) [الفتح: 29].
وقد ذمّ اللهُ من اتخذ خليلاً فصدّه عن سبيل الله، فقال تعالى: (وَيَوْمَ
يَعَضُّ الظّالِمُ عَلى يَديهِ يَقولُ يالَيْتَني اتَّخَذْتُ مَعَ
الرَّسولِ سَبيلاً . يا وَيْلَتى لَيْتَني لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً
خَليلاً . لَقَدْ أَضَلَّني عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْجاءَني وَكانَ
الشَّيْطانُ لِلإِنْسانِ خَذولاً) [الفرقان: 27-29].
ويبين رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنّ الحبَّ من الإيمان، فيقول:
"أوثقُ عُرى الإيمانِ المُوالاةُ في اللَّهِ والمُعاداةُ في اللَّهِ
والحُبُّ في اللَّهِ والبُغْضُ في اللَّهِ"
[الصحيحة 2/998، 4/1927].
ومن أحبَّ لِلّهِ وجد حلاوة الإيمان، كما جاء في الصحيحين عن أنس رضي
الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كُنَّ فيه
وجد بهنَّ حلاوةَ الإيمانِ: أنْ يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما
سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لايحبُّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر
بعد أن أنقذه الله كما يكره أن يُقْذَفَ في النار"
[رياض الصالحين 176].
قال النووي: "معنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمّل المشاق في
الدين وإيثار ذلك على أعراض الدنيا ومحبة العبد لله تعالى بفعل طاعته
وترك مخالفته، وكذلك محبة رسوله صلى الله عليه وسلم"
[نقلاً عن عمدة القاري 1/147].
وقيل: الحلاوة هنا بمعنى الحُسن، يعني حُسْن الإيمان. ويستطرد النووي -
رحمه الله - في شرح الحديث فيقول: "قوله: "وأن يحب المرء لايحبه إلا
لله "هذا حديث حَثَّ على التحابب في الله، لأجل أن الله جعل
المؤمنين إخوة، قال تعالى: (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً)
. ومن تمام محبته تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم محبّةُ أهل
ملّته، فلا تحصل حلاوة الإيمان إلا أن تكون خالصة لله تعالى غير مشوبة
بالأغراض الدنيوية ولا الحظوظ البشرية، فإن من أحب لذلك انقطعت تلك
المحبة عند انقطاع سببها"اهـ [عمدة القاري
1/148-149]. والإلتقاء على دين الله تعالى واتباع أمره في
القرآن وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، إنما هو توفيق منه تبارك
وتعالى، كما قال تعالى: (واعْتَصِموا بِحَبْلِ اللهِ جَميعاً
ولاتَفَرَّقوا وّاذْكُروا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ
أعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلوبِكُمْ فأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شفا حُفْرَةٍ مِنَ النّار فَأَنْقَذَكُمْ
مِنْها كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدونَ) [آل عمران: 103].
قال الطبري في تفسيره: "يعني بذلك جل ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله
جميعاً، يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به،
وعهْده الذي عهده إليكم من الإلفة والإجتماع على كلمة الحق والتسليم
لأمر الله" اهـ [4/30].
وقد ورد في تفسير كلمة (الحبل) معان كثيرة منها ما جاء عن ابن مسعود
قـال: الجماعة -يعني بذلك الحقَّ- والقرآن، والعهد الذي عهد فيه. وقال
آخرون: بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله.
وقوله تعالى: (وّاذْكُروا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) :
واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الإلفة والإجتماع على الإسلام
[الطبري: 4/33] يعني بعد أن كنتم مشركين يقتل بعضُكم بعضاً
ويذبح بعضُكم بعضاً.
و أما قوله: (فأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْواناً) فإنّه يعني:
فأصبحتم بتأليف الله عز وجل بينكم بالإسلام وكلمة الحق والتعاون على
نصرة أهل الإيمان، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر، إخواناً
متصادقين، لا ضغائن بينكم ولا تحاسد.
[الطبري: 4/36].
وتأليف قلوب المؤمنين إنما هو توفيق من الله تعالى، لايملكه إلا هو،
كما قال تعالى: (وإِنْ يُريدوا أنْ يَخْدَعوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ
اللَّهُ هو أيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبِالْمُؤْمِنينَ وألَّفَ بَيْنَ
قُلوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما في الأَرْضِ جَميعاً ما أَلَّفْتَ
بَيْنَ قُلوبِهِمْ ولَكِنَّ اللَّهَ ألَّفَ بَيْنَهُمْ إنَّهُ عَزيزٌ
حَكيمٌ) [الأنفال 62-63].
يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى: (وألَّفَ بَيْنَ قُلوبِهِمْ)
، قال: "أي جمع بين قلوب الأوس والخزرج، وكان تألُّفُ القلوب مع
العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته،
لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عنها حتى يسْتقْيدها، وكانوا أشد خلق
الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجلُ أباه وأخاه بسبب
الدين. وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والمعنى متقارب"
اهـ [أحكام القرآن: 8/42].
وقال أبو جرير الطبري: "ما جمعتَ أنت -يامحمد- بين قلوبهم بحِيَلِكَ،
ولكن الله جمعها على الهدى، فائْتلفَتْ واجتمعت تقويةً من الله لك
وتأييداً منه، ومعونة على عدوٍّ" اهـ
[10/36].
أورد ابن كثير في تفسيره لهذه الآية قولَ عبد الله بن مسعود فيها،
فقال: "قال أبو إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه يقول: (لَوْ أَنْفَقْتَ ما في الأَرْضِ جَميعاً ما
أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلوبِهِمْ) الآية، قال: "هم المتحابون في الله
-وفي رواية- قال: نزلت في المتحابين في الله". رواه النسائي والحاكم في
مستدركه وقال: صحيح أهـ [2/323].
وروى الإمام إبن جرير الطبري عن ربعي بن مغيث عن مجاهد قال: "إذا التقى
المسلمان فتصافحا غُفِرَ لهما. قلتُ لمجاهد: بمصافحة يغفر لهما؟ قال
مجاهد: أما سمعته يقول: (لَوْ أَنْفَقْتَ ما في الأَرْضِ جَميعاً ما
أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلوبِهِمْ ولَكِنَّ اللَّهَ ألَّفَ بَيْنَهُمْ)،
فقال الوليد بن أبي مغيث له: أنت أعلم منّي.
[3/323].
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا"
[رياض الصالحين 353].
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إنّ المسلمَ إذا لَقِيَ أخاه المسلمَ فأخذَ يدَه تحاتّتْ عنهما
ذنوبُهما كما تحاتُّ الوَرقُ عنِ الشجَرَةِ اليابِسَةِ في يَوْمِ ريحٍ
عاصِفٍ، وإلاّ غُفِرَ لهما ذُنوبُهما ولو كانَتْ مثلَ زَبَدِ البِحارِ"
[رواه الطبراني].
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لقياك لأخيك بوجه طلق معروفاً،
فقال: "لا تُحقِرَنَّ من المعْروفِ شيئاً، ولَو أن تَلقى أخاكَ
بِوَجْهٍ طَلْقٍ" [شرح مسلم 16/177].
وللمتحابّين في الله أجر عظيم ، منها: أن الله تعالى يقول يوم القيامة:
"أينَ المُتحابّون بِجَلالي، اليومَ أُظِلُّهُم في ظِلِّي، يومَ لا
ظلَّ إلا ظِلّي" [رواه
مسلم].
ومنها دخول الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذي نَفْسي
بِيَدِهِ لا تَدْخُلوا الجَنَّةَ حتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى
تَحابّوا، أوَلا أَدُلُّكم على شَيْءٍ إذا فَعَلْتُموهُ تَحابَبْتُم؟
أَفْشوا السَّلامَ بَيْنَكُم" [رواه
مسلم].
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "قال الله عزّ وجلّ: المتحابُّون في جلالي لهم منابرُ من
نورٍ، يَغْبِطُهم النَّبِيُّونَ والشُّهَداءُ"
[رياض الصالحين 178].
وقال معاذ رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"قال الله تعالى: وَجَبَتْ مجبَّتي للمتحابّين فيَّ، والمتجالسين فيّ،
والمتزاورين فيّ، والمتباذِلين فيّ". ومرّةَ أخذ رسول الله صلى
الله عليه وسلم بيد معاذ وقال: "يامعاذ والله إني
لأحبّكَ في الله، ثم أوصيكَ يا مُعاذ لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كلَ صَلاة
تقول: اللّهمَّ أَعِنّي على ذَِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عبادَتِكَ"
[رياض الصالحين 179].
حال المسلمين اليوم
وأما سبب ضعف الروابط بين المسلمين في هذه الأيام فيرجع إلى عدة أسباب،
منها :
1- بعدُهم عن دينهم عامة، وضعف علاقتهم بالله عز وجل.
2- تعصب فئة من جهلتهم لفئات وجماعات إسلامية، واتخاذهم أولياء دون
غيرهم من أهل القبلة.
3- تفاقم الحسد والبغضاء والتشاحن بينهم وغيرها من الأخلاق المذمومة.
4- إعجاب كل ذي رأي برأيه مع تقليده لشخص معين أو جماعة بعينها لا يحيد
عنها.
5- التنافس على الدنيا ومتاعها ومراكزها الفانية.
روى الإمام مسلم في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "لا تَهَجَّروا ولا تدابَروا ولا تحَسَّسوا ولا
يَبِع بعضُكم على بيعِ بعضٍ، وكونوا عباد الله إخواناً"
[شرح مسلم 16/119].
وعنه مرفوعاً : "لا تحاسَدوا ولاتباغضوا ولاتجسّسوا ولاتحسسوا
ولاتناجشوا وكونوا عباد الله إخواناً"
[مسلم 16/119]. وفي رواية:"لاتقاطعوا ولاتدابروا ولاتباغضوا
ولاتحاسدوا وكونوا إخوانا كما أمركم الله"
[مسلم 16/120]. وفي رواية:
"إيّاكم والظَّنَّ فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبَ الحديثِ، ولاتَحَسَّسوا
ولاتَجَسَّسوا ولاتنافسوا ولاتَحاسَدوا ولاتَباغَضوا ولاتَدابَروا،
وكُونُوا عبادَ اللَّهِ إخْواناً" [مسلم
16/118-119].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظّنَّ فإنّ الظَّنَّ أكذبُ
الحديثِ". والمراد هو النهي عن الظن السوء.
أما التَّحَسُّس، قيل هو الإستماع لحديث القوم.
والتَّجَسُّس: البحث عن عورات الناس.
والتحاسد والحسد:
هو تَمَنِّي زوال النّعمة عن صاحبها.والتنافس: الرغبة في الشيء
والإنفراد به.
والتّهَجُّر:
هو بمعنى التّهاجُر، والمراد النهي عن الهجرة ومقاطعة الكلام.
والتّناجُش:
هو أن يزيد في السلعة ولارغبةَ له في شرائها، بل ليُغِرَّ غيره في
شِرائها [شرح مسلم 16/120].
وهذه الأفعال التي ذكرتها الأحاديث تُضعِف رابطة الأخوّة بين المؤمنين
فينازعوا فيفشلوا وتذهب ريحهم. لذلك حريٌّ بكل مسلم، إن كان حريصاً على
دينه، أن يصلح بين إخوة الدين الذين دخلت الدنيا إلى قلوبهم واختلفوا
في أمرها.
وأما إن كانوا ممَّن غَيَّرَ وبَدَّلَ في دين الله وابتدع وأصرَّ على
بدعته بعد تبيان الحق له، فهؤلاء يُبْغَضون بقدر ما عندهم من البدع
والإنحرافات والمعاصي. وقد أورد الشاطبي -رحمه الله- في كتابه
"الإعتصام" طرقاً لردعهم، فقال -مبيِّناً حكم المبتدعين حسب بدعتهم
وردّهم عن بدعتهم بوجوه، منها: "الإرشاد والتعليم وإقامة الحجّة، ...
ومنها الهجران وترك الكلام والسلام..، ومنها ذكرهم بما هم عليه وإشاعة
بدعتهم كي يُحذَروا ولِئلا يُغْتَرَّ بكلامهم".
[الاعتصام 175-177] إلى آخر ما قاله
رحمه الله تعالى.
فهذه بعض العوائق التي قد تعترض مسار الأخوة بين المسلمين. فعليهم أن
يسددوا ويقاربوا ويعفوا ويصفحوا ويعذر بعضُهم بعضاً -فيما يسوغه
الشرع-، وأن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وإلا
ففيه الخسران والبوار، وخراب البلاد والعمران، وتسلّط الأعداء علينا،
وضعف شوكتنا واضمحلال أمرنا وذهاب ريحنا، والعياذ بالله.
لذلك، فلابدّ للمخلصين من هذه الأمة أن يتّحِدوا على الحق المبين.
ونتيجة اتّحادهم هي الرحمة المنزّلة عليهم من الله تعالى: (ولايزالونَ
مُخْتَلفينَ. إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) [هود: 118-119]. فالرحمة
لاتُعْطى للمختلفين، وإنما تعطى للمتوادّين المؤمنين المتراحمين،
الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وإن قلّوا في هذا الزّمان!
الخاتمة
يقول الله تبارك وتعالى: (الأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلاّ المُتَّقينَ . ياعِبادي لاخَوْفَ عَلِيْكُمْ
اليَوْمَ ولا أَنْتُمْ تَحْزَنونَ . الّذينَ آمَنوا بَآياتِنا وكانوا
مُسْلِمينَ . أُدْخُلوا الجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُم تُحْبَرونَ .
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وفيها ما
تَشْتَهِيهِ الأََنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وأُنْتُمْ فيها خالِدون
. وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الّتي أُورِثْتُموها بما كُنْتُم تَعْمَلون.
لَكُم فيها فاكِهَةٌ كَثيرَةٌ مِنْها تَأْكُلونَ) [الزخرف: 67-73].
وقال تعالى: (إنَّ الْمُتَّقينَ في جَنّاتٍ وعُيونٍ . أُدْخُلوها
بِسَلامٍ آمِنينَ . وَنَزَعْنا ما في صُدورِهِم مِنْ غِلٍّ إِخْواناً
عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلينَ . لايَمَسُّهُم فيها نَصَبٌ وما هُمْ عَنها
بِمُخْرَجينَ) [الحجر: 45-48].
نسأل المولى عزّ وجلّ أن يهديَنا وإخواننا إلى الحق المبين، وأن يصلح
أحوالنا، وينصرنا على أنفسنا وأعدائنا، وأن يتولانا برحمته الواسعة،
إنه سميع مجيب.
(رَبَّنا
اغْفِرْ لَنا ولإخْوانِنا الّذينَ سَبَقونا بالإيمانِ ولاتَجْعَلْ في
قُلُوبِنا غِلاَّ لِلَّذينَ آمَنوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحيمٌ)
[الحشر: 10].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
مصادر البحث
أحكام القرآن، للقرطبي.
الإعتصام، للشاطبي.
تفسير القرآن العظيم، لإبن كثير الدمشقي.
جامع البيان في تأويل القرآن، لإبن جرير الطبري.
رياض الصالحين، للنووي.
سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني.
شرح صحيح مسلم، للنووي.
عمدة القاري في شرح صحيح البخاري، للعَيْني.
فتح الباري شرح صحيح البخاري، لإبن حجر العسقلاني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق