عندما سقطت الخلافة على يد مصطفى كمال وظهرت للمسلمين نواياه، كان الشعور العام في البلاد الإسلامية ساخطاً على هذه الخطوة الجريئة الدنيئة، وكان الاتجاه السائد يومئذ وجوب استمرار الخلافة، بانتقالها إلى بلد إسلامي آخر كمصر أو الحجاز أو غيرهما. ولقد فوجئ المسلمون في تلك الفترة بالملك حسن بن علي ملك الحجاز يعلن نفسه خليفة على المسلمين دون أن يكون ذلك عن مشورة من المسلمين، ورفضت مصر الاعتراف بخلافة الملك حسن، وحمي وطيس الكتابة في أمر الخلافة وأصبح حديث الساعة وشغل الصحافة الشاغل.. وبدأت الاجتماعات تعقد في شتى بقاع العالم الإسلامي خصوصاً في مصر والهند، وتمخضت عن هذه الضجة في العالم الإسلامي إلى ضرورة عقد مؤتمر عام يحضره ممثلون عن الدول الإسلامية كلها، وكانت فكرة ترشيح الملك فؤاد خليفة للمسلمين مثار جدل.. فهذا السلطان عبد الحميد يقول: «أرادالإنجليز أن يكون الخديوي في مصر خليفة للمسلمين، ولكن ليس هناك مسلم صادق واحد يقبل أن يكون الخديوي أميراً للمؤمنين، لأنه بدأ دراسته في جنيف وأكملها في فيينا وتطبع بطابع الكفار».[1]
وقد أبان شفيق باشا أنه اجتمع لدى محمد سعيد باشا –وهو رئيس وزراء سابق- ببعض العلماء، ومن بينهم الشيخ محمد حسنين العدوي، ودار الحديث حول ما إذا كان طرد آل عثمان من تركيا وإلغاء الخلافة، فقال بعض الحاضرين: «ولمَ لا تكون الخلافة للملك فؤاد؟ وما علينا إلا أن نجمع العلماء الموجودين في القطر المصري فينتخبونه ويبايعونه، وهكذا تتم لملك مصر». ولما وصل الاقتراح إلى الملك فؤاد، قال لسعد زغلول –رئيس الوزراء-: «كيف أقوم بالواجب نحو جميع المسلمين، مع أن حِملي ثقيل بالنسبة لمصر وحدها؟» وهذا الاقتراح نفسه لم يوافق عيه العلماء المجتمعون أنفسهم، بل انتهى رأيهم إلى وجوب عقد المؤتمر العام للمسلمين[2] على أن يكون مقر هذا المؤتمر القاهرة. ولقد قام على التمهيد لهذا المؤتمر الأمير عمر طوسون، ونشطت الجهود داخل مصر وخارجها لعقد هذا المؤتمر، فعقد في مصر مؤتمر كبير باسم الهيئة العلمية الدينية بالديار المصرية لبحث شأن الخلافة وللدعوة للمؤتمر الإسلامي العالم لجميع المسلمين. وكتبت فيه وثيقة، وسنذكر هذه الوثيقة كاملة لأهميتها، وكان ذلك في يوم الثلاثاء 19 شعبان سنة 1342هـ، الموافق 25 مارس 1924، حيث اجتمعت بالإدارة العامة للمعاهد الدينية هيئة علمية دينية كبرى تحت رياسة حضرة صاحب الفضيلة الشيخ أكبر شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية العلمية الإسلامية الشيخ محمود أبو الفضل الجيزاوي، وبعضوية أصحاب الفضيلة رئيس المحكمة العليا الشرعية الشيخ محمد المراغي، ومفتي الديار المصرية الشيخ عبد الرحمن قراعة، ووكيل الجامع الأزهر ومدير المعاهد الدينية الشيخ أحمد هارون السكرتير العام لمجلس الأزهر الأعلى والمعاهد الدينية الشيخ حسين والي، وشيوخ المعاهد الدينية الكبرى الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، والشيخ محمد عبد اللطيف الفحام والشيخ عبد الغني محمود والشيخ إبراهيم الجبالي ومشايخ الأقسام بالجامع الأزهر والكثير من هيئة كبار العلماء منهم الشيخ بخيت والشيخ محمد شاكر والشيخ النجدي وشيخ الشافعية والشيخ أحمد نصر وكيل المالكية والشيخ سبيع الذهبي شيخ الحنابلة والشيخ عبد المعطي الشرشيمي وغيرهم من العلماء والمفتشين بالمعاهد الدينية، وقرّ قرارهم بعد بحث طويل على ما يأتي:
[كثر تحدُّث الناس في أمر الخلافة بعد خروج الأمير عبد المجيد من الأستانة واهتم المسلمون بالبحث والتفكير فيما يجب عليهم عمله قياماً بما يفرضه عليهم دينهم الحنيف. لذلك رأينا أن نعلق رأينا في خلافة عبد المجيد وفيما يجب على المسلمين اتباعه الآن وفيما بعد.
-الخلافة –وتسمى الإمامة- رياسة عامة في الدين قوامها النظر في مصالح الملة وتدبير الأمة. والإمام نائب عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم في الدين وتنفيذ أحكامه، وفي تدبير شئون الخلق الدنيوية على مقتضى النظر الشرعي.
-الإمام يصير إماماً بالبيعة من أهل الحل والعقد أو استخلاف إمام قبله لا بد مع هذا من نفاذ حكمه في رعيته خوفاً من قهره وسلطانه. فإن بايع الناسُ الإمامَ ولم ينفذ حكمه فيهم لعجزه عن قهرهم، أو استخلفه إمام قبله ولم ينفذ حكمه في الرعية لعجزه، لا يصير إماماً بالبيعة أو الاستخلاف. وتستفيد الإمامة أيضاً بطريق التغلب وحده، فإذا تغلب شخص على الخليفة واغتصب مكانه وانعزل الأول، وقد يوجد التغلب مع البيعة والاستخلاف كما حصل لأكثر الخلفاء في العصور الماضية، وهذا كله مستفاد صراحة من السادة الحنفية.
-ولما كان الإمام صاحب التصرف التام في شؤون الرعية وجب أن تكون جميع الولايات مستمدة منه وصادرة عنه، كولاية الوزراء، وولاية أمراء الأقاليم وولاية القضاء، وولاية نقباء الجيوش وحماة الثغور.
-وينحلّ عقد الإمامة بما يزول به المقصور منها كأسره بحيث لا يرجى خلاصه وعجزه عن تدبير مصالح الملة والأمة، ومتى وجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين جاز للأمة خلعه ما لم يؤد ذلك إلى فتنة، فإن أدى إليها احتمل أخف الضررين.
-رضي المسلمون الذين كانوا يدينون لخلافة الأمير وحيد الدين عن خلعه للأسباب التي علموها عنه، واعتقدوا أنها مبررة للخلع، ثم قدم الأتراك للخلافة الأمير عبد المجيد معلنين فصل السلطة جميعها عن الخليفة، ووكلوا أمرها إلى مجلسهم الوطني وجعلوا الأمير عبد المجيد خليفة روحياً فقط.
-وقد أحدث الأتراك بعملهم هذا بدعة ما كان يعرفها المسلمون من قبل، ثم أضافوا إليها بدعة أخرى وهي إلغاء مقام الخلافة.
-لم تكن خلافة الأمير عبد المجيد والحالة هذه خلافة شرعية، فإن الدين الإسلامي لا يعرف الخلافة بهذا المعنى الذي حدد له ورضيه، ولم تكن بيعة المسلمين له بيعة صحيحة شرعاً.
-وإذا غضضنا النظر عن هذا وقلنا أن البيعة صحت له، فإنه لم يتم له نفوذ الحكم الذي هو شرط شرعي لتحقيق معنى خلافته.
-وإذا فرض أن تم له وصف الخلافة بمعناها الشرعي فقد انحل عنه ذلك الوصف بعجزه حقيقة عن القيام بتدبير أمور الدين والدنيا، وعجزه عن الإقامة في بلده ومملكته وعن حماية نفسه وأسرته بعد أن تم للأتراك تغلبهم عليه.
-والنتيجة لهذا كله أنه ليس للأمير عبد المجيد بيعة في أعناق المسلمين لزوال المقصود من الإمامة شرعاً، وأنه ليس من الحكمة ولا مما يلائم شرف الإسلام والمسلمين أن ينادوا ببقاء بيعة في أعناقهم لشخص لا يملك الإقامة في بلده ولا يملكون هم تمكينه منها.
-ولما كان مركز الخلافة في نظر الدين الإسلامي ونظر جميع المسلمين له من الأهمية ما يعدله شيء آخر يترتب عليه من إعلاء شأن الدين وأهله، ومن توحيد جامعة المسلمين وربطهم برباط قوي ومتين وجب على المسلمين أن يفكروا بنظام خلافتهم، وبوضع أسسه على قواعد تتفق مع أحكام الدين الإسلامي، ولا تتجافى مع النظم الإسلامية التي رضيها المسلمون نظماً لحكمهم.
-غير أن الضجة العنيفة التي أحدثها الأتراك بإلغاء مقام الخلافة والتغلب على الأمير عبد المجيد جعلت العالم الإسلامي في اضطراب لا يتمكن المسلمين معه من البتّ في هذه النظم، وتكوين رأي ناضج فيها، وفي من يصح أن يختار خليفة لهم إلا بعد الهدوء وبعد الإمعان والروية، وبعد معرفة وجهات النظر في مختلف الجهات.
-لهذا الأسباب نرى أن لابد من عقد مؤتمر ديني إسلامي يدعى إليه ممثلو جميع الأمم الإسلامية للبت فيما يجب أن تسند إليه الخلافة الإسلامية، ويكون بمدينة القاهرة تحت رياسة شيخ الإسلام بالديار المصرية، وذلك نظراً لمكانة مصر الممتازة بين الأمم الإسلامية، وأن يكون عقد المؤتمر في شهر شعبان سنة 1343هـجري/مارس 1925 ميلادي.
-ولا بد لنا من إعلان الشكر لكل من أبدى غيرة دينية إسلامية في أمر الخلافة وأظهر اهتماماً بهذا الواجب.
-ونعلن كذلك شكرنا للأمم التي تدين بأديان أخرى غير الدين الإسلامي ولدول تلك الأمم على ما أظهروه إلى الآن من ابتعادهم عن التدخل في شؤون الخلافة الإسلامية ونرجوا منهم أن يلاحظوا أن مسألة الخلافة مسألة إسلامية محضة لا يجوز أن تتعدى دائرتها ولا أن يهتهم بها أحد من غير أهلها، والعالم الإسلامي جميعه يريد أن يعيش بسلام مع الأمم الأخرى وأن يحافظ على قواعد دينه الحقة ونظمه البريئة بطبعها من روح العدوان.
-هذا ما رأينا من الواجب الديني علينا إذاعته إلى العالم الإسلامي في مختلف بقاع وإلى الأمم الأخرى ليكون الجميع على بينة من الأمر.
القاهرة في:
9 شعبان سنة 1342 هجري
25 مارس سنة 1923 ميلادي
ويلي ذلك الامضاءات].[3]
وواضح من هذه الوثيقة التاريخية أن المؤتمرين يجمعون على عدم شرعية خلافة عبد المجيد لأنه لا يباشر صلاحيات هذا المنصب الخطير، ولأن فصْل الدين عن الدولة معناه زوال منصب الخلافة إذ ليست مهمة الخلافة الناحية الروحية فقط، كما أرادها جماعة الاتحاد والترقي، ومع ذلك فهم يجمعون بضرورة استمرار الخلافة ويجعلون ذلك مهمة البلاد الإسلامية ولذلك دعوا إلى عقد هذا المؤتمر العام. ولكن المؤتمر لم يعقد إلا بعد عامين، ولم يجتمع إلا لينفضّ ويعلن فشله وينتهي أيُّ تفكير في إعادة الخلافة عن طريق المؤتمرات، فقد رأي المؤتمرون أن الوقت غير صالح للفصل في الخلافة على وجه يرتضيه الشرع وقرروا إرجاء ذلك إلى وقت مناسب.
ولقد لعبت إنجلترا دروها الخبيث في إفشال محاولات إعادة الخلافة، فقد كانت دسائسها من وراء فشل المؤتمر. وهي التي شجعت الملك حسين على أن يعلن نفسه خليفة على المسلمين لتحدث بذلك بلبلة في البلاد الإسلامية وفي نفس الوقت تقضي على ما قد يحدث من تحركات لترشح آخرين من رؤساء البلاد الإسلامية، وليكون الأمر رغبات شخصية وليس منبثقاً عن رأي جمهور المسلمين وبهذا تحقق انجلترا والدول الأوروبية أغراضها التوسعية والاستعمارية في البلاد الإسلامية.
وحاول محمد أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي بفلسطين عقد مؤتمر إسلامي فدعا إلى مؤتمر في القدس ينعقد بتاريخ 26 رجب سنة 1350 هجري، وجاء في الدعوة أن الغرض من المؤتمر في النظر في أمور تهم المسلمين.[4] وواضح فشل المؤتمر من غموض أهدافه وعدم الجرأة حتى على إعلان موضوع الاجتماع.
وفي دلهي في الهند عقد مؤتمر تحت اسم «مؤتمر الخلافة الهندي العام» برئاسة الشيخ محمد علي.[5] وقد قام هذا المؤتمر بجمع كلمة المسلمين في القارة الهندية لمؤازرة المؤتمرات التي أعقبت سقوط الخلافة خصوصاً في فلسطين.
[1] مقدمة مذكرات السلطان عبد الحميد ص8، للدكتور محمد حرب.
[2] الإسلام والخلافة ص97
[3] مجلة نور الإسلامن ص590 الجزء الثامن، المجلد الثاني شعبان 1350، ط مطبعة المعاهد الدينية الإسلامية 1350هـ-1931م
[4] مجلة نور الإسلام ص464، الجزء السادس، المجلد الثاني سنة 1350هـ-1931م
[5] لها إشارة في صحيفة الفتح ص510، العدد 131، يوم الخميس 6، شعبان سنة 1347هـ-17 يناير 1929 السنة الثالثة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق