في هذا القرن نحتاج إلى حركة تجديدية شاملة و متكاملة ومستنيرة
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها
دينها " (1).
إن الأمة الإسلامية في هذا القرن الذي نعيشه في أمس الحاجة إلى تحقق
موعود رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
كما إنها في حاجة إلى معرفة صفات وشروط ذلك المجدد ، و سمات ذلك
التجديد المنشود . فإليك أخي القارىء تلك الوقفات !
في موضع الحديث :
الناظر إلى موضع هذا الحديث في أبواب السنن ـ وخصوصاً في سنن أبي داود
ـ ؛ يجد أن الإمام أبي داود ـ صدره في أول باب من كتاب الملاحم ، فقال
: " كتاب الملاحم .. باب : ما يذكر في قرن المائة .
حدثنا سليمان بن داود المهري....."
فذكر الحديث . والملاحم جمع ملحمة ، ويراد بها المعارك والأحداث الجسام
التي تقع في المستقبل بين المسلمين وأعدائهم ؛ مأخوذة من التحام
الجيشين المتحاربين ، لذا يذكر أئمة الحديث في هذا الباب الأحاديث
النبوية الواردة في قتال المسلمين للترك والرومان واليهود وغيرهم ،
ونسأل هنا : لماذا كتب أبي داود هذا الحديث في هذا الباب .. ؟ نقول :
إن هذا من فقه أئمة الحديث وبراعتهم التصانيف . وذكر أبو داود لهذا
الحديث في هذا الموضع في لطائف نراها .. ومنها :
1-
أن المجدد ليس بعيداً عن الأحداث الجسام التي تتعرض لها الأمة ، وعن
الحروب المعلنة على الإسلام ، فليس مكان المجدد في الأبراج العالية
بعيداً عن الأحداث التي تعصف بالمسلمين ، كما أنه ليس بعيداً عن ذروة
السنام : الجهاد . وليس المجدد بالذي لا يضع يده في يد المسلمين في
جهادهم ضد أعداء الإسلام .
2-
أن من معاني تجديد الدين انتصار الدين في تلك الملاحم والحروب التي
قامت وستقوم لمحاولة هدم الدين . وكأن الإمام أبي داود بتقديمه هذا
الحديث على كل أحاديث الملاحم ؛ يريد أن يؤكد السن الربانية القائلة
بانتصار الدين الإسلامي في نهاية تلك الحروب . فأورد حديث التجديد الذي
يبشر بالمكانة والريادة لأمة المسلمين .
3-
أن الملاحم والحروب التي أخبر عنها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تهدف
بالأساس إلى القضاء على هذا الدين ، أو تشويهه . فمن ثم يأتي دور
المجددين للدفاع عن هذا الدين، وعن ثوابته ، ويحيون ما اندرس منه من
المعالم بفعل أعداء الإسلام وحروبهم .
4-
أن عملية تجديد الدين عملية جهادية من الدرجة الأولى ، وهي تغيظ أعداء
الإسلام، لما يقوم به المجددون من إحياء الفرائض الغائبة والسنن
المغيبة ومحق البدع والخرافات الدخيلة ، لا سيما تلك الأفكار الخبيثة
التي دسها أعداء الإسلام في عقول العرب وسلوكياتهم وأخلاقهم . لذا كان
الإمام أبي داود فقهياً حقاً عندما كتب هذا الحديث في باب يتحدث عن
الجهاد ضد رايات الكفر اليهودية والصليبية .
5-
حاجة الأمة الإسلامية إلى المجددين تكون أشد وأعظم في زمان الفتن
والملاحم ، لا سيما تلك الحروب المعلنة على الإسلام . إذ وظيفة المجدد
هو النهضة بهذه الأمة، والخروج بالأمة من عثراتها . سالمة غانمة منتصرة
.
في هدف الحديث :
" يهدف هذا الحديث إلى بعث الأمل في نفوس الأمة " (2) .
فهو يريد أن يرسل رسالة إلى أتباع هذه الدنيا مفادها أن هذا الدين لن
يموت، وأن الله يقيض لهذه الأمة كل فترة زمنية من يجدد فهمها وأفكارها
نحو هذا الدين ، وأن الله ـ عز وجل ـ لن يدع هذه الأمة تتيه بعد وفاة
رسولها ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقد قرر ـ عز وجل ـ أن يرسل لهذه
الأمة من يوقظها من سبات ، ويجمعها من شتات، وينصرها من هزيمة، ويحررها
من طغيان . وبالتالي فإن هذا الحديث الجليل يقف ضد موجة اليأس
والانهزام والقنوط؛ التي يبثها المثبطون والمعوقون؛ الذين يوحون إلى
الناس بأن الإسلام في إدبار والكفر في إقبال وأنه لا فائدة و لا أمل في
التمكين للمسلمين في الأرض، كما مكن الله الرعيل الأول من أتباع محمد ـ
صلى الله عليه وسلم ـ . ومن ثم تأتي وظيفة هذا الحديث وأمثاله ـ من
المبشرات ـ بقذف قمم اليأس التي خيمت على النفوس، وحرق أشجار القنوط
الخبيثة .(يَابَنِيّ اذْهَبُواْ فَتَحَسّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ
وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رّوْحِ اللهِ إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن روْحِ
اللهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف : 87] . والحق أن في السنة
النبوية الكثير والكثير من الأحاديث المبشرة بنصر الإسلام والتمكين له
، وكلها أحاديث تتكاتف مع حديث المجدد من حيث وحدة الهدف ، في كون هذه
الأمة منصورة، ممكن لها .. ومن أمثلة تلك الأحاديث الكريمة : قول
الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
1-
" بشر هذه الأمة : بالتيسير، والسناء، والرفعة بالدين ، والتمكين في
البلاد، والنصر . فمن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة
من نصيب" (3)
2-
" مثل أمتي ، مثل المطر؛ لا يدري أوله أخير أم آخره ." (4)
3-
" ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا
وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو ذل ذليل عزا يعز الله به
الإسلام وذلا يذل الله به الكفر"(5)
4-
"تسمعون ويُسمع منكم ، ويُسمع ممن سمع منكم"(6)
5-
" تكون النبوة فيكم ـ ما شاء الله أن تكون ـ، ثم يرفعها الله تعالى .
ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ـ ما شاء الله أن تكون ـ ،ثم يرفعها
الله تعالى . ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم
يرفعها الله تعالى . ثم تكون ملكاً جبرية فيكون ما شاء الله أن يكون ،
ثم يرفعها الله تعالى ، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة " ثم سكت(7).
6-
" إن الله زوى لي الأرض ! فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ
ملكها ما زوي لي منها "(8).
وبالجملة فإن هذه الأحاديث لا سيما هذا الحديث العظيم (أي حديث المجدد)
من البشائر التي وعد بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن هذا الحديث
العظيم ليمنح المسلم طاقة من الأمل الأكيد بنصر الله لعباده المؤمنين ،
ويمنحه ـ فوق هذا ـ دفعة قوية محركة للعمل والبذل والجهاد والتضحية
رجاء أن يكتب له المولى ـ تبارك وتعالى ـ ثواب المجددين .
في لطائف الحديث :
1-
أول ما يستوقف المتأمل في هذا الحديث الكريم ؛ هو قول النبي ـ صلى الله
عليه وسلم ـ : " يبعث اللهُ " .. ! وهو بذلك يقذف في قلب المستمع من
أول وهلة سيلاً
من الثقة والإيمان يشي بعناية ورعاية المولى ـ تبارك وتعالى ـ للمجدد
.. وكلمة البعث هنا توحي بأن الله تعالى يرسل لهذه الأمة من يصطفيه
ويجتبيه من عباده ليحمل أمانة التجديد وتبعة النهضة ومسؤولية الإحياء .
وكأن المجددين هم رسل الله بعد الأنبياء غير أنه لا نبي بعد محمد ـ صلى
الله عليه وسلم ـ !
2-
وانظر إلى قوله : " لهذه الأمة " .. نعم .. قوله : " لهذه الأمة" ..
فالتجديد الإسلامي يهدف بالأساس مصلحة هذه الأمة جمعاء ،
وكل مصالحها السياسية والاقتصادية والفكرية والتربوية ... الخ ، كما أن
المجدد ليس بالذي يعيش لنفسه ، أو يعيش معزولاً عن الأمة، حبيس الكتب
والمكتبات .. إنه بذلك يعيش من أجل نفسه بل من أجل شهواته ، يعيش من
أجل أن يشبع بطنه بحبر قلمه ! ولكن المجدد الحقيقي هو الذي يعيش بكل
كيانه لهذه الأمة ، ولأبناء هذه الأمة مهما كان مكانهم ومهما كان حالهم
ومهما
كانت أرضهم ! .. " إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة ، حينما نعيش للآخرين"(9).
3-
ثم قال : " على رأس كل مائة سنة " .. ومعروف أن رأس الشيء أعلاه ،
ورأس الشهر أوله ، ورأس المال أصله .. هنا يتساءل الشراح عن بداية
المائة .. فقال المناوي : " يحتمل من المولد النبوي، أو من البعثة، أو
من الهجرة، أو الوفاة.. ولو قيل بأقربية الثاني ( أي البعثة) لم يبعد،
لكن صنيع السبكي وغيره مصرح بأن المراد الثالث "(10) (أي الهجرة ). قال
القرضاوي ـ حفظه الله ـ : " وذلك لأنهم في حديثهم عن المجددين اعتبروا
التاريخ الهجري هو الأساس ، وهو معقول ؛ لأنه التاريخ الذي ألهم الله
المسلمين منذ عهد عمر أن يؤرخوا به دون غيره ، فلم يعتمدوا المولد ولا
البعثة ولا الوفاة ."(11).
هذا وقد قال بعضهم في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " على رأس
كل مائة سنة" ..
يعني في أولها، وقال آخرون بل في آخرها
، كما يلاحظ أن أكثرهم جعلوا العبرة بوفاة المجدد في رأس القرن ، كما
يظهر ذلك في وفيات الذين عينوهم : فعمر بن عبد العزيز توفي ـ رحمه الله
ـ في سنة 101هـ، والشافعي توفي ـ رحمه الله ـ في سنة 204هـ ، وابن سريج
(ت306هـ)، والباقلاني (ت403هـ)،والغزالي (ت 505هـ)، والرازي (ت606هـ)،
وابن دقيق العيد (ت 703)، والعراق (ت 808هـ)(12) . لكنهم " لم يذكروا
إماماً مثل ابن تيمية برغم حركته التجديدية الضخمة في الفكر الإسلامي
بمختلف جوانبه؛ لأنه تأخرت وفاته عن رأس المائة (ت 728هـ)..!! " (13) .
فالحق أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقل : إن الله يتوفى المجدد
على رأس القرن ، بل يبعثه على رأس القرن . ومعناه : أن مهمة المجدد
تبدأ في رأس القرن ، كما أن مهمة كل نبي تبدأ من أول يوم بعث فيه !
ولقد فطن إلى هذه الحقيقة المناوى ـ رحمه الله ـ فقال : وهنا تنبيه
ينبغي التفطن له، وهو أن كل من تكلم على حديث " إن الله يبعث ..."
إلخ، إنما يقرره بناء على أن المبعوث على رأس القرن يكون موته على
رأسه. وأنت خبير بأن المتبادر من الحديث إنما هو: أن البعث ـ وهو
الإرسال ـ يكون على رأس القرن ، أي أوله . ومعنى إرسال العالم : تأهله
للتصدي لنفع الأنام، وانتصابه لنشر الأحكام . وموته على رأس القرن أخذ
لا بعث ! فَتَدَبَّرْ بإنصاف . ثم رأيت الطيبي قال : المراد بالبعث من
انقضت المائة وهو حي عالم مشهور مشار إليه . والكرماني قال : قد كان
قبيل كل مئة أيضاً من يصحح ويقوم بأمر الدين، وإنما المراد من انقضت
المائة وهو حي عالم مشار إليه "(14)
. ثم ذكر المناوي : " أنه قد يكون في أثناء المائة من هو كذلك، بل قد
يكون أفضل من المبعوث على الرأس وأن تخصيص الرأس إنما هو لكونه مظنة
انخرام علمائه غالباً وظهور البدع ونجوم الدجالين" . وهو بذلك يؤكد
حقيقة أن المجدد لا يشترط فيه أن يبعث أو يظهر أو يموت على رأس المائة
، وهذا يصدقه التاريخ والواقع. وهو الراجح والله أعلم . كما أن الظاهر
ـ والله أعلم ـ أن عدم تحديد المقصود بالرأس، وعدم تحديد المبتدأ، يشي
بأن الله تعالى يبعث المجددين كلما دعت الحاجة إليهم ، لاسيما في أزمنة
النكبات والفتن والملاحم . ومن ثم يظهر المجددون في أي يوم من أيام
السنة ، وفي أي سنة من سنوات القرن ! وذلك فضل الله تعالى يؤتيه من
يشاء .
4-
أما قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من يجدد لها دينها " . فهذا يدل
أن الدين المُجدد هو ذلك الذي يعتقده الناس ، لا الدين الخالص الذي
أنزله الله ، ولذلك قال : " يجدد لها دينها " فنسب الدين إلى الأمة ،
ولم يقل ـ مثلاً ـ : يجدد لها الدين أو يجدد لها دين الله ! فهدف
المجدد هو تجديد الدين الذي يتصوره ويعتقده الناس بحيث يتفق والدين
الخالص الذي أنزله الله غضاُ طرياً على نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
أما بشأن كلمة " من " في الحديث ، والسؤال التقليدي : هل من هنا للفرد
أم للجماعة ؟ فأعتقد أن " من " تنطبق على الفرد كما تنطبق على الجماعة
.. فقد يكون القائم بالتجديد فرد ، وقد يكون جماعة أو حركة أو مدرسة .
فقد يبعث الله تعالى رجلاً يجدد في الفقه السياسي أو الاقتصاد الإسلامي
.. كما قد يبعث حركة إسلامية تجدد في المجال التربوي .. أو مدرسة
تجديدية تنقي السنة ، أو تجدد في فهم كتاب الله تعالى ..
وفي هذا القرن الذي نعيشه نحتاج إلى حركة تجديدية شاملة متكاملة
مستنيرة ، تنهض بهذه الأمة من عثرتها ، وترفعها من كبوتها.
الهوامش :
1-
صحيح ـ أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم برقم 3740والحاكم في المستدرك،
4/522، والبيهقي في معرفة السُّنن والآثار، ص 52، والخطيب في تاريخ بغداد
2\61 ، وصحَّحه الألباني في سلسلته برقم 599، 2/150
2-
يوسف القرضاوي : من أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا، القاهرة :
دار الشروق، ط 1، 1421هـ- 2001م، ص 13
3-
صحيح ـ عن أبي بن كعب : رواه أحمد(5\ 134)، وابن حبان (2\ 132)، والحاكم
في المستدرك (4\ 346)، والبيهقي في شعب الإيمان (5\ 334)، و أبو نعيم في
الحلية (1\ 255)، و صححه الألباني في الجامع الصغير (514)، و صحيح
الترغيب (1\6).
4-
صحيح ـ عن أنس : رواه الترمذي(5\ 152)، وأحمد(3\ 130)، وابن حبان(16\
209)، وأبو يعلى (6\ 380) ، وعن عمار : رواه الطيالسي في مسنده(90)،
والبزار( 4\ 244)، وصححه الألباني في الجامع الصغير (1080) وفي السلسلة
(5\ 355).
5-
صحيح ـ عن تميم الداري : رواه أحمد(4\ 103)، والحاكم في المستدرك(4\
477)، والبيهقي في سننه الكبرى (9\ 181)، والطبراني في مسند الشاميين(2\
79)، وصححه الألباني في السلسلة (1\ 32).
6-
صحيح ـ عن ابن عباس : رواه أبو داود(2\ 346)، وأحمد(1\ 321)، وابن حبان
(1\ 263)، وعن ثابت بن قيس بن شماس : رواه الطبراني في الكبير(2\ 71)،
والبيهقي في الكبرى(10\ 250)، وصححه الألباني في السلسلة(4\ 389).
7-
حسن ـ عن حذيفة : رواه أحمد(4\ 273)، والطيالسي في مسنده(58)، وصححه
الألباني في السلسلة(1\34) .
8-
صحيح ـ عن ثوبان : رواه مسلم 4\2323
9-
سيد قطب : أضواء من بعيد ، مجلة الفكر التونسية،العدد السادس ، السنة
الرابعة ، آذار " مارس " 1959م
10-
المناوي(عبد الرؤوف ): فيض القدير شرح الجامع الصغير(6 أجزاء)، مصر:
المكتبة التجارية الكبرى، ط 1 ، 1356، ج 9، ص 9
11-
يوسف القرضاوي : من أجل صحوة راشدة ، مصدر سابق، ص 25
12-
انظر
:
السابق،
ص 26.
13-
السابق
ص 27.
14-
المناوي(عبد الرؤوف ): فيض القدير ، مصدرسابق ، ج 9، ص 9.
*
للكاتب موقع على الشبكة العالمية ، وهو :
www.yakoute.com
ويمكن للقراء مراسلته من خلاله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق