د. عجيل النشمي
سقوط
الخلافة أثّر في بناء العالم الإسلامي
وكان
فاصلاً بين عهد الإسلام وعهد الاستعمار
شاعرنا
شوقي ينخدع في كمال أتاتورك ثم يفيق
ويفيق معه كثيرون
أحدث
سقوط الخلافة الإسلامية دوياً عظيماً
في العالم الإسلامي والعلم أجمع وكان
الأمر يستحق أكثر من دوي يذهب أدراج
الرياح، كان المفروض أن يتبع هذا الدوي
عمل مستمر لإعادة صرح الخلافة
الإسلامية لأن سقوط الخلافة يعني تجريد
المسلمين وأراضيهم من سلطة راشدة يحسب
لها الأعداء ألف حساب وحساب، تجريديهم
من السياج الذي ظل يحميهم في كل أطواره
يوم أن كانت خلافة راشدة وحتى يوم أن
أصبحت ملكاً عضوضاً فكانت في كل الأحوال
سياجاً يلقي الرعب في قلوب الأعداء كلما
تنادى المسلمون لدرء الخطر عن الخلافة.
إن سقوط الخلافة الإسلامية بعد
استمرار دام قرابة ثلاثة عشر قرناً أمر
يستحق أن يقف عنده المفكرون والمحللون
فينظروا فيه ويحللونه من وجهة نظر دينية
سياسية ويوازنوا بين المصالح والمضار
في وجود الخلافة أو زوالها، وعلى القادة
الذي يريدون لأنفسهم وشعوبهم أن يفتحوا
ملف الخلافة الإسلامية ليأخذوا منه
الدروس والعبر وعلى الدعاة قبل هؤلاء
جميعاً أن ينظروا هذا الأمر ويرسموا
الخطى للوصول إليه فهو هدفهم من الحركة
والدعوة. ينبغي إحياء هذا الأمر في نفوس
الشبيبة وليكن حديث المجتمعات المسلمة.
إن سقوط الخلافة يطرق في مناهجنا
على أنه خبر تاريخي فحسب بينما هو مؤشر
سقوط أمة وانهيار حضارة وفقدان شخصية
ينبغي أن تصب مناهجنا الدراسية كلها
لتغذي هذا المعنى وتحييه. إنه أمر يحتاج
من الدعاة أن يجعلوه حديث المجالس
والمنتديات والصحافة. إنّ فتح ملف
الخلافة معناه البدء في معرفة طريق الحل
لمشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية
والثقافية والسياسية.
سقطت الخلافة الإسلامية بعد أن
اجتمعت عليها قوى الشرق والغرب الكافر
من الصليبيين واليهود ومن والاهم
فأفسدوا أحوال المسلمين وديارهم، ثم
أوهموهم أن الخلافة هي سبب تأخرهم وفساد
أحوالهم وأن صلاح أمرهم مرهون بزوال
الخلافة، ولقد نجحوا في هذه الفرية إلى
حد بعيد. فحين أسقطوا الخلافة هلل لهذا
السقوط شباب الإسلام الذين تربوا على
موائد الغرب والمدارس الأجنبية في داخل
بلادهم وخارجها فكانوا يرضعونهم منذ
الصغر مبادئ الكفر والإلحاد بدعوى أن
الدين لا يتفق مع روح العصر الحديث وأن
الحضارة الأوروبية هي الرائدة وهي التي
حققت السعادة والتقدم والرقي والمساواة
بين الشعوب وأن محاكاة الغرب وأحواله هي
بداية الطريق لحياة أفضل.
إلا أن القسم الأكبر من المسلمين
المخلصين المفكرين منهم وعموم الشعوب
الإسلامية هالها هذا السقوط وتذكرت تلك
الخلافة التي طالما ردت جحافل
الصليبيين وأعوانهم، وطالما شع نورها
وهدايتها في شرق العالم وغربه وشماله
وجنوبه، كان عزيزاً على المسلمين أن
يفقدوا تلك الخلافة، ورغم أن هذا السقوط
كان مخططاً له تخطيطاً دقيقاً ماكراً
حتى يسقط وللمسلمين رغبة في هذا السقوط
ويسقط تدريجياً لا فجأة، ومع ذلك كانت
هناك ردود فعل متفاوتة في العالم
الإسلامي. ونستطيع تسجيل تفاوتها في
الأمور التالية:
أولاً:
المشاعر:
فلقد كانت مشاعر السملمين ضد هذا السقوط
في داخل تركيا وخارجها وقد استبشر كثير
من المسلمين بالديكتاتور مصطفى كمال
أتاتورك بادئ الأمر، بل علقوا عليه
كثيراً من الآمال باسم التقدم
والحضارة، وكان بعضهم يظن أنه سيعيد
للخلافة قوتها وهيبتها، بل وصل حسن الظن
ببعضهم أن عرضوا عليه منصب الخلافة نفسه!
حتى شاعرنا أحمد شوقي قال قصيدته
العصماء يمتدح فيها مصطفى كمال ويشبهه
بخالد بن الوليد ويمتدح انتصاراته قبل
أن يكشف له عن دناءة نفسه وخبث نواياه،
فيقول:
يا
خالد الترك جددْ خالد العربِ
|
اللهُ أكبر كم في الفتح من عجبِ
|
فالسيف
في غمده والحق في النصبِ
|
صلح عزيز على حرب مظفرة
|
وطيب
أمنية في الرأي لم تخبِ
|
يا حسن أمنية في السيف ما كذبتْ
|
وأنت
أكرم في حقن الدم والسربِ
|
خطاكَ في الحق كانت كلها كرماً
|
فيه
القتال بلا شرع ولا أدب
|
حنوت حرب (الصلاحيين) في زمن
|
قناك
في حرمة الرهبان والصلب
|
لم يأتِ سيفُك فحشاءَ ولا هتكتْ
|
ولو
سئلت بغير النصر لم تجبِ
|
سئلت سلماً على نصر فجدت بها
|
وأذعنَ
السيفُ مطوياً على غضب
|
مشيئة قبلتها الخيل عاتية
|
سيوف
قومك لا ترتاح للقرب
|
أتيت ما يشبه التقوى وإن خلقت
|
كل
المروءة في الإسلام والحسب
|
ولا أزيدك بالإسلام معرفة
|
ومهد
السيف في »لوزان«
للخطب
|
تدرعتْ للقاء السلم »أنقرةُ«
|
من
السلاح وما ساقوا من العصب
|
لم يغنِ عن قادة اليونان ما حشدوا
|
كثكنة
النحل أو كالقنفذ الخشب
|
وتركهم »آسيا
الصغرى«
مدججة
|
كتبن
في صحف الأخلاق بالذهب
|
للترك ساعات صبر يوم نكبتهم
|
في
العاصفات ولم تغلب على خشب
|
سفينة الله لم تقهر على دسر
|
بحسن
عاقبة من سوء منقلب
|
قد أمن الله مجراها وأبدلها
|
من
كيد حام ومن تضليل منتدب
|
واختار ربانها من أهلها فنجت
|
|
حتى قال:
|
بآية
الفتح تبقى آية الحقب
|
تحية أيها الغازي وتهنئة
|
إلا
التعجب من أصحابك النجب
|
وفيما من ثناء لا كفاء له
|
كالليث
عضّ على نابيه في النوَبِ
|
الصابرين إذا حلّ البلاءُ بهم
|
والكاتبين
بأطراف القنا السلب
|
والجاعلين سيوف الهند ألسنهم
|
ولا
المحالُ بمستعصى على الطلب
|
لا الصعب عندهم بالصعب مركبه
|
بقاتلات
إذا الأخلاق لم تصب
|
ولا المصائب إذ يرمي الرجالُ بها
|
شعباً
وراء العوالي غير منشعب
|
أخرجب للناس من ذل ومن فشل
|
قضى
الليالي لم ينعم ولم يطب
|
وأرج الفتح الحجاز وكم
|
مهارج
الفتح في الموشية القشب
|
وازَّيّنت أمهات الشرق واستبقت
|
يهنئون
بني حمدان في حلب
|
هزمت دمشق بني أيوب فانتبهوا
|
ومسلمو
مصر والأقباط في طرب
|
ومسلمو الهند والهندوس في جذل
|
وشيجة
وحواها الشرق في نسب
|
ممالك ضمها الإسلام في رحم
|
إلى
مكانك أو توفي بمختضب
|
من كل ضاحية ترمي بمكتحل
|
يوم
كيوم يهود كان عن كثب
|
تقول لولا الفتى التركي حل بنا
|
ولعل شعر شوقي هذا يعطينا صورة حية
لمشاعر الناس التي كانت تتعلق في شيء
فيه بقاء واستمرار للخلافة، لكن
المظاهر كانت غير البواطن. كانت أوروبا
وصنيعتهم اليهودي مصطفى كمال تدرك عمق
الخلافة وحساسيتها في نفوس المسلمين
فعالجوا مشاعرهم بهذا الأسلوب الماكر
فأخفوا السم في الدسم حتى إذا حانت ساعة
الصفر وبلغوا من الشجر ثماره وكانوا قاب
قوسين أو أدنى من هدفهم كشفوا عن
ضغينتهم وأعلنوها علمانية حمراء فانتبه
مَن أحسن الظن من المسملين وندم ولات
ساعة مندم، وعاد شاعرنا شوقي يسفه
الأحلام التي سطرها في مصطفى كمال ويجعل
من عرس عودة الخلافة مأتماً وقبراً تدفن
فيه تلك الخلافة، وبدا للعبان أن
انتصارات مصطفى كمال الحربية والسياسية
عام 1923م لم تكن سوى طعماً لتخدير
المسلمين وليشهدوا سقوط الخلافة عام 1924م،
فقال شوقي حزيناً معبراً عن خيبة الأمل:
ونعيتْ بين معالم الأفراحِ
|
عادت أغاني العرس رجعَ نواح
|
ودفنت عند تبلج الإصباحِ
|
كفّنتْ في ليل الزفاف بثوبه
|
في كل ناحية وسكرة صاحِ
|
شيعتْ من هلع بعبرة ضاحكة
|
وبكتْ عليكِ ممالكُ ونواح
|
ضجت عليك مآذن ومنابرُ
|
تبكي عليك بمدمع سحاح
|
الهند والهةٌ ومصر حزينة
|
أمماً من الأرض الخلافة ماح
|
والشام تسأل والعراق وفارسُ
|
فقعدن فيه مقاعد الأنواح
|
وأنت لك الجمع الجلائل مأتماً
|
قتلتك سلمها بغير جراح
|
ياللرجال لحسرة مؤودة
|
موشية بمواهب الفتاح
|
هتكوا بأيديهم ماءة فخرهم
|
ونضوا عن الأعطاف خير وشاح
|
نزعوا من الأعناق خير قلادة
|
قد طاح بين عشية وصباح
|
حسب أتى طول الليالي دونه
|
كانت أبر علائق الأرواح
|
وعلاقة قصمت عرى أسبابها
|
في كل غدوة جمعة ورواح
|
نظمت صفوف
المسلمين
وخطوطهم
|
بالشرع عربيد القضاء وقاح
|
بكت الصلاة وتلك فتنة عابث
|
وأتى بكفر في البلاد بواح
|
أفتى خزعبلة وقال ضلالة
|
خلقوا لفقه كتيبة وصلاح
|
إن الذين جرى عليهم فقهه
|
ولما أيقن شاعرنا أنه ومن على
شاكلته قد وقع في الشرك وأيقن أن
المسلمين لا يستطيعون أمام هذا هذا
الواقع تحريك ساكن، قال:
إن الجواد يثوب بعد جماح
|
أدّوا إلى الغازي النصيحة ينتصح
|
كيف احتيالك في صريع الراح
|
إن الغرور سقى الرئيس براحه
|
(نقلاً عن مجلة المجتمع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق