عامر
راشد
يخلص
الكاتب غور فيدال في كتابه
"تلفيق أمة" إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية الراهنة وإن لبثت
ديمقراطية ومُبشِرة بالديمقراطية، قد انتهت واقعياً إلى إمبراطورية، ما
يجعل من العسير نجاتها من قبضة الطغيان، فقد ألمَّ الفساد بالشعب
الأمريكي، وفي غياب الحكم الجمهوري لا مناص من سياسة توسع إمبريالي في
الخارج وطغيان في الداخل". ما ذهب إليه فيدال يلخص ما آلت إليه نهاية قصة
النجاح السريع وصعود الإمبراطورية الأمريكية بزمن قياسي ( ما يقارب قرناً
من الزمن) ، وشق طريقها بالاعتماد على عاملي التمدد الواسع والسريع في
القارات الخمس اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وتركيز القوة وعدم التورع عن
استخدامها إذا سنحت الفرصة لمجرد الترهيب، حتى لو لم تكن ثمة حاجة لذلك،
كما وقع في ناغازاكي وهوريشيما. وقصة النجاح والصعود الإمبراطوري
الأمريكي السريع قامت على بحر من دماء البشر، لم يسلم منها مواطنوها
الذين أزهق نصف مليون من أرواحهم في الحرب الأهلية الأمريكية، وستبقى
وصمة عار إلى الأبد في تاريخ القارة الأمريكية ككل، والولايات المتحدة
الأمريكية على وجه الخصوص، أن حروب المستعمرين البيض "غير المقدسة" أودت
بحياة الملايين من الهنود الحمر السكان الأصليين للقارة الأمريكية.
إن
العقلية الأمريكية منذ نشوء الولايات المتحدة الأمريكية بنيت وتربت على
الاستعلاء والهيمنة والقرصنة، وكان لها في هذا فرادتها أيضاً على حد وصف
الأستاذ محمد حسنين هيكل، حيث يشبه عقيدتها بعقلية القرصان"مورغان" الذي
أشتهر بمهاجمة سفن القراصنة، ويعلل هيكل تشبيهه بالقول:" الولايات
المتحدة ألأمريكية لا تشغل نفسها بالسيطرة على بلدان منفردة، وإنما تأخذ
أقاليم بالحزمة، ولا تبتلع الدول لقمة لقمة، بل تبتلع المائدة
الإمبراطورية بأكملها". والهجمة الأمريكية المركزة على الدول العربية
والإسلامية لا تخرج من عباءة عقلية القرصان "مورغان"، فحسب ما نظَّر له
برنارد لويس العقل المفكر لعصابة المحافظين الجدد تاريخ المنطقة العربية
والإسلامية هو من صنع تعاقب المستعمرين، وأن الصراع الذي تقوده الولايات
المتحدة الأمريكية ضد هذه الدول يندرج في إطار صراع الثقافات، وبعيد كل
البعد عن أي طابع أيديولوجي، لأن الشعوب العربية والإسلامية لم تصل بعد
إلى سن الرشد، ويستند لويس إلى ما سبق لينتهي إلى فكرة استعلائية مفادها،
أن كره المجتمعات العربية والإسلامية للولايات المتحدة الأمريكية، والغرب
عموماً، بسبب عدم ملائمة المجتمعات العربية والإسلامية، وليس عدم ملائمة
أمريكا والغرب.
دافيد
فروم كاتب خطابات الرئيس بوش الابن، وأحد صقور عصابة المحافظين الجدد،
كان أكثر جرأة في تحديد أسباب النزعة العدوانية للإمبراطورية الأمريكية
ضد الدول العربية والإسلامية، إذ يقول صراحة:" عجز المجتمعات العربية
والإسلامية عن تحديث نفسها أغرت الولايات المتحدة الأمريكية بالتدخل
العسكري في العراق وأفغانستان"، ولكن السؤال الذي لم يكلف فروم نفسه عناء
الإجابة عليه، هل حقاً أن الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان
يندرج في إطار ما تدعيه الولايات المتحدة الأمريكية من سعي لنشر
الديمقراطية؟!، أم يندرج في سياق ما ذهب إليه أستاذه برنارد لويس بضرورة
تفكيك الوعي العربي والإسلامي، كي يتلاءم مع مفاهيم العولمة المتوحشة
للإمبراطورية الأمريكية؟ .
محاكمة
نظريات عصابة المحافظين الجدد من خلال قراءة الوقائع على الأرض في العراق
وأفغانستان، وما أفرزته نتائج الحرب الإسرائيلية الدموية على لبنان
بإسناد مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية، والمواجهات المفتوحة مع
كوريا الشمالية وإيران، وفنزويلا وكوبا ، والصراع غير المعلن مع روسيا
والصين ..الخ، تؤشر وبوضح إلى فشل مشروع عسكرة العولمة الإمبراطورية
الأمريكية وفرض هيمنتها على العالم بقيادة عصابة المحافظين الجدد، كخيار
إستراتيجي يمكنه منع أو على الأقل حجب مؤشرات تراجع القوة الاقتصادية
والسياسية الأمريكية، وبدأت تُظهر ثقوباً سوداء في نظريتهم، سلطت الضوء
على قصر النظر المزمن الذي لازم السياسات الأمريكية كسمة عامة ، وازداد
بشكل غير مسبوق في عهد إدارة جورج بوش الابن. التي لم تأخذ في حساباتها
أن احتلال أفغانستان والعراق يرتب عليها توفير مستلزمات مادية وبشرية
طويلة الأمد، يعجز عن تلبيتها الاقتصاد والمجتمع الطفيلي الأمريكي، على
حد وصف الدكتور سمير أمين، فضلاً عن أن إدعاء نشر الديمقراطية وقيمها في
العالم يتطلب وجود سياسة مسئولة تتطابق مع القانون الدولي، وتنسجم مع
الدور المناط بالولايات المتحدة الأمريكية كدولة عظمى، وصاحبة التزام في
حفظ الأمن والسلم العالميين، وهذا ما افتقدت إليه على الدوام سياسات
الإدارات المتعاقبة في واشنطن.
إن قراءة
الأهداف المعلنة لعصابة المحافظين الجدد مع بداية الولاية الرئاسية
الثانية لجورج بوش الابن، كما حددها ديفيد فروم، وريتشارد بيرل، (وهما من
صقور العصابة)، تظهر فشلها الذريع، ووصولها إلى طريق مسدود، إذ تصاعدت
المقاومة الباسلة في العراق وفلسطين، وحققت المقاومة في لبنان نصراً
استثنائياً، ومضت كوريا الشمالية إلى انتزاع موقعها في نادي العسكرة
النووية، غير عابئة بالتهديدات الأمريكية، وفرضت الظاهرة التشافيزية
نفسها كحقيقة في أمريكا اللاتينية، ومسلسل نجاحات الحركات اليسارية
الأمريكية اللاتينية مستمر بشكل درامي في مواجهة الهيمنة الأمريكية،
وحصار كوبا أصبح أكثر صعوبة، ومنع روسيا من إعادة بناء دورها الكوني بات
غير ممكن بعد أن رممت روسيا اقتصادها، واحتواء التنين الصيني محض أوهام،
وإيران تواصل تحديها للضغوط الأمريكية والأوروبية.. الخ. ما سبق يدعم
استخلاصاً في غاية الخطورة، وهو أن الاندفاع الإمبراطوري الأمريكي نحو
المنطقة العربية والإسلامية نابع بالأساس من طبيعة بنية مجتمعاتها
وأنظمتها السياسية، التي تجعلها تشكل فريسة سهلة تسيَّل لعاب المجتمع
الطفيلي الأمريكي الذي يعاني من أزمات سياسية واقتصادية وثقافية مركبة،
بما في ذلك أزمة هوية بدأت تطفو على السطح، وهو ما جعل صموئيل هنتغتون
الأب الروحي لعصابة المحافظين الجدد يتخذ مسافة من تطبيقات نظريته حول
صراع الثقافات والحضارات، وينبذ فكرة إمكانية سيطرة الولايات المتحدة
الأمريكية على العالم، ويدعو إلى تركيز الاهتمام على التحدي الهيسباني (
ثقافة المهاجرين الأمريكيين المنحدرين من أصول أمريكية لاتينية ويتحدثون
الإسبانية)، الذي يهدد المجتمع الأمريكي بالانقسام إلى شعبين وثقافتين،
وغني عن القول أن دعوة هنتغتون لمحاربة الثقافة الهسبانية ذات جذر عنصري
واستعلائي .
ثقوب
سوداء تحيط بنظريات وسياسات عصابة المحافظين الجدد، تهددها وتهددهم
بالابتلاع، وإذا لم يمتلك العرب إرادة مقاومة مشاريع الهيمنة
الإمبراطورية الأمريكية، كما فعلت وتفعل كوريا وفنزويلا وكوبا وإيران،
فسوف ينتظرهم ما ادعاه برنارد لويس من أن تاريخ المنطقة العربية
والإسلامية كان وسيبقى من صنع المستعمرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق