الاثنين، 22 يوليو 2013

إعادة ترتيب أوراق سقوط الخلافة (19)

د. عجيل النشمي
السنوسية تعدّ للعمل الجهادي لمساندة دولة الخلافة

بعد أن توفي مؤسس الحركة السنوسية محمد بن علي السنوسي عهد بقيادة الحركة إلى ابنه محمد بن محمد بن علي السنوسي، المهدي الذي ولِد بـ»ماسة« في الجبل الأخضر في ذي القعدة من عام 1260هـ، نوفمبر 1844م، قبل مولد أخيه محمد الشريف بسنتين، وبالجبل الأخضر تلقى محمد بن محمد تربيته الأولى حتى توسط السابعة فانتقل إلى الحجاز وبقي مدة يتعلم على أيدي كبار الإخوان وشيوخ السنوسية بزاوية أبي قبيس بمكة المكرمة، ثم أرسله والده إلى زاوية الجغبوب في ربيع الأول من عام 1274هـ، أكتوبر 1857م. وعهد إلى تربيته وتدريسه مع أخيه محمد الشريف إلى كبار الإخوان السنوسيين وقد بدت عليه مخايل الذكاء من صغره، وحفظ القرآن الكريم وهو لم يبلغ الرابعة عشرة من عمره وفي قول وهو في الثامنة من عمره.
            وعندما توفي والده محمد بن علي السنوسي كانت سنة حوالي ست عشرة سنة ومع ذلك فقد بايعه جميع الإخوان رئيساً للحركة السنوسية. وقد تميز شخصيته بعدة ميزات، فقد كان على جانب كبير من التقوى والورع والفقه وذو شخصية مؤثرة أخذ من أبيه حظاً وافراً وكان أبرز ما فيه صفته القيادية التي رعاها ونماها فيه شيوخه ومؤدبوه، حتى أصبح وهو في هذه السن قادراً على قيادة حركة كبيرة ينتظر التاريخ دورها.
            وكان أتباع الحركة السنوسية يؤمنون بمهدوية محمد بن محمد بن علي ويقولون بها، وقد تردد هذا القول في شعرهم وزجلهم وكتاباتهم وأحاديثهم. من ذلك ما جاء في قصيدة قالها أحدُ الإخوان ونقلها أحمد الشريف في تاريخه:
على أنه المهدي قد كان في المهدِ
إمامٌ جليلٌ بشرتنا به العلا
ولا شك عند اثنين في أنه المهدي
إمامٌ إلى بيت النبوة ينتمي
وأفرد أحمدُ الشريف في تاريخه فصلاً تحدث عن دلائل مهدويته مستنداً إلى الأحاديث النبوية الواردة في ظهور المهدي وعلى ما قاله والده محمد بن النسوي في هذا الصدد؛ وقد لاحظ بعض الرحالة الأوروبيين أن بدْوَ الصحراء اعتقدوا بمهدويته ولم يؤمنوا بحقيقة موته عند وفاته. ولو أننا بحثنا عن أول بروز هذه الفكرة لرأينا أنها ظهرت في حياة والده محمد بن علي السنوسي الذي كان مؤمناً بمهدوية ابنه، ومن ذلك ما قاله لزوجته البسكرية عندما سألته لماذا سمّى ابنه المهدي فأجاب: »ليحوز جميع أنواع الهداية ونرجوا الله أن يجعله هادياً ومهدياً –وفي راوية-: رجوتُ أن يكون المهدي المنتظر«. وبعد وفاة محمد بن علي السنوسي نمت فكرة مهدوية محمد بن محمد وانتشرت وصار لها براهينها عند الناس بعد أن التمسوا لها ما يعززها من الإشارات والظواهر على تثبيتها مثل كون اسمه محمد واسم أبيه محمد واسم أمه فاطمة. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله فيما يرويه أبو داود: »لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً مني أو من أهل بيتي –شك من الراوي- يواطئ اسمُه اسمي واسمُ أبيه اسمَ أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً«.
            ومن الظواهر أيضاً وجود شامة على خده وبلوغه سن الأربعين في سنة 1300 هـ، وولادته قرب بلدة ماسة.
            ولقد عمّ القول بين الإخوان السنوسيين بمهدوية محمد بن [محمد بن] علي حتى قال به عامتهم وبعض علمائهم. إلا أن شخصاً واحداً أعلن معارضته لهذه الدعوة وأبى الموافقة على القول بمهدوية محمد بن [محمد بن] علي، ذلك الشخص هو محمد بن [محمد بن] علي السنوسي نفسه؛ فالأخبار الموثوقة المتواترة على أنه كان ينفي هذا القول وينهي أتباعه عنه، ومع أنه سمع من أبيه قوله لكبار الإخوان: »نحن من جماعة المهدي..« وما سمعه مما تناقله أتباعه عن أبيه إلا أنه فهمها على أنها نوع تشجيع له وعمل على رفع منزلته أمام الإخوان خصوصاً وأنه صغير السن. ومما يروى عنه أن زوجة أبيه البسكرية سألته: أصحيح أنك المهدي المنتظر؟ فأجابها: قيل لي أن هناك من يهرف بهذا الخرافة. وحين تسلّم محمد بن محمد زمام الأمر كانت الحركة السنوسية تمر بأصعب مراحلها، فقد استلم الحركة وهي في نهاية طور التكوين والتأسيس وتأصيل الفكرة ونشرها داخل المغرب العربي وخارجه، ولم تتعرض الحركة طوال هذه المدة التي تقدر بعشرين عاماً تقريباً من حياة والده لأية مصادمات تذكر كي تكون معياراً لقوة الحركة. وقد كان والده يتجنب كل ما قد يجره إلى مثل هذه المصادفات ليتفرغ للتربية والإعداد.
            وقد تسلّم محمد بن محمد الحركةَ ومطامع الدول الأوروبية بدت تتجه نحو المغرب العربي عموماً وليبيا موطن الحركة السنوسية خصوصاً إذ بدأت تشعر بنموّ هذا الخطر الجديد، وبدأت تعدّ لهذه الحركة الأهبة والمؤامرات والدسائس، فكان على محمد السنوسي أن يرقب هذا الجانب ويحذره ويقدّر خطورته. ومن جانب آخر فإن دولة الخلافة الإسلامية بدأت تتوجس من هذه الحركة خيفةً، فقد كانت تظن أنها بادرة لإنشاء دولة منفصلة عن جسد دولة الخلافة وفي ذلك إضعاف لمكانتها مع علمها يقيناً أنها لا تستطيع أن تطوّق هذه الحركة ولا أن تستوعبها فضلاً عن ضربها. فكان على محمد السنوسي أن يراقب هذا الجانب الحساس ويحدد موقفاً واضحاً تجاهه ينفي الشبه ويقضي على ما قد يكون سبباً في المواجهة بينهما. وكان عليه أيضاً أن يسير بالدعوة وسط الدعوات المناوئة له وأبرزها حركة محمد بن أحمد المهدي في السودان، فإن بوادر الصدام ومبرراته قائمة تجاهه.
            كان على محمد السنوسي أن يسير بالدعوة وسط هذه العواصف كلها بحكمة وروية وحسن قيادة. وقد اهتم محمد السنوسي بالحفاظ على الخط الجهادي والفكري للحركة فبقي في منطقة الجغبوب باعتبارها مركز الحركة، وظل فيها حوالي ست وثلاثين سنة من عام 1276 [إلى] 1313هـ. وقد ورث عن والده تنظيماً إدارياً جيداً كان على ضوئه تسير الحركة، إلا أن محمداً السنوسي غيّر بعض هذه النظم مما يتوافر والطور الجديد للحركة فكوّن له مجلساً أشبه ما يكون بالمجلس الأعلى للنظام، وكان هذا المجلس يشكل قمّة الهرم الذي قاعدته الزوايا.
            ذكر أحد المؤرخين أن المجلس كان يضم إلى كبار الإخوان المقيمين في الجغبوب كبار رؤساء الزوايا، وإنه كان يجتمع سنوياً في الجغبوب للنظر في أهم الأمور برياسة محمد الشريف، ثم تعرَض قراراته على محمد بن محمد السنوسي. وقد وزِّعت الأعمال الرئيسية على أفراد هذه الفئة من كبار الإخوان، فاختصّ كل واحد منهم بجانب، فكانت لمحمد الشريف أخي محمد السنوسي مهمة الإشراف على الجانب العلمي، وقد أشار والده لاتجاهه العلمي في قوله: »للمهدي (أي محمد بن محمد) السيف، وللشريف (أي محمد الشريف) القلم«. أما الآخرون فواحد للقضايا المالية، وثان للمراسلات، وثالث للمقابلات، وما إلى ذلك من اختصاصات احتاجها النظام في طوره الجديد.           وقد بقيتْ كثير من النظم الإدارية السابقة على ما نظمها والده.
            وقد حافظ السيد محمد السنوسي على سير الزوايا بخطة والده، فهي السبيل الناجح لانتشار الحركة. وقد توسع في نشرها كثيراً حتى وصلت عام 1888م إلى مائة زاوية خضعت من خلالها جميع الأقطار الليبية، ويدين لها في برقة كل القبائل تقريباً. وفي تونس أنشأ السنوسي خمس زوايا، وفي الجزائر خمس زوايا،وفي مراكش ثلاث زوايا، وأنشأ زوايا في طريق القوافل إلى مصر في سيوه والزيتون والحوش (حوش أبي عيسى) بجهة الإسكندرية والنطرون، ثم في الفرافرة منذ عام 1860م، وفي الترتيبات من الواحة الداخلة، وهذا عدا الزوايا في القطر المصري نفسه في الإسكندرية والقاهرة والسويس، وبلغت زواياه في مكة وجدة وينبع والمدينة المنورة اثنتي عشرة زاوية، ووصلت الزوايا حتى العراق وساحل الصومال الإفريقي ثم القسطنطينية والهند.
            وظلت الزوايا تحافظ على خطها الفكري الذي وضعه والده، فكانت الزوايا بمثابة الجامعة يؤمها الشباب ليتلقوا فيها أنواع العلوم الشرعية إلى جانب فهم الطريقة السنوسية وبالتالي نشرها في شتى البقاع التي وردوا منها. واستطاعت الحركة السنوسية أن تقف حجر عثرة أمام المدّ التبشيري في إفريقية كلها خصوصاً في القبائل الوثنية التي استوعبتها الحركة السنوسية ودال معظم الوثنيين للإسلام.
            أما الجانب العسكري الجهادي فقد اهتم به محمد السنوسي اهتماماً كبيراً، وتطوّر على يديه تطوراً كبيراً –ذكرنا جانباً منه سابقاً- وأصبحت الجغبوب ثكنة عسكرية مستحكمة، كما أن الزوايا الأخرى المنتشرة في المغرب العربي خصوصاً استمرت على الاهتمام بتعليم الرماية والاستعداد لأي خطر قد يهدد الدعوة وسيرها.
 (نقلاً عن مجلة المجتمع) 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق