هو الإمام الحافظ تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر المقدسي الجمَّاعيلي[1] ثم الدمشقي المنشأ الصالحي الحنبلي.
وُلِدَ بجمَّاعيل من أرض نابلس سنة 541 هـ، ونُسِب لبيت المقدس لقُرب جمَّاعيل منه ولأن نابلس وأعمالها جميعاً من مضافات البيت المقدس، ثم انتقل مع أسرته من بيت المقدس إلى مسجد أبي صالح خارج الباب الشرقي لمدينة دمشق أوَّلاً، ثم انتقلت أسرتُه إلى سفح جبل قاسيون فبنوا داراً تحتوي على عدد كبير الحجرات دُعِيَتْ بدار الحنابلة، ثم شرعوا في بناء أول مدرسة في جبل قاسيون وهي المعروفة بـ »المدرسة العمرية«، وقد عُرِفَتْ تلك الضاحية التي سكنوها بالصالحية فيما بعد نسبةً إليهم لأنهم كانوا من أهل العلم والصلاح.
حياته العلمية: اتَّجه الحافظ عبد الغني إلى طلب العلم في سن مبكرة، فتتلْمَذ في صغره على عميد أسرته العلامة الفاضل الشيخ محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو عمر، ثم تتلمذ على شيوخ دمشق وعلمائها فأخذ عنهم الفقه وغيره من العلوم.
رحلاته العلمية: كانت له رحلات علمية جابَ خلالها كثيراً من البقاع، وسمع فيها بدمشق والإسكندرية وبيت المقدس ومصر وبغداد وحرَّان والموصل وأصبهان وهمذان وغيرها.
سافر إلى بغداد مرتين ومصر مرتين، وكان ارتحاله إلى دمشق وهو صغير بعد سنة 550 فسمع بها من أبي المكارم ابن هلال وسلمان بن علي الرحبي وأبي عبد الله محمد بن حمزة القرشي وغيرهم، ثم رحل إلى بغداد سنة 561 مع ابن خاله الشيخ الموفق فأقاما ببغداد أربع سنين، وكان الموفق ميلُه إلى الفقه، والحافظ عبد الغني ميلُه إلى الحديث، فنزلا على الشيخ عبد القادر [الجيلاني] وكان يراعيهما ويحسن إليهما وقرءا عليه شيئاً من الحديث والفقه، وحكى الشيخ الموفق أنهما أقاما عنده نحواً من أربعين يوماً ثم مات عبد القادر، وأنهما كانا يقرآن عليه كل يوم درسين من الفقه فيقرأ هو من الخرقي من حفظه والحافظ من كتاب »الهداية«.
قال الضياء: وبعد ذلك اشتغلا بالفقه والخلاف على ابن المنِّي وصارا يتكلمان في المسألة ويناظران، وسمعا من أبي الفتح ابن البطي وأحمد بن المقرئ الكرخي وأبي بكر بن النقور، وعبد الله بن الحسن بن هلال الدقاق وأبي زرعة وغيرهم ثم عاد إلى دمشق.
ثم رحل الحافظ سنة 566 إلى مصر والإسكندرية وأقام هناك مدة سمع فيها من السِّلْفي، ثم عاد إلى دمشق ثم رحل أيضاً إلى الإسكندرية سنة 570 وأقام بها ثلاث سنين وسمع بها من الحافظ السِّلْفي وأكثر عنه، ومن أبي محمد بن بري النحوي وجماعة، ثم عاد إلى دمشق، ثم سافر بعدها إلى أصبهان وأقام بها مدةً وسمع بها الكثير. وسمع بهمذان والموصل، ثم عاد إلى دمشق. ولم يزل ينسخ ويصنِّف ويحدِّث ويفيد المسلمين، ويعبد الله حتى توفاه الله على ذلك.
وقد جمع فضائله الحافظ ضياء الدين في جزأين وذكر فيها أن الفقه مكي بن عمر بن نعمة المصري جمع فضائله.
حفظه: قال الحافظ الضياء: كان شيخنا الحافظ لا يكاد أحد يسأله عن حديث إلا ذكره له وبيَّنه وذكر صحته أو سقمه ولا يسأل عن رجل إلا قال: هو فلان بن فلان الفلاني ويذكر نسبه. وأنا أقول (يعني الضياء): كان الحافظ عبد الغني أمير المؤمنين في الحديث. وقال: وشاهدت الحافظ غير مرة بجامع دمشق يسأله بعض الحاضرين وهو على المنبر: اقرأ لنا أحاديث من غير أجزا فيقرأ الأحاديث بأسانيدها عن ظهر قلبه. وسمعت أبا سليمان الحافظ يقول: سمعتُ من بعض أهلنا يقول: إن الحافظ سئل لم لا تقرأ الأحاديث من غير كتاب؟ فقال: إني أخاف العُجْبَ.
ثناء العلماء عليه: لقد وصفه جمعٌ من العلماء بأوصاف كثيرة تنبئ عن تمكُّنه من علم الحديث ورجاله وصفاء سريرته وقوة اعتقاده وصلابته في السنة واتباعه لها، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وغضبه لانتهاك حدود الله لا تأخذه في الله لومة لائم.
قال ابن النجار عنه: حدَّث بالكثير وصنَّف في الحديث تصانيف حسنة وكان غزير الحفظ من أهل الإتقان والتجويد، قيِّماً بجميع فنون الحديث عارفاً بقوانينه وأصوله وعلله وصحيحه وسقيمه وناسخه ومنسوخه وغريبه وشكله وفقهه ومعانيه وضبط أسماء رواته ومعرفة أحوالهم، وكان كثير العبادة ورعاً متمسِّكاً بالسنة على قانون السلف..
وأثنى عليه الذهبي فقال: الإمام العالم الحافظ الكبير الصادق العابد الأثري المتَّبِع..
وقال سبط ابن الجوزي: كان عبد الغني ورعاً زاهداً عابداً يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة ويقوم الليل ويصوم عامة السنَة، وكان كريماً جواداً لا يدَّخِر شيئاً ويتصدَّق على الأرامل والأيتام حيث لا يراه أحد وكان يرقِّع ثوبه ويؤثر بثمن الجديد، وكان قد ضَعُف بصرُه من كثرة المطالعة والبكاء، وكان أوحد زمانه في علم الحديث والحفظ.
أوقاته: كان لا يضيع شيئاً من زمانه بلا فائدة، فإنه كان يصلي الفجر ويلقن الناس القرآن، وربما قرأ شيئاً من الحديث، ثم يقوم يتوضأ فيصلي نفلاً إلى قبل الظهر، ثم ينام نومة يسيرة إلى وقت الظهر، ويشتغل إما للتسميع بالحديث أو بالنسخ إلى المغرب، فإن كان صائماً أفطر بعد المغرب، وإن كان مفطراً صلى من المغرب إلى العشاء الآخرة، فإذا صلى العشاء نام إلى نصف الليل أو بعده، ثم قام كأن إنساناً يوقظه فيتوضأ ويصلي لحظة كذلك، ثم توضأ وصلى كذلك، ثم توضأ وصلى كذلك إلى قرب الفجر وربما توضأ في الليل سبع مرات، فقيل له في ذلك، فقال: ما تطيب لي الصلاة إلا ما دامت أعضائي رطبة. ثم ينام نومة يسيرة إلى الفجر، وهذا دأبه. وقال أخوه العماد: ما رأيت أحداً أشد محافظة على وقته من أخي.
مصنفاته: أورد له عبد الله البصيري، محقق أحد كتب المقدسي، 56 عنواناً للكتب التي صنفها الحافظ المقدسي، نذكر بعضها:
-كتاب »المصباح في عيون الأحاديث الصحاح« مشتمل على أحاديث الصحيحين فهو مستخرج عليهما بأسانيده في ثمانية وأربعين جزءً.
-كتاب »نهاية المراد من كلام خير العباد« لم يبيّض له، في السنن نحو مائتي مجلد.
-»تحفة الطالبين في الجهاد والمجاهدين«
-كتاب »الصفات« جزآن.
-كتاب »محنة الإمام أحمد« ثلاثة أجزاء.
-كتاب »فضائل مكة« أربعة أجزاء.
-كتاب »اعتقاد الإمام الشافعي« جزء كبير.
-»مناقب الصحابة« عدة أجزاء. وكتب أخرى كثيرة.[2]
وفاته: ما زال رحمه الله يتحف الأمة بعلمه وكتبه ورسائله القيمة ويعبد الله عز وجل ويدعو الناس إلى دينه حتى توفاه الله في يوم الإثنين 23 من شهر ربيع الأول سنة 600 للهجرة، وله 59 سنة. ودفن بمقبرة القرافة بمصر[3].
وقد رثاه غير واحد من الأئمة منهم الإمام أبو عبد الله محمد بن سعد المقدسي الأديب بقصيدة طويلة مطلعها:
هذا الذي كنتُ يومَ البَيْنِ أحتسبُ
فَلْيَقْضِ دمعي عنكَ بعضَ ما يجبُ
وقد خلّف من الولد عزَ الدين أبو الفتح محمد، وجمال الدين أبو موسى، وأبو سليمان عبد الرحمن، ثلاثتهم من العلماء رحمهم الله.
[1] نسبة إلى جمَّاعيل، وهي قرية في جبل نابلس من أرض فلسطين.
[2] انظر لائحة كتبه في مقدمة كتاب «عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي» بتحقيق عبد الله البصيري، والذي أقتبسنا منه ترجمة الحافظ المقدسي.
[3] اضطر الحافظ المقدسي اللجوء إلى مصر من الشام بعد أن امتُحِن في عقيدة، كحال بقية علماء أهل السنة والجماعة المجاهدين في زمن البدع والتخلف. انظر البداية والنهاية لابن كثير 13/39
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق