القومية التركية تمهد لسقوط الخلافة
اتفقت كلمة الباحثين على تسمية القرن التاسع عشر باسم »عصر القوميات«، وذلك بالنظر إلى اتجاهاته السياسة الأساسية، لأن الأحداث السياسية الهامةالتي غيرت معالم خارطة أوروبا السياسية خلال القرن المذكور، إنما حدثت من جراء تغلغل الفكرة القومية في نفوس الأمم الأوروبية وانتصار مبدأ »حقوق القوميات« في الميادين الدولية..[1]
وظهرت في تلك الفترة اصطلاحات الأمة والقومية والوطنية.. والأمة تعني –كما عرفها »مانتيشني« الإيطالي بقوله: »الأمة مجتمع من البشر يرتبط بعضها ببعض بوحدة الأرض والأصل والعادات واللغة، من جراء الاشتراك في الحياة وفي الشعور الاجتماعي«.[2] أما الوطنية: فهي ارتباط الفرد بقطعة من الأرض تعرف بالوطن.[3]
القومية التركية
كانت دولة الخلافة الإسلامية تنتظم أجناساً كثيرة متعددة المذاهب والعقائد، وتركيا وحدها تشتمل على كثير من هذه الأجناس، بل إن البلقان وحده كان يشتمل على البوسنة والهرسك وصربيا وألبانيا واليونان وبلغاريا ورومانيا، وكل من هذه لها مطامحها وآمالها، وكانت في ظل الحكم الإسلامي تعيش متحابة متجانسة، وحّد الإسلام بين أجناسها المسلمة وأنصف أجناسها غير المسلمة كما لم ينصف من قبل حتى من أبناء جنسها، ولذلك يقول السلطان عبد الحميد أن الإمبراطورية العثمانية دولة احتوت عدداً كبيراً من الأمم والشعوب وتشكلت من الأتراك والعرب والأكراد والأرناؤوط والبلغار واليونان حيث جمعتهم الرابطة الإيمانية وجعلتهم أفراداً في عائلة واحدة، فعلينا والحالة هذه أن نعتبر أفلسنا مسلمين قبل أن نكون عثمانيين وأن تكون صفة خليفة المسلمين فوق صفة الإمبراطور العثماني فإن الدين هو أساس البناء السياسي والاجتماعي للدول.[4] وبهذه العقلية وهذا التصور الإيماني العميق كان السلطان عبد الحميد يرسم خطاه لإصلاح شأن دولة الخلافة وإعاة التماسك فيما بين ربوع تركيا وبين الأفطار الإسلامية الأخرى. ولذلك كان يقول إن بلانا كانت وستبقى قلعة للإيمان وحِصناً حصيناً لهذا الدين، فإذا زال المفهوم الديني عن الإمبراطورية العثمانية فقد دالت دولتنا. يجب علينا أن نقول صلتنا بالبلدان الإسلامية وأن يكون التقارب أحسن مما هو عليه الآن، ولا أمل لنا بالمستقبل إلا بالوحدة، فإن بقاء الوحدة الإسلامية يعني بقاء إنجلترا وفرنسا وروسيا وهولندا تحت نفوذنا حيث أن كلمة واحدة من الخليفة تكفي لإعلان الجهاد في البلدان الإسلامية الواقعة تحت سيطرة هذه الدول مما يؤدي إلى وقوع الكارثة بالنصارى، ولا بد أن يأتي يوم يقوم فيه المؤمنون قوم رجل واحد ويحطمون أغلالهم.[5]
وبدأت النعرة القومية في أوائل القرن التاسع عشر تتسرب إلى الدولة العثمانية وكان اللاجئون البولنديون والمجريون على الغالب أول الناقلين للقومية عندما ذهبوا إلى تركيا بعد فشل ثورتهم سنة 1848م، فلقد بقي قسم كبير منهم فيها اعتنقوا الإسلام واحتلوا مناصب هامة في الدولة العثمانية، وكان أحدهم الكونت قسطنطين بورزيسكي الذي سمى نفسه بعد ذلك مصطفى جلال الدين باشا، ولقد نشر سنة 1869م كتاباً بالفرنسية في إستانبول اسمه (أتراك الأمس وأتراك اليوم)، وفي الكتاب جزء كبير يشكل تقريراً للسلطان عن المشاكل الحاضرة في الدولة العثمانية واقتراحات حلها، وبه جزء تاريخي يضم دراسة أجراها المستشرقون الأوروبيون عن التاريخ القديم للشعب التركي، وبه يؤكدون دور الأتراك الإيجابي الخلاق في التاريخ. ولقد حاول بورزيسكي جهده لإثبات أن الأتراك هم من العرق الأبيض مثل شعوب أوروبا وينتمون لما أسماه العرق الطوراني-الآري.
ولقد عمل الكونت بورزيسكي على نقل القومية البولونية ووضعها في قالب تركي وساعده على هذا العمل ما عرضه من أعمال المستشرقين الأوروبيين الباحثين في الشؤون التركية. ولقد وصلت نتائج أبحاث هؤلاء إلى المجتمع التركي من عدة طرق وكان لها تأثير هام على الذهنية التركية خصوصاً في تقرير التاريخ التركي القديم والاعتقاد بالهوية المميزة والذكر اللائق في التاريخ. وقد كان الأتراك أكثر من العرب والعجم نسياناً لتاريخهم الماضي، فلقد كانوا لا يفكرون بأية هوية أخرى غير الإسلام، ولكن المستشرقين، عن قصد أو عن غير قصد، ساعدوا الأتراك على استعادة هويتهم القومية الضائعة وعلى الدعوة إلى حركة قومية تركية جديدة، وبدأت الشبيبة التركية تتأثر بهذه الأبواق وتردد في كتاباتها كلمات القومية، وكان يعنون بها القومية التي تعارض الولاء الأوسع للدولة العثمانية الكبرى وللإسلام، ولذلك في سنة 1871م انتقد علي سوافي اقتراحاً عثمانياً شبه رسمي يطلب أن يتبنى الباب العالي القومية مثل إيطاليا وبروسيا ويوحد جميع المسلمين على أساسها، وبيّن علي سوافي أن القومية في أوروبا تعني شيئاً آخر مختلفاً تماماً، فليس عندنا مشكلة قومية والمشاكل القومية تقود لدمارنا وقضية توحيد المسلمين مسألة إسلامية دينية وليست مسألة قومية.[6]
ولقد لعب النصارى العثمانيون دوراً بارزاً في إضرام فتنة القومية بنشرها بين الأتراك والألبان والعرب، وأخذت الدعوة للقومية عدة أقنعة باسم الحرية تارة وباسم التاريخ القومي والذات القومية وحب الوطن تارة أخرى. ويقول السلطان عبد الحميد مبيناً بدء هذه النعرة: »بدأ بعض الشباب الذين اكتسوا قشور الحضارة الأوروبية بإلقاء خطب في الدعوة إلى حب الوطن، لكن حب الوطن في بلادنا العثمانية يجب أن يأتي في المرتبة الثانية بعد حب الدين الذي يحتل المرتبة الأولى. أليس الكاثوليك في أوروبا يقدمون الكنيسة الكاثوليكية والبابا على حب الوطن؟«[7]
ويرجع الفضل الأكبر في نشر القومية التركية إلى جمعية الاتحاد والترقي فقد جاءوا إلى السلطة وفي أوهامهم أنهم سيقيمون دولة استعمارية علىالطراز الأوروبي، وبدءوا بإثارة النعرة القومية بالحديث عن القومية الطورانية، ويمكن تأريخ بداية الحركة القومية الطورانية بجمعية »تركي درنكي« وكان تأسيسها في 5 ديسمبر 1908م (مع فجرالحركة الدستورية).
وإذا أمكننا معرفة مؤسسي هذه الجمعية أمكن بالتالي معرفة أهدافها وخطورتها، فقد كان من مؤسسيها بعض من عرفوا بشديد تعصبهم للقومية التركية أو الرابطة الطورانية مثل يوسف أقجوره وأحمد فريد بك وحسين جاهد وأحمد أغاييف. فمن هو يوسف أقجوره؟ هو من نواحي قازان على الفالوجا [الفولغا] في روسيا ومن أتراك روسيا، درس أولاً في جامعة لوربنورغ في روسيا ثم واصل الدراسة في جامعة العلوم السياسية في باريس ثم جاء بعد الانقلاب الدستوري إلى الأستانة وانغمس في العمل السياسي مع أتراك »تركيا الفتاة« وكان من آرائه أن تتخلىالدولة عن البلادالعربية لتشكيل دولة قومية في الأناضول.
وأحمد أغاييف هو أيضاً من أتراك روسيا تركستان، جاء إلى الأستانة بعد الدستور وتخلى عن جنسيته الأصلية وتجنس بالجنسية العثمانية وبدّل اسمه من أغاييف وجعله أحمد نما أوغلي وأصبح مدرساً للتاريخ التركي في المدرسة الحربية وكان من غلاة الدعاة للجامعة الطورانية ومن أكبر مسببي الخلاف بين الترك والعرب. وأسس القوميون الروسيو الأصل في ديسمبر 1911م مجلة المواطن التركي »توركي بورتي« الأسبوعية وقد انطلقت الحركة القومية من أتراك روسيا النازحين إلى الأستانة الذي كانوا قد نفوا في عهد السلطان عبد الحميد وأتاحت لهم الثورة فرصة العودة والعمل لأفكارهم القومية.
وإلى جانب الخبراء الروس في القومية التركية كان من مؤسسي »ترك درنكي« (المحفل التركي) اشترك في بحوثه العلمية مشاهير من العلماء المستشرقين مثل البرفسور غيوولاوسكي والدكتور قرة جون والبروفسور ماونان هارتان، وعكف هؤلاء على اكتشاف كل ما يتعلق بالشعب التركي من تاريخ ولغة وخصائص عرقية وحضارة وأب وحياة اجتماعية والعلم على إعادة الطابع الأصلي القديم للغة التركية. وكان هدف الداعين للقومية التركية هو تدمير الوحدة العثمانية ودفع العرب إلى أحضان الاستعمارية الغربية.
وبدلاً من سياسة عبد الحميد التي كانت تقوم على تقريب العنصر العربي والاعتماد عيه وكسب وده نرى الدستوريين يخصّون العرب والألبان باستبدادهم واضطهادهم، فقد عزلوا في وقت قصير زهاء بضعة عشر متصرفاً عربياً ولم يبقوا من العرب في وزارة الخارجية التي كانت تضم ما يقرب من ستمائة موظف بينهم 12 موظفاً عربياً لم يبق سوى عربي واحد.
وبعد حرب البلقان، التي أدت هزائم الأتراك فيها إلى انسلاخ الولايات الأوروبية وأصبح العرب هم الأغلبية المطلقة على جميع عناصر الدولة بما فيهم الترك، لم يعطَ العرب في الوزارة مقعداً واحداً بينما أعطيت ثلاثة مقاعد لليهود هم »مازلياح أفندي« و»بنساريا الفلاقي« و»جاويد بك« يهودي الأصل من الدونمة.
ويقول وليام بولك عندما وصل أنصار تركيا الفتاة إلى السلطة مارسوا سياسة التتريك على نحو لم يحاوله أي حاكم عثماني من قبل، بدأت المدارس تعلم اللغة التركية وتؤكد عظمة الأتراك وفضائلهم.[8]
وهكذا تمهد الطريق لقيام القومية العربية ما دامت دولة الخلافة ذاتها قد تنصلت من الانتساب للإسلام وآثرت بعث القومية التركية من جديد.
[1] ما هي القومية، ساطع الحصري 7
[2] المصدر السابق 42
[3] آراء وأحاديث في الوطن والقومية، ساطع الحصري 7
[4] السلطان عب الحميد، مذكراتي السياسية 176
[5] نفس المرجع 174
[6] الطريق إلى حكم إسلامي 164
[7] السلطان عبد الحميد، مذكراتي السياسية 177
[8] القومية والغزو الفكري 264، والبلاد العربية والدولة العثمانية 108 ساطع الحصري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق