للوزير العباسي أحمد بن فضلان
سنة
309 للهجرة
قال
أحمد بن فضلان رحمه الله:
ورأيت الروسية وقد وافوا في
تجارتهم، ونزلوا على "نهر إتل"[1]
فلم أرَ أتمّ أبداناً منهم كأنهم النخل،
شقر حمر، لا يلبسون القراطق ولا
الخفاتين ولكن يلبس الرجل منهم كساء
يشتمل به على أحد شقيه، ويخرج إحدى يديه
منه. ومع كل واحد منهم فأس وسيف وسكين لا
يفارقه جميع ما ذكرنا.
وسيوفهم صفائح مشطّبة أفرنجية. ومن
حدّ ظُفر الواحد منهم إلى عنقه مُخْضَرّ
شَجَرٌ وصُوَر، وغير ذلك.[2]
وكل
امرأة منهم فعلى ثديها حُقّة مشدودة إما
من حديد وإما من فضة، وإما من نحاس، وإما
من ذهب، على قدر مال زوجها ومقداره.
وفيكل حُقّة حلقةٌ فيها سكين مشدودة على
الثدي أيضاً. وفي أعناقهن أطواق من ذهب
وفضة، لأن الرجل إذا ملك عشرة آلاف درهم
صاغ لامرأته طوقاً، وأن ملَكَ عشرين
ألفاً صاغ لها طوقين، وكذلك كل عشرة
آلاف يزدادها طوقاً لامرأته. فربما كان
في عنق الواحدة منهن الأطواق الكثيرة.
وأجلّ الحلي عندهم الخزر الأخضر من
الخزف الذي يكون على السفن يبالغون فيه،
ويشترون الخرزة بدرهم، وينظمونه عقوداً
لنسائهم. وهم أقذر خلق الله لا يستنجون
من غائط ولا بول، ولا يغتسلون من جنابة،
ولا يغسلون أيديهم من الطعام، بل هم
كالحمير الضالة، يجيئون من بلدهم
فيُرسون سفنهم بإتل، وهو نهر كبير،
ويبنون على شطه بيوتاً كباراً من الخشب.
ويجتمع
في البيت الواحد العشرة والعشرون
والأقل والأكثر. ولكل واحد سرير يجلس
عليه، ومعهم الجواري
الروقة للتجار، فينكح الواحد جاريته
ورفيقه ينظر إليه. وربما اجتمعت الجماعة
منهم على هذه الحال بعضهم بحذاء بعض.
وربما يدخل التاجر عليهم ليشتري من
بعضهم جارية فيصادفه ينكحها فلا يزول
عنها حتى يقضي أربه.
ولا
بد لهم في كل يوم من غسل وجوههم ورؤوسهم
بأقذر ماء يكون وأطفسه. وذلك أن الجارية
توافي كل يوم بالغداة، ومعها قصعة كبيرة
فيها ماء، فتدفعها إلى مولاها فيغسل
فيها يديه ووجهه، وشعر رأسه فيغسله
ويسرّحه بالمشط في القصعة، ثم يتمخط
ويبصق فيها، ولا يدع شيئاً من القذر إلا
فعله في ذلك الماء، فإذا فرغ مما يحتاج
إليه حملت الجارية القصعة إلى الذي
جانبه ففعل مثل فعل صاحبه، ولا تزال
ترفعها من واحد إلى واحد حتى تديرها على
جميع من في البيت. وكل واحد منهم يتمخط
ويبصق فيها ويغسل وجهه وشعره فيها.
وساعة
توافي سفنهم إلى هذا المرسى يخرج كل
واحد منهم ومعه خبز ولحم وبصل ولبن
ونبيذ، حتى يوافي خشبة طويلة منصوبة،
لها وجه يشبه وجه الإنسان، وحولها صور
صغار، وخلف تلك الصور خشب طوال قد نصبت
في الأرض، فيوافي إلى الصورة الكبيرة
ويسجد لها، ثم يقول لها: "يا ربّ قد
جئتُ من بلد بعيد، ومعي من الجواري كذا
وكذا رأساً، ومن السمّور كذا وكذا جلداً"،
حتى يذكر جميع ما قدم معه من تجارته. ثم
يقول: "وجئتُكَ بهذه الهدية" – ثم
يترك الذي معه بين يدي الخشبة- ويقول:
"أريد أن ترزقني تاجراً معه دنانير
ودراهم كثيرة فيشتري مني كل ما أريد ولا
يخالفني فيما أقول"؛ ثم ينصرف.
فإذا تعسر عليه بيعه وطالت أيامه،
عاد بهدية ثانية وثالثة، فإنْ تعذر ما
يريد، حمل إلى كل صورة من تلك الصور
الصغار هديةً، وسألها الشفاعة، وقال:
"هؤلاء نساء ربنا وبناته وبنوه"،
لا يزال يطلب إلى صورة صورة يسألها،
ويستشفع بها ويتضرع بين يديها، فربما
تسهّل له البيع فباع، فيقول: "قد قضي
ربي حاجتي، وأحتاج أن أكافيه". فيعمد
إلى عدة من الغنم أو البقر فيقتلها
ويتصدق ببعض اللحم،
ويحمل الباقي فيطرحه بين يدي تلك الخشبة
الكبيرة والصغار التي حولها. ويعلق رؤوس
البقر أو الغنم على ذلك الخشب المنصوب
في الأرض. فإذا كان الليل وافت الكلاب
فأكلت جميع ذلك، فيقول الذي فعله: "قد
رضي ربي عني وأكل هديّتي!"
*
*
*
وإذا
مرض منهم الواحد ضربوا له خيمة ناحيةً
عنهم، وطرحوه فيها، وجعلوا معه شيئاً من
الخبز والماء، ولا يقربونه ولا
يكلمونه، بل لا يتعاهدونه في كل أيام
مرضه لا سيما إن كان ضعيفاً أو مملوكاً.
فإن برئ وقام رجع إليهم،
وإن مات أحرقوه، فإن كان مملوكاً
تركوه على حاله تأكله الكلاب وجوارح
الطير.
وإذا
أصابوا سارقاً أو لصاً جاءوا به إلى
شجرة غليظة وشدوا في عنقه حبلاً وثيقاً
وعلّقوه فيها، ويبقى معلقاً حتى يتقطع
من المُكث بالرياح والأمطار.
وكان
يقال لي إنهم يفعلون برؤسائهم عند الموت
أموراً أقلها الحرق. فكنت أحب أن أقف على
ذلك، حتى بلغني موتُ رجل منهم جليل،
فجعلوه في قبره، وسقفوا عليه عشرة أيام
حتى فرغوا من قطع ثيابه وخياطتها.
وذلك
أن الرجل الفقير منهم يعملون له سفينة
صغيرة، ويجعلونه فيها ويحرقونها.
والغني يجمعون ماله، ويجعلونه ثلاثة
أثلاث. فثلث لأهله، وثلث يعطعون له به
ثياباً، وثلث ينبذون به نبيذاً يشربونه
يوم تقتل جاريتُه نفسها، وتُحرَق مع
مولاها.
وهم مستهترون بالنبيذ يشربونه
ليلاً ونهاراً، وربما مات الواحد منهم
والقدح في يده. وإذا مات الرئيس منهم قال
أهلُه لجواريه وغلمانه: "من منكم يموت
معه؟" فيقول بعضهم: "أنا" فإذا
قال ذلك فقد وجب عليه، لا يستوي له أن
ترجع أبداً، ولو أراد ذلك ما تُرِك،
وأكثر من يفعل هذا الجواري.
فلما
مات ذلك الرجل الذي قدمت ذكره قال
لجواريه: "من يموت معه؟" فقالت
إحداهن: "أنا". فوكّلوا بها جاريتين
تحفظانها وتكونان معها حيث سلكت، حتى
أنهما ربما غسلتا رجليها بأيديهم.
وأخذوا في شأنه وقطع الثياب له، وإصلاح
ما يحتاج إليه، والجارية في كل يوم تشرب
وتغني فرحة مستبشرة.
فلما كان اليوم الذي يُحرَق فيه هو
والجارية، حضرت إلى النهر الذي فيه
سفينته، فإذا هي قد أخرجَت وجعل لها
أربعة أركان من خشب الخدنك وغيره، وجعل
أيضاً حولها من الأنابير الكبار[3]
من الخشب، ثم مُدّت حتى جعلت على ذلك
الخشب. وأقبلوا يذهبون ويجيئون
ويتكلمون بكلام لا أفهم، وهو بعدُ في
قبره لم يخرجوه. ثم جاءوا بسرير فجعلوه
على السفينة وغشّوه بالمضرّبات الديباج
الرومي والمساند الديباج الرومي، ثم
جاءت امرأة عجوز يقولون لها ملك الموت،
ففرشت على السرير الفرش التي ذكرنا، وهي
وليت خياطته وإصلاحه، وهي تقتل
الجواري؛ ورأيتها جوان بيرة،[4]
ضخمة، مكفهرّة.
فلما وافوا قبره نحّوا التراب عن
الخشب ونحّوا الخشب، واستخرجوه في
الإزار الذي مات فيه، فرأيته قد اسودّ
لبرد البلد، وقد كانوا جعلوا في قبره
نبيذاً وفاكهة وطنبوراً، فأخرجوا جميع
ذلك، فإذا هو لم ينتن ولم يتغير منه شيء
غير لونه.
فألبسوه سراويل وراناً وخفّاً
وقرطقاً وخفتان ديباج له أزرار ذهب،
وجعلوا على رأسه قلنسوة ديباج سمّورية.
وحملوه حتى أدخلوه القبة التي على
السفينة، وأجلسوه على المضرّبة وأسندوه
بالمساند وجاءوا بالنبيذ والفاكهة
والريحان فجعلوه معه.
وجاءوا بخبز ولحم وبصل فطرحوه بين
يديه، وجاءوا بكلب فقطعوه نصفين،
وألقوه في السفينة. ثم جاءوا بجميع
سلاحه فجعلوه إلى جانبه، ثم أخذوا
دابتين فأجروهما حتى عرقتا، ثم قطعوهما
بالسيف وألقوا لحمهما في السفينة.
ثم جاءوا ببقرتين فقطعوهما أيضاً
وألقوهما فيها. ثم أحضروا ديكاً ودجاجة
فقتلوهما وطرحوهما فيها.
والجارية التي تريد أن تقتل نفسها
ذاهبة وجائية تدخل قبة قبة من قبابهم،
فيجامعها صاحب القبة، ويقول لها: "قولي
لمولاك إنما فعلتُ هذا من محبتك!"
فلما كان وقت العصر من يوم الجمعة،
جاءوا بالجارية إلىشيء قد عملوه مثل
ملبن الباب، فوضعت رجليها على أكف
الرجال، وأشرفت على ذلك الملبن، وتكلمت
بكلام لها، فأنزلوها. ثم أصعدوها ثانية
ففعلت كفعلها في المرة الأولى، ثم
أنزلوها وأصعدوها ثالثة، ففعلت فعلها
في المرتين. ثم دفعوا إليها دجاجة فقطعت
رأسها ورمت به، وأخذوا الدجاجة فألقوها
في السفينة.
فسألتُ الترجما عن فعلها فقال: "قالت
في أول مرة أصعدوها: هو ذا أرى أبي وأمي،
وقالت في الثانية: هو ذا أرى جميع قرابتي
الموتى قعودا،ً وقالت في المرة الثالثة:
هو ذا أرى مولاي قاعداً في الجنة. والجنة
حسناء خضراء، ومعه الرجال والغلمان؛
وهو يدعوني فاذهبوا بي إليه!" فمرّوا
بها نحو السفينة فنزعت سوارين كانا
عليها، ودفعتهما إلى المرأة التي تسمى
ملك الموت وهي التي تقتلها. ونزعت
خلخالين كانا عليها ودفعتهما إلى
الجاريتين اللتين كانتا تخدمانها وهما
ابنتا المرأة المعروفة بملك الموت.
ثم أصعدوها إلى السفينة، ولم
يدخلوها إلى القبة. وجاء رجال ومعهم
التراس والخشب، ودفعوا إليها قدحاً
نبيذاً فغنّت عليه وشربته. قال لي
الترجمان: "إنها تودع صواحباتها بذلك".
ثم دُفع إليها قدح آخر، فأخذته وطوّلت
الغناء، والعجوز تستحثها على شربه
والدخول إلى القبة التي فيها مولاها.
فرأيتُها وقد تبلّدت[5]
وأرادت دخول القبة، فأدخلت رأسها بينها
وبين السفينة، فأخذت العجوز رأسها
وأدخلتها القبة، ودخلت معها.
وأخذ الرجال يضربون بالخشب على
التراس لئلا يُسمع صوتُ صياحها فيجزع
غيرها من الجواري، ولا يطلبن الموتَ مع
مواليهن. ثم دخل إلى القبة ستة رجال
فجامعوا بأسرهم الجارية. ثم أضجعوها إلى
جانب مولاها، وأمسك اثنان رجليها
واثنان يديها، وجعلت العجوز التي تسمى
ملك الموت في عنقها حبلاً مخالفاً،
ودفعته إلى اثنين ليجذباه. وأقبلت ومعها
خنجر عريض النصل، فأقبلت تدخله بين
أضلاعها موضعاً موضعاً وتخرجه والرجلان
يخنقانها بالحبل حتى ماتت.
ثم وافى أقرب الناس إلى ذلك الميت
فأخذ خشبة وأشعلها بالنار، ثم مشى
القهقرى نحو قفاه إلى السفينة، ووجهه
إلى الناس والخشبة المشعلة في يده
الواحدة، ويده الأخرى على باب أسته، وهو
عريان، حتى أحرق الخشب المعبّأ الذي تحت
السفينة من بعد ما وضعوا الجارية التي
قتلوها في جنب مولاها.
ثم وافى الناس بالخشب والحطب، ومع
كل واحد خشبة قد ألهب رأسها، فيلقيها في
ذلك الخشب. فتأخذ النار في الحطب، ثم في
السفينة ثم في القبة، والرجل والجارية،
وجميع ما فيها. ثم هبّت ريح عظيمة هائلة
فاشتد لهبُ النار واضطرم تسعّرها، وكان
إلى جانبي رجل من الروسية فسمعته يكلم
الترجمان الذي معي، فسألتُه عما قال
له، فقال: "إنه يقول: أنتم يا معاشر
العرب حمقى" فقلتُ: "لمَ ذلك؟"
قال: "إنكم تعمدون إلى أحب الناس
إليكم وأكرمهم عليكم فتطرحوه في
التراب، وتأكله التراب والهوام والدود،
ونحن نحرقه بالنار في لحظة، فيدخل الجنة
من وقته وساعته". ثم ضحك ضحكاً
مفرطاً، فسألت عن ذلك فقال: "من محبة
ربه له، قد بعث الريح حتى تأخذخ في ساعة".
فما مضت على الحقيقة ساعة حتى صارت
السفينة والحطب والجارية والمولى
رماداً رماداً.
ثم بنوا على موضع السفينة، وكانو ا
قد أخرجوها من النهر، شبيهاً بالتل
المدوّر، ونصبوا في وسطه خشبة كبيرة
خدنك، وكتبوا عليها اسم الرجل واسم ملك
الروس، وانصرفوا.
قال [ابن فضلان]:
ومن رسمِ ملك الروس أن يكون معه في
قصره أربعمائة رجل من صناديد أصحابه
وأهل الثقة عنده، فهم يموتوت بموته،
ويُقتَلون دونه. ومع كل واحد منهم جارية
تخدمه وتغسل رأسه، وتصنع له ما يأكل
ويشرب، وجارية أخرى يطؤها. وهؤلاء
الأربعمائة يجلسون تحت سريره، وسريره
عظيم مرصع بنفيس الجوهر، ويجلس معه على
السرير أربعون جارية لفراشه، وربما وطئ
الواحدة منهن بحضرة أصحابه الذين ذكرنا.
ولا ينزل عن سريره، فإذا أراد قضاء
حاجة قضاها في طشت. وإذا أراد الركوب
قدموا دابته إلى السرير فركبها منه.
وإذا أراد النزول قدّم دابته حتى يكون
نزوله عليه. وله خليفة يسوس الجيوش،
ويواقع الأعداء ويخلفه في رعيته.
من (رسالة ابن فضلان في وصف الرحلة
إلى بلاد الترك والخزر والروس
والصقالبة سنة 309هـ/921م) ص 149-166
[1]
هو
نهر الفولغا الذي يصب في بحر قزوين،
وعليه مدينة إتل قبل مصبه.
[2]
يقصد
أنهم مزينون بالوشم وهذه كانت عادة
كثير من سكان الشمال وكذلك الفايكنج.
[3]
معربة: الجسر الذي يوضع للسفينة.
[4]
ساحرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق