التدويل مهّد للاستقلال
لمياء قاسمي -
الجزائر
يُعتبر إضراب الثمانية أيام من 28 جانفي (يناير) إلى 04 فبراير 1957 حدثا
بارزاً في مسيرة الثورة التحريرية الجزائرية ، وتكمن أهمية موعده مع
اشتداد عود الثورة وتحقيق انتصارات عسكرية على الجيش الفرنسي وتزامنه مع
موعد إدراج القضية الجزائرية في برنامج الأمم المتحدة حيث تقرر مناقشتها
في 28 جانفي 1957. فجاء هذا الإضراب كعمل سياسي لفت الانتباه لما يحدث في
الجزائر وكشف جرائم الاستعمار أمام الرأي العام العالمي ، والتمهيد
لاعتراف هيئة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بحق الشعب الجزائري في تقرير
مصيره والاستقلال والتأكيد مرة أخرى على التفاف الشعب حول جبهة وجيش
التحرير الوطني باعتبارهما الممثل الشرعي والوحيد للشعب الجزائري .
وقد دفعت الظروف الداخلية والدولية لاتخاذ هذا القرار الجريء خاصة في سنة
1956 التي شهدت أحداثاً بارزة مع انعقاد مؤتمر الصومام في شهر أوت
(أغسطس)، ويعد أول مؤتمر يجمع قادة الثورة ويعطي دفعاً تنظيمياً جديداً
للكفاح المسلح كما طبع النصف الثاني من هذه السنة العديد من الأحداث ،
ففي 22 أكتوبر قام الاستعمار الفرنسي باختطاف الطائرة المغربية المتجهة
من المغرب إلى تونس والتي كانت تقل خمسة مسؤولين المشاركين فيما سمّي
بمؤتمر السلام بحيث اعترضت الطائرة طائرة عسكرية فرنسية وتم إلقاء القبض
عليهم والزج بهم في السجن ، بالإضافة لتسجيل بداية الاتصالات السرية بين
السلطات الاستعمارية ومسؤولي جبهة التحرير الوطني .
أما الحدث الدولي البارز فكان العدوان الثلاثي على مصر - 23 أكتوبر 1956
- والذي شاركت فيه ثلاث دول : بريطانيا واسرائيل وفرنسا ، بعد قرار عبد
الناصر بتأميم قناة السويس ، وكانت حجة فرنسا في العدوان هي مساعدة مصر
للثوار الجزائريين.
عم الإضراب كل أرجاء البلاد ، واستجاب الشعب لنداء جبهة التحرير الوطني ،
كما أنه شمل مختلف النشاطات الاقتصادية بحيث توقفت حركة التجارة والنقل
والفلاحة والتعليم والإدارات حسب المدة المحددة وهي أسبوع .
التحضيرات للإضراب
أعدت لجنة التنسيق والتنفيذ «الهيئة التنفيذية للمجلس الوطني للثورة
الجزائرية» قراراً بشن إضراب وطني في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر 1956
وذلك لتدعيم مسعى الكتلة الإفريقية الآسياوية في الجمعية العامة للأمم
المتحدة عند مناقشة القضية الجزائرية في العاشر من ديسمبر 1956 ، لكن ذلك
تم تأجيله بسسب أعياد رأس السنة الميلادية وقرار انعقادها في 28 يناير
1957 مما جعل لجنة التنسيق والتنفيذ تصدر تعليمة تنظيم الإضراب ليتسنى
لمختلف قادة الولايات التحضير له ، فققرت اللجنة أن تجعل من يوم 28 يناير
بداية انطلاق للإضراب لكن بقي ذلك في سرية تامة.
ومع اقتراب الموعد وزعت كل ولاية مناشير تحدد تاريخ بداية الإضراب
ونهايته ، وتم توجيه نداءات سرية كذلك عبر الإذاعة السرية «صوت الجزائر»
، كما شكلت لجان الإضراب على مستوى الولايات وأخرى فرعية على مستوى
المناطق والنواحي والقسمات والمدن والأحياء ، بالإضافة إلى تشكيل لجان
داخل أهم الهيئات النقل البريد والمواصلات والمصالح البلدية والأسواق.
وكانت مهام هذه اللجان تتعدى إعلام السكان إلى تزويدهم بالمؤن والمواد
الغذائية وما يحتاجون إليه طيلة مدة الإضراب وتقديم إعانات مالية
للعائلات.
ولم تكنف الثورة بالتعبئة الداخلية للشعب ، بل تعدت حدود الجزائر بدعوتها
الجزائريين خارج الوطن في فرنسا وتونس والمغرب للمشاركة في إنجاح
الإضراب.
موقف السلطات الاستعمارية من الإضراب
بمجرد وصول أخبار نداء الإضراب للسلطات الإستعمارية عمدت للتخطيط بمختلف
الوسائل لإفشاله قبل انطلاقه ، فقامت مصالحها الدعائية بطبع منشورات
مزيفة تحذر من خلالها الشعب الجزائري من الوقوع في فخ الاستعمار باسم
جبهة التحرير الوطني ، كما تم إنشاء إذاعة سرية مزيفة أطلق عليها اسم
«صوت الجزائر» بتدبير من «لاكوست» وتكمن مهمتها في إذاعة أوامر تناقض
أوامر جبهة التحري الوطني ، كما هددت السلطات الاستعمارية المشاركين في
الإضراب بتسليط العقوبات عليهم ، واستدعت كذلك التجار والعمال الجزائريين
قصد تحذيرهم من النتائج ، ورغم هذه الضغوطات والتهديدات انطلق الإضراب في
وقته المحدد وشمل مختلف أرجاء الوطن ، واعتصم الجزائريون في بيوتهم
استجابة لنداء جبهة التحرير الوطني.
مجريات الإضراب
عمَّ الإضراب كل أرجاء البلاد واستجاب الشعب لنداء جبهة التحرير الوطني ،
كما شمل مختلف النشاطات الاقتصادية بحيث توقفت حركة التجارة والنقل
والفلاحة والتعليم والإدارات حسب المدة المحددة أسبوع ، وإزاء هذه
الاستجابة الواسعة للإضراب كتبت صحيفة «لوموند» واصفة تلك الأيام في
طبعتها الصادرة في 31 يناير 1957 حيث جاء فيها «بمجرد طلوع النهار
استأنفت عملية تكسير المتاجر وشرعت الدوريات في إعطاء الأوامر إلى العمال
للالتحاق بأعمالهم ، وإلا فإنهم يتعرضون للعقوبات بالسجن ... إن الجزائر
في هذا اليوم ظلت صامتة واختفى منها سكانها المسلمون » .
من جهة أخرى ، أكدت جبهة التحرير الوطني في بيانها : «إن نجاح هذا
الإضراب سيكون معناه أمام العالم أنكم تعتبرون وفد جيش وجبهة التحرير
الوطني هو المتكلم الأوحد لشعب الجزائر المناضل».
القمع بالأسلوب الفرنسي
لجأت السلطات الفرنسية لأساليب قمعية لوقف الإضراب وذلك بعمليات المداهمة
للبيوت ليلاً ونهاراً وتعريض الموظفين والعمال للسجن والطرد..
وإجبارهم على الالتحاق بمكان عملهم.
وأمر الجنرال «ماسو» قواته باقتحام المتاجر بالقوة بحيث تتعرض المحلات
للنهب والسرقة ، بل وصلت به الوقاحة حد الإعلان عبر أمواج الأثير نداء
يدعو فيه باسمه سكان الجزائر لنهب البضائع إذ قال: «إن جميع المتاجر
ستفتح ، وإذا اقتضت فإن الأبواب ستحطم بالقوة حتى يتمكن الجمهور من
الدخول إليها بكل حرية ، وتُعلِم السلطات جميع أصحاب المتاجر أنه إذا
فتحت أبوب المتاجر بالقوة فإن أمن البضائع المستودعة بها غير مضمون» .
نتائج الإضراب
أكد الشعب الجزائري عبر استجابته لنداء الإضراب أنه متمسك بالثورة
التحريرية ومرتبط بجبهة التحرير الوطني كممثل شرعي ووحيد له.
كان الإضراب فرصة لوكالات الأنباء ومراسلي الصحف الأجنبية في الجزائر
لتقديم صور حقيقية وواقعية عما يدور في الجزائر للرأي العام العالمي وعن
الأساليب القمعية التي تستخدمها السلطات الفرنسية لإفشال الإضراب. كما
كان إنتصاراً سياسياً للقضية الجزائرية حيث تمت مناقشتها بهيئة الأمم
المتحدة لمدة عشرة أيام تُوِّجت بتوصيات دعت فرنسا لإيجاد حلول سلمية ،
وأكدت أن المشكلة الجزائرية تنطبق عليها مبادئ حق تقرير المصير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق