الاثنين، 22 يوليو 2013

إعادة ترتيب أوراق سقوط الخلافة (18)

د. عجيل النشمي
السنوسي يؤسس حركته الجهادية
السنوسي يغير مفهوم الطرق الصوفية

إذا كانت الزاوية –كما سبق- هي المجال الحيوي لصياغة الإخوان السنوسيين فكرياً وعقدياً وسياسياً وعسكرياً وعلمياً بحيث جعل منها جامعة تخرج الرجال العلماء المجاهدين، فلا بد من بيان منهجه أو طريقته التي عرفت بالطريقة السنوسية والتي على وفقها بنى تلاميذه وجنده، ومن معرفتها عن قرب يصح الحكم عليها وتقييمها باعتبارها الركن الثاني في الحركة بعد الزاوية (وسنحتفظ بحق تقييم الطريقة السنوسية بعد الانتهاء منها، ولذلك سنعرضها مجردة عن التعليق).
وعليه فقد اهتم محمد بن علي السنوسي بالجانب العقيدي والفكري كمنهج حياة للإخوان السنوسيين، ولا شك أن مثل هذا المنهج ضروري لربط الأفراد وشعورهم بالارتباط والانتماء لهذه الحركة، ولذلك عكف السنوسي بعد أن أنهى رحلته العلمية التي طوف بها أهم الأقطار الإسلامية والتقى بشيوخها وأعيانها بدأ بالتأليف، وكان انتاجه غزيراً بالنسبة لما كان يقضيه من وقت متنقلاً ومؤسساً للحركة السنوسية. فقد بلغ انتاجه نحو أربعين كتاباً ورسالة، منها: »الدرر السنية في أخبار السلالة الإدريسية« مطبوع، و»إيقاظ الوسنان منها في العمل بالحديث والقرآن« مطبوع، و»بغية القاصد« مطبوع، و»شفاء الصدور« مطبوع، و»الكواكب الدرية في أوائل الكتب الأثرية«، مخطوط، و»الشموس الشارقة فيما لنا من أسانيد المغاربة والمشارقة«، و»التحفة في أوائل الكتب الشريفة« (الأعلام للزركلي 7/192). ومن مجموع هذه الكتب كوّن السنوسي له منهجاً للتربية على الطريقة المسماة بالسنوسية. ولقد تأثر محمد بن علي السنوسي منذ صغره ثم شبابه بالطرق الصوفية، وسبق أن ذكرنا أنه تتلمذ على يد السيد أحمد بن إدريس الفاسي والذي كان رئيساً للطرق الخضيرية، واحتكّ من خلال أسفاره بكثير من الطرق الصوفية ومشايخها والتي كانت منتشرة يومئذ، خصوصاً في المغرب العربي. واستطاع السنوسي بثاقب نظره وعمق فهمه للكتاب والسنة أن يميز بين الصالح من هذه الطرق والطالح منها. فعاب كثيراً من الطرق التي خرجت عن اتباع الطريق السليم طريق الكتاب والسنة الصحيحة كاستعمال الموسيقى والرقص وغيرها مما ينافي هدي الإسلام وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم. وعاب الطرق جميعاً في أنها اهتمت بالجوانب الروحية فقط منزوية بالإسلام عن واقع الناس وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ففصلت بين الدين والدولة وجعلت الإسلام محبوساً في المساجد والزوايا وقلوب الناس مما جعل الفساد يستشري في البلاد، والأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تسوء، خصوصاً ودولة الخلافة الإسلامية ضعيفة لا تقوى على إصلاح نفسها، وكل ذلك جعل الاستعمار يتحيّن الفرص للاستيلاء على هذه البلاد والعباد. هذا الواقع المرير للطريقة الصوفية جعل السنوسي يعيبها وحمل عليها ويحملها على التغير والتجديد والنزول إلى واقع الناس ومعايشة مشاكلهم والانتباه لما يحاك لهم.
ولقد حاول السنوسي أن يتلافى أغلب قصور تلك الطرق فرسم منهجه العقيدي على ضوء الكتاب والسنة فقال: »اعلم أن سبيل القوم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في الجليل والحقير، وأعمالهم موزونة بميزان الشريعة«. ومع ذلك فقد كانت الطريقة السنوسية تهدف –كأي طريقة صوفية- إلى الوصول للكمال الأعلى، وهذا الوصول له طريقتان عندهم. الطريقة الأولى: الطريقة الإشراقية، وأصحاب هذه الطريقة دأبهم تصفية النفوس من الأكدار وتوجيهها نحو الحق لنهج المعارف والأسرار بدون تعلم ولا تعليم من باب »اتقوا الله ويعلمكم الله«.
الطريقة الثانية: الطريقة البرهانية، وأصحاب هذا الطريق يتبعون الأوامر ويجتنبون النواهي ويتقبسون العلوم الأربعة، الذات والصفات والفقه والحديث والدلالات. وقد اتبع السنوسي للوصول للكمال الطريقةَ البرهانية لأنها –كما يقولون- هي حالة النبي صلى الله عليه وسلم وغالب أصحابه. مما تهدف إليه الطريقة السنوسية الصلة بين الفرد والرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة ويسمون هذا بـ»الوصول«. فالسنوسية تؤمن بإمكانية الاتحاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم! وأتباع السنوسي يعتقدون أن السنوسي محمد بن علي كان متصلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وقد قال هو عن نفسه بأنه مأمور من الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء الزوايا والدعوة إلى الله.
أما سبيل الاتحاد بين المريد والنبي صلى الله عليه وسلم فيتمّ عن طريق قراءة الأوراد وأخذ المسلسلات من الأحاديث. وهذه المسلسلات هي أحاديث يتلقاها المريد عن شيخه الذي تلقاها عن شيخه وهكذا في سلسلة تنتهي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويكون التلقي فيها بإتمام الفعل الذي ورد في الحديث. ففي حديث المصافحة: »من صافحني أو صافح من صافحني إلى يوم القيامة دخل الجنة« يتلقى المريد الحديث عن شيخه ويصافحه. ولذلك قام السنوسي محمد بن علي بمصافحة الإخوان سنة 1275هـ، كما يذكر ذلك أحمد الشريف حفيد السنوسي.(الحركة السنوسية، محمد صادق ص249، وانظر ترجمة أحمد الشريف في الأعلام 1/132)
ومن التقاليد التي سارت عليها الطريقة السنوسية مناولة ما يسمى بـ»السبحة والحزب السيفي«. وقد تحدث محمد بن محمد السنوسي عن كيفيتها كما فعلها السنوسي والده، قال: »ناولَني الوالدُ حزبَ السيفي والأحزاب والسبحة جمعها في يده وأفرغها في يدي وهي مدخرة عندي بنيّة أن تدرج معي في الكفن، وألبسَني جرداً«.
ويذكر أحمد الشريف عن نفسه أنه أخذ عن عمّه محمد بن محمد السنوسي وأستاذه الريفي هذه الطرائق مع تلقين الذكر ومناولة السبحة وإلباس الخرقة وسماع المسلسلات.
أما أوراد الطريقة السنوسية فهي القرآن الكريم، ثم الاستغفار والتهليل والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك مجموعة أوراد أخرى يقرؤها الأتباع مقسمة على مدى أيام الأسبوع، منها الحزب السيفي وحزب المغني ودعاء الاختتام بعدهما، وحزب المحامد الثمان، وحزب النور الأعظم والكنز المطلسم، وحزب التجلي الأكبر والسر الأفخر، والصلوات الثمان والورد الأحمدي، والحصون المنيعة النبوية، والأوراد الأحمدية، وكل هذه الأوراد من تأليف أحمد بن إدريس إلا الحزب السيفي الذي يعزى إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد أثبت أحمد الشريف نصوص هذه الأوراد في كتاب »الأنوار القدسية«، ويبدو من حديثه عن رحلته مع عمه محمد بن محمد المهدي إلى »الكَفْرَة« أن عمه وجميع مرافقيه كانوا يقرؤون هذه الأحزاب على مرّ أيام الأسبوع. (الحركة السنوسية 251)
هذه هي أهم معالم الطريقة السنوسية التي من خلالها يُصاغ الإخوان السنوسيون إلى جانب الوسائل الأخرى التي يتلقونها في الزاوية من معايشة وتعلّم شرعي وتعلم عسكري..إلخ، مما يصيغ الإخوان عقدياً وفكرياً وبالتالي سلوكياً وحركياً وجهادياً.
وبهذين الأساسيين، الزوايا ومنهج الطريق السنوسية، بنى الزعيم محمد بن علي السنوسي حركته الجهادية التي استطاع بها أن يكسب ودّ القبائل في إفريقية وأن ينشر الدعوة بينهم والأقطارِ الإسلامية الأخرى ويؤسس اثنتين وخمسين زاوية تنشر الثورة الإسلامية في شتى الأقطار الإسلامية، واستطاع أن يوجد مكانة مهيبة لهذه الحركة تآزِرُها قلبياً الشعوب الإسلامية في شتى البقاع وتحسب لها الدول الاستعمارية أكبر حساب وتعدّ العدة لليوم الذي تقضي فيه على هذا الأخطبوط الجديد الذي يهدد آمالها بعد أن أصبح سقوط دولة الخلافة الإسلامية قاب قوسين أو أدنى.
وبعد هذا الكفاح الطويل الذي خاضه محمد بن علي السنوسي، والذي لم يهدأ فيه كفاحه وصوته ونشاطه وهي في سن الثانية والسبعين من عمره- هاجمه المرض واشتد عليه وهو في مركز الحركة في الجغبوب، فاستدعى ابنه محمد ليسلمه أمانة الحركة، ثم فاضت روحه في شهر صفر الخير سنة 1276هـ، 7 سبتمبر 1859م.

(نقلاً عن مجلة المجتمع) 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق