د. أكرم حمدان
انقطاع الصلة بين المشرق والمغرب العربيين
فاجأني أن كثيراً من إخواننا المشارقة، حتى المثقفين منهم، لا يعرفون إلا
أقل القليل عن المغرب العربي، وما يدور فيه من أحداث ويشغل شعوبه من
هموم، ناهيك بمعرفة طبائع هذه الشعوب وثقافاتِها، والتواصل معها،
وإعطائها والأخذ عنها، ومعرفة ما عندها من معارف وآداب وعلوم وفنون
[1]
.
وزاد من وقع المفاجأة أنهم لا يشعرون في ذلك بالتقصير، أو يقع لهم أنّهم
غدوا، كغيرهم، من ضحايا الاستعمار
[2]
المشؤوم الذي حقق فيهم أمانيَّه وأحلامه، بتقطيع أوصال الأمة العربية
الإسلامية وتشتيتها شراذم متفرقة، لا تجمعها رابطة، ولا يشدها وثاق، بل
يجهل بعضها بعضاً، وينكر بعضها بعضاً، كأن لم تكن بينها يوماً صلة، ولا
ربط بينها يوماً رباط.
ولقد اتصل هذا الانقطاع، وامتدت حبائله، حتى تجاوز الأمر جهل المشرقي
بالمغربي، والمغربي بالمشرقي، إلى أن وقع في نفوس كل من الفريقين توجس من
الآخر، وتبرم به، وانعطاف عنه، ولا سيما من جانب المشارقة، وقد نَسُوا أن
إخوانَهم المغاربة لهم كالعضد للكف، والعمودِ للسقف، وأنـهم مثلهم عرب
مسلمون موحدون. إن شعوب هذه البلاد شعوب ضاربة في العروبة، فها هم أهل
تونس لم يكونوا يعرفون في القديم من الأزياء غير الزي العربي، ويمتاز أهل
الحواضر بلباس القفطان، والعمامة، والطيلسان، وهو شعار الشيوخ. وكان لبس
الجبة الواسعة من الأمور المحضورة بين أهل العلم. ولم يدخلها اللباس
الأوروباوي إلا في النصف الأول من القرن التاسع عشر على يد السلطان
العثماني محمود خان الثاني الذي لبس ذلك الزي وأصدر أمره لولاة الممالك
العثمانية وأمراء البلاد الممتازة ومنها تونس بإجراء العمل في بلادهم
بالأنظمة الجديدة التي رتبها الباب العالي وكان في جملتها اللباس
الأوروباوي
[3].
ولا يستثنى من ذلك إلا ما كان ويكون من بعض المؤتمرات العلمية واللغوية،
أو اللقاءات الفكرية والسياسية، التي يقتصر أثرها على نفر من كلا الطرفين
يسير، وأما عموم الناس فهم عنها غافلون.
ولقد أحسن القائمون على قناة الجزيرة صنعاً أن جعلوا لبلاد المغرب
العربي من بثهم نصيباً مفروضاً، وسلطوا الضوء على قضايا تلك البقعة من
الوطن العربي. ولقد صدق أمين الريحاني الذي رأى أن التنافر بين هذه
البلاد "مصدره الجهل والتباعد" وأنه "لا يزيله سوى التقارب فالتفاهم
فالحب، فسلسلة من الكتب تعنى بأحوالها كلها وتعرض لجميع مناحي الخير
والضعف فيها تكون خير سفير لتعاطف هذه الأقطار وتقاربِها ووحدتِها".
ضعف
اللغة العربية في بلاد المغرب العربي
وأكد هذا الانقطاع ضعف المغاربة عموماً في اللغة العربية، وعجمة أصابتهم
من أثار الفرنسيين والأسبان، ولا سيما مع الاختلاف الكبير في العادات،
والبون الشاسع في اللهجات، حتى إن المشرقي لا يكاد يفهم مما يقول المغربي
شيئاً. كما رسخه انشغال المشارقة بهمومهم، وتضييق حكوماتهم عليهم، وقصر
باعهم عن السفر والترحال، وانصرافهم إلى شؤون معاشهم. ولقد وقعت بعد أن
خططت هذه الكلمات على كلمة لأمين الريحاني في الفصل الثاني عشر من كتابه
عن المغرب الأقصى، والذي تناول فيه موضوع نهضة التعليم، إذ ابتدأه بقوله:
"إن عرب المشرق ليجهلون ما في المغرب الأقصى"، ثم أكد ذلك بقوله: "أما
جهلنا في سورية مثلاً، أو في العراق وشبه الجزيرة لشؤون المغرب، فهو أكثر
من جهل المغاربة لشؤوننا"
[4].
وزاد الطين بِلة ضعف حكومات تلك البلاد، وعدم جديتها في نشر العربية
ورعايتها، وانصرافها إلى أمور أخرى أدنى أهمية وأقل نفعاً. ثم ما ابتلانا
الله به من الأذناب "الفرانكفون" الذين هم أشد خطراً وأعظم فساداً
وإفساداً، ناهيك بما يقع اليوم من الضرب على وتر العرقيات والأقليات
المختلفة، كالأقلية الأمازيغية في الجزائر، التي قامت فيها نخب تنادي
بنبذ العربية والرجوع إلى البربرية بعد أن طهر الله ألسنتها منها، وهذا
هو دأب المستخربين في كل زمان ومكان، أما ما يبذل من جهود متفرقة فتذهب
به رياح العامية الطاغية، وتكريس اللغات الأجنبية عبر الأقمار الصناعية،
والمحطات الفضائية، التي أحكمت السيطرة على مناطق كاملة من تلك البلاد،
كشمال المغرب مثلاً، فإنه لا تكاد تصله المحطات المغربية، بينما يستطيع
أهله مشاهدة المحطات الأسبانية وكأنـهم في مدريد أو لشبونة.
إن ما تحقق من القطيعة بين شعوب هذه البلاد التي تتكلم لغة واحدة، وتدين
بدين واحد، ويجمعها تاريخ واحد لهو فوق ما كان ينتظره المستعمر، ووراء ما
كان يطمع فيه، ذلك بأن هذه القطيعة تجاوزت بعد المسافة لتقع بين الجيران
أنفسهم، كالمغرب والجزائر، بما نزغ بينهما شيطان الاستعمار، وأوقع بينهما
عبر مشكلة الحدود التي لا يزال يذكي جذوتَها، ويوسع دائرتَها، والقوم عن
كل ذلك غافلون، أو به راضون.
إنه لمن المؤسف حقاً أنه لا يكاد يكون ثمة صلة بيننا وبين المغرب على
الصعيد الثقافي، حتى في زمن الدعوة للقومية العربية، إلا ما كان من بعض
الاجتهادات الفردية المبعثرة، وجل ما كنا نعرفه نثار متفرقة عن حركة ابن
باديس في الجزائر، وبضعة شعراء من هنا ومن هناك، كأبي القاسم الشابي
وبيرم التونسي إن أقررنا بتونسيته. أما المغرب الأقصى، فإما استثنينا
خارطة الوطن العربي وما كان يلقنه معلم الجغرافيا للتلاميذ من أسماء
الأقطار وعواصمها وصادراتها ووارداتِها، فلا أذكر أنهم كانوا يدرسوننا
عنه شيئاً قل أو كثر.
ضرورة التواصل اللغوي بين المشرق والمغرب العربيين
لقد بتنا نعيش في زمن التكتلات الكبرى، التي لا تقيم للضعيف وزناً، وباتت
شعوب العالم تدرك أهمية التوحد والتكتل، وخطر التشرذم والتفرق، حتى رأينا
دولاً تتوحد وليس بينها من دواعي التوحد معشار ما بين المشرق والمغرب
العربيين، فها هي ذي دول أوروبا، بأعراقها المختلفة، ولغاتها المتباينة،
وتاريخها الذي تفوح منه روائح الدماء وثقافة الحروب، تصنع اتحاداً قوياً،
جدد لها دماء حياتها، وأمد في عمرها بعد أن أوشكت على الهرم، متناسية ما
كان بينها من بغض وشنآن، ومتخطية عقبة تباين لغات أقوامها، بما تدرسه من
المناهج وتقوم به من الترجمات.
ومن هنا، فعلى كل غيور على هذه اللغة الشريفة أن يبادر من موقعه بفتح
خطوط تواصل مع إخواننا في المغرب العربي، وألا ينتظر من الحكومات فعل
ذلك، فإنما الميت ميت الأحياء. أما الأكاديميون، فيجب أن يشجعوا الطلاب
على التعرف على الأدباء والكتاب المغاربة الذين أسهموا في مسيرة الحضارة
والفكر الإنساني، وعلى القراءة لهم ضمن حملة القراءة والتوعية العامة،
وهو أمر لم تعد تحول دونه الحواجز التي صنعتها يد البشر ممن لا يحبون
الخير، ولا سيما مع ثورة الاتصالات التي أحالت العالم إلى قرية صغيرة.
إعادة قراءة تاريخ المنطقة
بل وفي هذا دعوة لأبناء المشرق العربي لإعادة قراءة تاريخ خلفائنا
الراشدين الكبار الذين كانت لهم في فتح أفريقية صولات وجولات، لأن فتح
المغرب من أعظم أعمال الفتوح التي قام بها عرب الأجيال الأولى، وأكثرها
بركة، وأدلها على ما تميزت به تلك الأجيال من عزيمة وقوة بأس وإيمان وشدة
مراس وقوة شكيمة، فكلما انـهزم جيش أتى جيش، في فتوح دامت حوالي سبعين
سنة، بذل العرب خلالها ما يعادل ما بذل في المشرق
[5].
هذه الفتوح التي ترجع إلى زمن سيد الشهداء عمر بن الخطاب، وذي النورين
عثمان بن عفان، ثم كبار القادة من أمثال عمرو بن العاص وعبد الله بن سعد
بن أبي سرح وعبد الله بن نافع بن عبد القيس وغيره من كبار الصحابة
وفقهائهم، ثم معاوية بن أبي سفيان ثم عقبة بن نافع مؤسس مدينة القيروان
[6]
وصاحب النظر البعيد والأفق الواسع والمواهب النادرة، والعبقري الذي قام
بمهته العظيمة التي شهدت له بِها إفريقية واهتزت له بـها أعطاف التاريخ،
والفذ الذي لم يستقر الإسلام في إفريقية إلا على يديه، بل الذي "نشر
الإسلام بموته أكثر من نشره إياه في حياته"
[7]
تغمده الله برحمته.
فلنعرف تلاميذنا بعقبة ومن جاء بعده من القادة البواسل، الذين انتقموا
لعقبة ورجاله، ومنهم زهير بن قيس البلوي قائد عقبة الذي تولى بعده، ثم
حسان بن النعمان الغساني، ثم القائد الشهير والفاتح الأكبر لإفريقية موسى
بن نصير، الذي أرسى دعائم الملك العربي الإسلامي في المغرب، وأنشأ ولاية
السوس التي سميت أيضاً ولاية سجلماسة، وأقام قائده طارق بن زياد قائداً
على حامية طنجة، ومن هناك ابتدأ فتح الأندلس الذي يعد تاجاً لفتوح
المسلمين في الغرب. أجل، ليتعرف التلاميذ على هذه الأسماء، ولتربط في
أذهانهم ببلاد المغرب العربي، فإن في ذلك فائدة، ولا سيما مع حسن العرض،
والاستعانة بوسائل التوضيح، من الخرائط والصور والأصوات وما إلى ذلك.
على أن نفراً غير يسير من التابعين من حملة العلم ورواة الحديث دخلوا
إلى إفريقية وأقاموا فيها، ومن مشاهيرهم يحيى بن سعيد بن قيس بن قهد (كذا
بالقاف) الأنصاري، وجده قهد من الصحابة المعروفين، كانت ابنته خولة
متزوجة من حمزة بن عبد المطلب، وولد يحيى بالمدينة المنورة، وروى الحديث
عن أنس بن مالك، والسائب بن يزيد، وعمرة بنت عبد الرحمن وروى عنه غالب
الأئمة المجتهدين: مالك بن أنس، وأبي حنيفة النعمان، والأوزاعي، والليث
بن سعد، والزهري، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج،
وغيرهم كثير.
وقد دخل يحيى إفريقية على رأس القرن الثاني للهجرة، أرسله إليها الخليفة
عمر بن عبد العزيز عاملاً على الصدقات خاصة، ولعله كان من جملة التابعين
الموجهين لتفقيه الأفارقة في الدين، ونزل يحيى بمدينة تونس وجالس بها
خالد بن أبي عمران التجيبي، وأخذ كل واحد منهما عن صاحبه، كما سمع منه
خلق كثير من أبناء تونس في مدة إقامته بينهم ودونوا عنه، فقد أقام ثمة
أكثر من عشر سنين، بث في أثنائها علماً إسلامياً كثيراً وأخلاقاً فاضلة.
إن معرفة تاريخ الإسلام والمسلمين في المغرب العربي أنفع للطالب وأجدى من
معرفته تاريخ الإمبراطورية الإنجليزية الظالمة، أو الفرنسية الآثمة، أو
إضاعة وقته بتاريخ الفراعنة والهكسوس، ومعرفة خوفو وخفرع ومنقرع
[8]،
ولو لم ينله من تلك المعرفة إلا شعور بأن له في تلك البقاع المباركة
بالإسلام امتداداً جغرافياً وتاريخياً، يشحذ همته ويقوي عزيمته، لكفى
وأربى. ولا يكون الأمر كذلك إلا إذا قُدِّم هذا التاريخ على وجهه، وأُحسن
عرضُه، ودُرِّس على أنه علم من العلوم المهمة، ومادة من المواد الأساسية،
لا على أنه قصصٌ تُحكى وأخبارٌ تتناقل، ومندوحة للوضاعين والأفاكين
والمدلسين، كما وقر في كثير من النفوس، واستقر في العديد من الأذهان.
إن من حق الأجيال الناشئة علينا أن نعزز فيها الشعور بأن لها في المغرب
العربي إخوة، وفي الجزائر وتونس، وفي طنجة ومراكش، والزيتونة وتطوان،
وطرابلس والقيروان وصفاقس، يفرحون لفرحهم ويحزنون لحزنِهم ويشاطرونَهم
هموم الحياة وألامها وآمالها، وأنّهم يؤذيهم ضياع فلسطين، وما يقوم به
يهود من هتك وقتل وتخريب، وأن كثيراً منهم لو كان لهم من الأمر شيء ما
قعدوا عن نصرتِهم بالمال والأنفُس والأولاد. ولا يهولَنَّك ما تعرضه بعض
القنوات الفضائية في تلك البلاد من مشاهد لا تسر الأبرار من الناظرين،
فإنّها لا تعكس حقيقة تلك الشعوب، ولا تتكلم بألسنتها، ولا تعبر عن
آمالها وآلامها، وإنما هي تبع لأولئك الذين حبطت أعمالهم، وهم يحسبون
أنّهم يحسنون صنعاً.
ذلك أن الشعوب في عمومها للدين أقرب، وعليه أحرص، ودونك كلمة صورت حال
هذه الشعوب في يوم من الأيام، ولعلها تمثلهم في هذه الأيام كذلك، لو أنهم
وجدوا القدوة الحسنة، والقيادة الراشدة، تلك كلمة العلامة الجليل محمد
المختار بن الأعمش الجكني الذي كان يقيم بتيندوف في رسالته التي بعث بِها
إلى السلطان محمد بن عبد الرحمن يبايعه فيها عن نفسه وقبيلته، إذ قال:
"وقد بايعناك على السمع والطاعة، ولزوم السنة والجماعة، والتمسك بالدعوة
ببقائها إلى قيام الساعة، في الرضى والسخط، والمكره والمنشط، والعسر
واليسر، والقل والكثر، والشدة والرخاء، والسراء والضراء، وعلى ما بويع به
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاؤه الراشدون..."
[9]
ومن تمام ذلك أن يجتهد القائمون على المكتبات في المدارس والجامعات
بالتعاون مع المختصين باستجلاب الكتب التي تتناول المغرب العربي، تاريخاً
وحاضراً، ثقافة وفنوناً، وهذه الكتب كثيرة كثرة غامرة، ولتذع الكتب التي
تعرف بأعلام المغرب، كموسوعة أعلام المغرب، ومعجم المؤلفين التونسيين.
كما أحب أن أذكر القائمين على تدريس مادة الأدب الحديث في الجامعات بكتاب
رحالة العرب في العصر الحديث، الأديب الكبير أمين الريحاني، عن المغرب
الأقصى، وأدعوهم لفرض قطع منتخبة منه على طلاب كلية الآداب.
كما أنصح أصحاب المكتبات أن يفتحوا خطوطاً تجارية مع دار الغرب الإسلامي
"التي تبذل جهوداً مشكورة لبناء جسور ثقافية بين مشرق الوطن العربي
ومغربه وتختصر المسافات لقرائها بتوليها انتقاء ما يخدم أواصر الحضارة
العربية، وينسج خيوطاً من التكامل والتواصل، ويفتح كوى من المعرفة بين
الأقطار العربية، تأكيداً لوحدة الثقافة العربية وتماثل إبداعها وتنوعه"
[10].
ويحسن بنا ما دمنا في هذا السياق أن نذكر، لمن شاء الوقوف على تاريخ
الجزائر الثقافي، كتاب الدكتور أبي القاسم سعد الله، فقد وضع تحت هذا
العنوان كتاباً كبيراً، نشرته دار الغرب الإسلامي في تسعة مجلدات، يحسن
بالمكتبات العامة أو مكتبة الجامعة أن تقتنيه. وقد أماط اللثام فيه عن
حقبة من أشد الحقب التباساً في تاريخ الجزائر، وهي حقبة العهد العثماني
الذي يمثل ثلاثة قرون من تاريخ ذلك البلد الحبيب، والتي اعتاد الناس على
وصمها بالفراغ الثقافي والعقم الفكري، إرسالاً للكلام على عواهنه، من غير
تحقيق ولا تدقيق، فجاء بالدليل على حيوية الحياة الثقافية في ذلك العهد،
ووفرة الإنتاج الفكري والأدبي فيه.
غير أنه من المسلمات أن الثقافة في الجزائر عانت من اضطهاد رهيب بعضه
راجع إلى العهد التركي، وأغلبه ناجم عن الاستعمار الفرنسي الذي كان يهدف
إلى استعمار استيطاني، إذ تفنن المستعمرون في استخدام الأساليب المختلفة
لتجريد الشعب الجزائري من هويته الثقافية المتمثلة في الثقافة العربية
الإسلامية وبدله عوضاً عنها ثقافة فرنسية مسيحية، وقد قابلت نفراً من
كبار السن من الجزائريين المقيمين في باريس أثناء زيارتي الأولى لها،
فآلمني أن أرى بعيني وأسمع بأذني ما حققه الفرنسيون في ذلك الجيل من
أبناء هذا الشعب الشقيق، إذ وجدتُهم لا يحسنون من العربية شيئاً، ولا هم
يكادون يبينون، وإنما يرطنون بالفرنسية، ويقرؤون بـها ويكتبون.
قصيدة
محمد مهدي الجواهري في الجزائر
وأحب أن أذكر إخواننا المشارقة بقصيدة عصماء دبجتها يراعة الشاعر الكبير
محمد مهدي الجواهري يخاطب فيها الجزائر، وهي قصيدة طويلة تربو أبياتُها
على مائة بيت، تفيض حماسة وتحرقاً ودعوة واستحضاراً لمجد أثيل، وإني أدعو
القارئ الكريم أن يقرأ معي هذ الأبيات مرة ومرة ومرة، وأن يرفع بِها
عقيرته، كما أدعو أساتذة الأدب الحديث في الجامعات أن يقرروا مثل هذه
القصائد على طلابـهم، دراسة وحفظاً، فمثل هذه القصائد أجدى على الطالب من
كثير من شعر الطلاسم والتعميات، ولا سيما في هذا الزمن الذي نحن أحوج ما
نكون فيه إلى ما يشد الأزر ويشحذ العزم ويقوي الهمة، يقول الشاعر:
رِدِي عَلْقمَ الموتِ لا تَجزعي
*ولا ترهبي جَمرةَ المصرعِ
فما سُعِّرَتْ جَمَرَاتُ الكِفـا * حِ لغَيرِ خليقٍ بِها أروعِ
ولا تَهِني إن سومَ الفَخـا * رِ يَشُقُّ على الهيِّنِ الطيِّعِ
دعي شَفَراتِ سُيوفِ الطُّغاةِ * تُطَبِّقُ منكِ على الْمَقطعِ
فأنشودةُ المجــد ما وُقِّعَت * علـى غير أَوْرِدَةٍ قُطّـعِ
وخلي النفوسَ العِذابَ الصلاب * تَسيل على الأَسَل الشُّرَّعِ
فســاريةُ العـلمِ المســـــتقلِّ بغيـر يــدِ الـمـوتِ لم تُرفـعِ
ومُدِّي يداً لِمَجَــرِّ النُّـــجُوم * وأُخــرى إلى الْجَدَثِ
البَلْقعِ
فإنك والموتُ دونَ الحيـاضِ * صنوانِ للشـرف الأرفعِ
رِدِي علقمَ الموت بئسَ الحياةُ * تُرَنَّقُ بالذل من مَكـرعِ
وفيها يقول محيياً ذكرى البطل الكبير عقبة بن نافع فاتح بلاد المغرب،
ومذكراً بأمجاد الإسلام العظيم، وانبعاث الأمة العربية على عهد الرسالة
الإسلامية، وانغمار بلاد المشرقين وعواصمها وجنّاتُها بنور الثقافة
والحضارة المنطلق من جزيرة العرب القاحلة البلقع:
"جزائرُ" يا كوكبَ المشرقَيـ*ـن دجا الشرقُ من كُربةٍ فاطلُعي
ويا عَقِبَ العـرب الْمُغْرِبين * أعيدي صدى "عُقبةٍ" تُسمعــي
أجدّي عهوداً عفـتْ وابعثي * نوافـــحَ من ســفرها الممتعِ
إذِ الحقُّ يغمر من بلقـــعٍ * ربى الخلد في مسكـــه الأضوعِِ
وإذ "يثرب" تُلهب المشرقيـ * ـنِ بالعبقـــــري وبالألمعي
وإذ يهــزأ البدويُّ الأميـ * ـنُ من تاج قيصــــرَ أو تُبَّعِ
ويقول:
"جزائر" يا جدثَ الغاصبين * بوركت في الموت من مربع
ويا نبعةَ الصُّبُرِ الصامـدين * لوَتْها الرياحُ ولم تقطــعِ
تعاصت فلم تعط من نفسها * لنكبة جزعاء من زعــزع
ثبي.. فمناط رجاء الشعوب * وموت الطواغيت أن تفرعي
ويقول صابّاً جام غضبه على فرنسا الظالمة المتوحشة، ومبيناً كذبَها
وافتراءها في ادعائها صون الحقوق والحريات:
"جزائرُ" سامَكِ خسفَ الهوان * شـرعٌ لمثلـك لم يُشـرعِ
وسفرٌ به الْمُثُلُ الصــالحا * تُ رُدَّت إلى الخلق الأوضع
أذيلـت صحائفــه النيرا * تُ وديست وليثت بمستنقع
مشت لك "باريس" أم الحقو * قِ! وحشاً يدب على أربعِ
تمزق أظفـــاره أمــةً *بحق الحيــاة لهـا تدعي
"فرنسا".. وما أقبح المدعى * كِذاباً، وما أخبـث المدعي
فداء لمقصـــلة الثائرين * مجازر للشيب والرضــع
لك الويل من رائم أُطعمت * دم الراضــعين ولم تشبعِ
لك الويل فاجرةً علَّقت * "صليبَ المسيح" على المخدع
تَهدم "بستيل" في موضعٍ * وتبني "بساتيلَ" في موضعِ
أمِنْ "مشعل النور" ما تحرقين * أباة على الضيم لم تربعِ؟
ومن يوم "تموز" ما ترسلين * شواظاً على هُلَّعٍ فُزَّعِ
ومن "مطبخ" الثورة المدعا * ة ما رحت تطهين للجوَّعِ
فيا سوأة الدهر لا تطلعي * ويا بؤرة الغدر لا تنبعي
ويا قرحة في صميم الشعو * ب قيئي صديدك واستبضعي
تواري فإن هوان الحيا * ء والطهر والعدل أن تطلعي
وظلي بحيث يظل الغرا * ب يحدج في جثث وقع
[1]
وقد وقفت على تأكيد لهذه الحقيقة عند كثيرين، منهم أمين الريحاني في
كتابه عن المغرب الأقصى، ومنهم أيضاً الدكتور الطناحي رحمه الله، وقد
افتتح حديثه عن نشر التراث في المغرب في كتابه الماتع "مدخل إلى نشر
التراث العربي" بقوله: يشكو المغاربة المعاصرون من أن إخوانهم في
المشرق لا يعرفون عنهم إلا النزر اليسير، في حين أنهم يعرفون عنهم كل
شيء. ص 186.
[2]
هذه الكلمة نفسها من آثار ذلك الغزو البشع. والأولى أن نطلق عليه
الاستخراب.
[3]
انظر: صفحات من تاريخ تونس 275
[4]
أمين الريحاني، الرحلات: المغرب الأقصى، نور الأندلس. 175.
[5]
أطلس تاريخ الإسلام 135
[6]
القيروان
لفظ فارسي معرّب معناه محط الجيش ومناخ القافلة وموضع اجتماع الناس
في الحرب.
[7]
أطلس تاريخ الإسلام 135
[8]
لا
يفهمن فاهم أن في كلامنا هذا دعوة لإغفال التاريخ الإنساني، وإنما أن
تكون هناك أوليات.
[9]
مظاهر
يقظة المغرب الحديث 1/51.
[10]
الشعر
التونسي المعاصر، مقدمة الطبعة الثالثة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق