الاثنين، 22 يوليو 2013

إعادة ترتيب أوراق سقوط الخلافة (59)

د. عجيل النشمي

دولة الخلافة والحركة الوهابية


رأينا في الحلقة السابقة كيف تشابكت العلائق بين دولة الخلافة وآل سعود وآل الرشدي، ووقفنا مع وقوف دولة الخلافة المتأني والمتردد في مساندة آل رشيد، أو الاعتراف بالأمر الواقع، وإقرار الحركة الوهابية التي أعلنت دولة الخلافة الحرب عليها من قبل، ورأينا أ، الأمر في ذلك كان في يد النابه السلطان عبد الحميد- ثم استعرضنا جهود أمير البيان »شكيب أرسلان« والشيخ رشيد رضا بالحيلولة دون وقوع كارثة الصدام. واليوم نضيف إلى تلك الجهود جهود أحد المخلصين الذي يحفظ التاريخ له تلك اليد الواعية، وما بذلته من خير للإسلام والمسلمين.
            هذا ما لزم طرقه في هذه الحلقة، فنقول وبالله وحده التسديد...
            وإذا ذكرت هنا جهود المخلصين في مزاولة الضغط على الدولة العلية لتغيير سياستها فإن للشيخ جاسم الثاني قائم مقام قضاء قطر ورئيس عشائرها دوراً كبيراً مؤثراً سيذكره التاريخ المعاصر، فقد بذل جهوده في طرف الأمير عبد العزيز والسلطان عبد الحميد، وتوسط لحل المعضلة وكان له دور في حمل دولة الخلافة على تغيير سياستها.
            ولم يجد صعوبة في إقناع الأمير عبد العزيز، فقد كان مقِراً لدولة الخلافة بالطاعة خلافاً لما أشيع عنه. وقد أثمر اتصال الشيخ جاسم الثاني به أن أرسل الأمير عبد العزيز رسالتين إلى السلطان عبد الحميد يشرح فيها موقفه، سنستعرض لهما بعد أن نستعرض رسالة الشيخ جاسم الثاني إلى السلطان عبد الحميد، ورسالته إلى والي البصرة يوضح له فيها حقيقة الأمر وأبعاده ويطلب مساهمته في حل المشلكة لدى الدولة العلية. يقول في رسالته إلى السلطان عبد الحميد، وهي فيما يبدوا الرسالة الثانية في هذا الخصوص:
»إلى الأعتاب المقدسة والركاب المحروسة السلطانية أيد الله سرير سلطنته بالعز والنصر آمين. إن عبوديتي وصدقي وإخلاصي وغيرتي وحميتي لا يدعوني أن أترك النصح لديني ودولتي وسلطاني سواء صادف قبولاً أم لا، فقد سبق من هذا العبد الصادق العرض بعدم تسيب سوق العساكر الشاهانية على ابن سعود وأن الأمر دون ذلك حيث أن المشهور والمعروف من سياسة وحكمة مولانا أمير المؤمنين خليفة رسول الله رب العالمين نصره الله وأيده المرحمة والشفقة لعموم التبعية السلطانية وأن ليس في طبعه الشريف اتباع آراء أرباب المقاصد والأغراض الذين لا يقدرون عواقب الأمور حق قدرها والذين لا يهمهم إلا منافعهم الشخصية على أن ليس هناك سبب يستوجب سوق العساكر المنصورة على ابن سعود سوى العداوة السابقة الثابتة بحكم الطبيعة بينه وبين الأمير ابن رشيد، وأن الأمير ابن رشيد وجد من يساعده على مقاصده من أرباب الأطماع ببذل النقدين حباً للانتقام وقد أعرضتُ بلسان الصدق والصداقة و استرحمتُ عدم سوق العساكر الشاهانية على ابن سعود وأن كل مطلب ومقصد يحصل بدون أن تطلقوا على نجد وأهلها اسم العصيان الذي يكلف الحكومة السنِية من المشاق والمصاريف والخسائر ما هي غنية عنها بدون فائدة على أن ابن سعود ليس بعاص ولا خارج عن رسم الطاعة.
            نعم، إن الذين أدخلوا في أفكار مولانا أمير المؤمنين سوء قصد ابن سعود وأن منه الخطر على نجد وما يليها هم أعداء الدولة الذين يريدون تفريق الكلمة حيث أن أمثال هؤلاء لا يستفيدون نقداً وجاهاً وموقعاً إلا بإحداث مثل هذه المشاكل والقلاقل كما فعلوا في غير هذه القضية وكما فعلوا في مبادي مسألة الكويت وقد عرضت أفكاري عند حدوث كل حادثة والآن قد بلغني أن الدولة العلية، صانها رب البرية، قد عزمت على إظهار عساكر مرة ثانية لنجد وحيث ان هذا القصد مبنيّ على أوهام لا وجود لها أتيت أعرض ما يجب علي ذمة وديناً من أداء النصيحة بأن سوق العساكر على نجد وأهلها ليس فيه صلاح ولا منه فائدة، وأجلّ الفائدة وأعظم الفوز بجمع الكلمة الإسلامية العثمانية، وأهل نجد بالتحقيق ما خرجوا عن هذه الدائرة ولا صدر منهم سوى احتلالهم وطنهم بحكم المشيخة والرياسة حسب القواعد العربية وحيث أن الذي كان مترئساً فيها ابن رشيد قام هو ومن هو مساعد له وعلى شاكلته يدخلون الأوهام على الحكومة السنية وليس عندهم إلا حب الانتقام بدون مصلحة ولا فائدة، والأولى والأصلح أن ينذر ابن سعود وكبار نجد وعلمائه بالنذر ويبلغوا البلاغات المقتضية سياسة ويوعظون بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن أذعنوا وأطاعوا لإرادة سلطانهم وخليفتهم فنعمّ ذلك وهو المقصود، وإن أبوا وعصوا فذاك آخر علاج على أنه قد بلغني أن ابن سعود قد استرحم مراراً بأن الحكومة تشكل لجنة لتحقيق أحواله وأحوال ابن رشيد وكف الطرفين وذلك أولى وأصلح وأحقن لدماء المسلمين وأفود للدولة العلية. وعلى كل حال أسترحم باسم العدالة والصداقة والحمية أن يصرف النظرعن سوق العساكر وتنظر الدولة العلية في الأمر بجعل مشايخ نجد مأمورين رسميين لا فرق بين ابن سعود وبين ابن رشيد، كما إني أسترحم أن لا تُجعَل نصيحتي هذه في زوايا الإهمال، والأمر والفرمان لحضرة من له الأمر.
8 رمضان سنة 1322
العبد الصادق قائمقام قضاء قطر ورئيس عشائرها وقبائلها
جاسم الثاني«.
            وتلمس لأول وهلة من قراءة هذه الرسالة أنها كتبتْ بمداد من قلب مشفق مخلص وضمّنها نقاطاً هامة يمكن استعراضها مختصرة في أنه: يقدم في بداية الرسالة ما هو معهود من أسلوب المراسلات وقتئذ، ولا غرابة في تعبير العبودية، فإن المراد به تقديم الخدمات وأنه بمنزلة الخادم من سيده، ويشير بعد ذلك إلى أنه سبق وأن أرسل للسلطان في هذا المعنى رسالة. ثم بدأ بإبراز القضايا السياسية مبيناً أن سياسة سوق العساكر لا تتناسب وما يتصف فيه السلطان عبد الحميد من حكمة وبُعد نظر، فإنه لا محصلة ولا مصلحة ترجى من وراء ذلك إلا شفاء غليل المغرضين الذين أشاعوا عن ابن سعود ما لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة.وحتى على فرض سلامة تسيير العساكر فإن ما يطمح  إليه السلطان من مصالح يمكن تحقيقها بالطرق السلمية.
            ثم بيّن بأسف أن تستجيب الدولة العلية لإشاعات وأكاذيب المغرضين وتحمّل نفسها هذا العناء في تسيير الجيوش دون طائل، ويبدو من كلامه أن الدولة العلية كانت تزمع تسيير حملة بمنزلة وضخامة الحملة الأولى التي قادها أحمد طوسون وإبراهيم باشا.
            وقد كان هناك تحرك –فعلاً- من دولة الخلافة في تسيير جيوش إلى نجد، لكن –والله أعلم- لم تكن بذلك المستوى السابق في الحملة الأولى، وأن المقصد كان مجرد إيجاد حامية في بلاد القصيم لترقب الوضع تلبية وبناء على طلب ابن سعود نفسه –كما تشير آخر الرسالة- ولم تكن الصورة واضحة ولا قرار الحرب مقطوعاً من قبل دولة الخلافة، مع عدم استبعاده لولا هذه الجهود.
            وتشير مجلة المنار إلى طرف من هذا قائلة: »علمنا من مكاتبات من بغداد وردت على بعض العربان التجار في مصر، بأن الدولة جهزت أربعة توابير وقد وجل لذلك أنصار ابن رشيد، وارتاب أنصار ابن سعود الذي روى أنه زحف بخيله ورَجِله على حايل عاصمة ابن رشيد، وسبب الريب أن الدولة العلية كانت تريد أن تجعل القصيم معسكراً لحفظ الأمن في بلاد نجد برضى ابن سعود. أخذت بوادر هذا الأمر، ثم سكتت عنه، ولعلها عادت إ ليه الآن –ولابد أن يأتينا الخبر اليقين بعد حين«.
            ثم يؤكد الشيخ جاسم للسلطان عبد الحميد أن آل سعود وأهل نجد لم يشقوا عصا الطاعة ويعلنوا العصيان، وما زالوا في دائرة الدولة العلية.
            ثم يعرض للسلطان رأيه ومشورته بأن يتمهل السلطان في تسيرر الجيوش، ويجري الأسلوب السلمي لحل القضية، ويرى ثمرات ذلك، وبناء عليه يرى بعد ذلك مكمن المصلحة.
            ثم يطلب في ختام رسالته مطلباً منطقياً، بأن تعترف الدولة العلية بالأمر الواقع وتقر آل سعود على ما تحت يدهم، ويكونوا ممثلين رسميين يحكمون باسمها كما كان ابن رشيد يحكم باسمها.
            ولم يكتف الشيخ جاسم في رسالته إلى السلطان عبد الحميد فحسب، بل بذل جهده في حمل والي البصرة –وقد كانت له مكانة لدى الدولة  العلية- ليبذل هو الآخر جهده بنفس [الجهد] الذي كان يحمله الشيخ جاسم، وسنترك لهذه الرسالة تعرض الأفق السياسي الحكيم وبُعد النظر الرزين الذي كان يتحلى به هذا الرجل الهمام:
»لجانب والي ولاية البصرة الجليلة صاحب الدولة مخلص باشا الأفخم: يقضي على كل عبد صادق، صاحب وجدان وغيرة وحمية لدينه ودولته وسلطانه عند حدوث كل مشكلة سياسية في داخل الممالك المحروسة أن يعرض فكره ونصيحته لأولياء الأمور عساه أن يصادف قبولاً ويوفق لأداء واجب الخدمة بالنصيحة فإنه لا يخفى على دولتكم حدوث القلاقل والمشاكل في قطعة نجد بين الأمير ابن رشيد والمترئس في وطن آبائه وأجداده عبد العزيز بن سعود حتى تحول نظر أرباب الحل والعقد من أمراء ومأموري الدولة العلية إلى هذه المسألة فلبست غير قالبها الحقيقي فجعلوها محوجة للتدخل العسكري ويقيناً أن ذلك غير موافق للرضاء العالي، فإن رضاء أمير المؤمنين حفظه الله ونصره في حل كل مشلكة حلاً لا يخالطه وجود غائلة ولايلجأ الدولة لتكبد المشاق والخسائر وإهراق دماء ألوف من المسلمين فإن كل حادث لا يحوج حقيقة إلى التدخل العسكري إذا صارت فيه المداخلة بادئ بدء كانت نتائجه غير محمودة وموجب للتلف وتكبد الخسائر والمشاق وإهراق دماء المسلمين وفي النهاية لا تأتي بفائدة ولا تنتج نتيجة حسنة وما ذلك إلا الخطأ السياسي يتبع ونحن جماعة المسلمين لنا شريعة إلهية تنهانا عن تفريق الكلمة وتأمرنا بتوحيدها والطاعة الكاملة بجميع معناها لخليفة رسوله أمير المؤمنين بنص «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحُكم». نعم، إن من دأبه بذر حب الشقاق والتفرقة بين جماعات المسلمين يجدون لهم عند حدوث كل حادث باباً واسعاً من الأوهام يدخلون فيه على غير وفق الرضاء العالي لينالوا بذلك مركزاً وثروة، وليس قصدي من هذه بيان مساوي بعد الأمراء والمأمورين، بل قصدي أداء ما يجب علي ذمة وحمية وديانة من أداء النصيحة ببيان لزوم حل هذه المسألة حلاً يوافق للمصلحة بدون إحداث مشاكل أصعب ماهي فيه الآن وذلك امتثالاً للشريعة الإلهية: «ادعُ إلى سبيلِ ربِّك بالحكمة والموعظةِ الحسنة» فيلزم على من هو مثل دولتكم حائزاً هذا المقام متصفاً بالصفات الحميدة أن يجعل كل اجتهاده في حل هذه المسألة حلاً يوافق للمصلحة الحاضرة وذلك بطريق الإصلاح بين الفئتين المتشاجرتين بدون مساعدة أحد الطرفين على الآخر حتى لا يوجب له المروق عن الطاعة حقيقة وفعلاً وذلك بأن يكفّ الفريقان قطعياً عن إحداث القلاقل وإلزام كل منهما الراحة والسكون، وإن كان ثمة اشتباه من ابن مسعود وأمرِه أعطى التعليمات اللازمة وأنذر الإنذارات المقتضية فإن أذعنوا وأطاعوا فلا تبغوا عليهم سبيلاً وإن عتوا وعصوا فسوق العساكر آخر علاج تستعمله الدولة لإخضاع الرعايا على أن ابن سعود طلب هذا الأمر مراراً وبحجة التوهب –أي الوهابية- الأغرض على الحكومة السنية الأوهام ومنعوها من استعمال الرفق الذي هو أوفق للمصلحة ومع هذا فإني مقدم للأعتاب الملوكانية ولمجلس الوكلاء الخاص تلغرافاً هذه صورته أقدمها لفاً لتعرض أيضاً بواسطة دولتكمم عساه أن يصادف قبولاً فأفوز بخدمتي لديني ودولتي ومتبوعي الأعظم خليفة رسول رب العالمين نصره الله وأيده وعلى كل حال الأمر والفرمان لحضرة من له الأمر.
8 رمضان سنة 1322
العبد الصادق المخلص قائمقام قضاء قطر ورئيس عشائرها وقبائلها جاسم الثاني».
            وإنك لتدرك في هذه الرسالة نقاطاً سياسية واعية تعرض فيها إلى حقيقة المشكلة والموقف الذي يمكن أن تقفه دولة الخلافة بناءً على الصورة المشوشة لحقيقة الأمر ثم الحل الذي يقترحه.
            ولقد سلك في رسالته هذه مسلكاً ذكياً يختلف عن مسلك رسالته إلى السلطان. فعرض أولاً بوضوح أن القضية قضية سياسية داخلية ما كان ينبغي لدولة الخلافة أن تتدخل فيها بشكل مباشر. ولما كانت الصورة التي نقلت إلى دولة الخلافة صورة مقلوبة لا تمثل الحقيقة حين صوروا عمل ابن سعود بأنه خروج عليها وعصيان مما حمل دولة الخلافة في التفكير بتسيير العساكر.
            ثم يشير إلى نقطة حساسة لم يكن من الأدب ولا من الحكمة أن يتعرض لها في رسالته إلى السلطان، تلك هي موقف السلطان ذاته من تلك القضية. فيلمح بأسلوب مؤدب أن السلطان محمول على سوق العساكر، فإن مقتضى ما عهد عنه الحكمة وبُعد النظر وتجنيب دولة الإسلام مسالك المشاق والخسائر واستنزاف الطاقة، خصوصاً وأنها محتاجة لتجميع الجهود وتقليل جبهات الأعداء. ويكرر هذه النقطة في رسالته مرتين لأهميتها. وطرق الشيخ جاسم لهذه النقطة وتضمينها رسالته إلى والي ولاية البصرة نفى فيما تعنيه تشكيل جبهة مساندة للخليفة تقوى مركزه وتسند رأيه الحقيقي أمام قوى الضغط في إستانبول.
            ثم يبين الشيخ جاسم رأيه الذي يريد من والي البصرة أن يوافق عيه، وهو إقرار الأمر الواقع.
            وإذا كانت هذه جهود المخلصين يبذلونها لصون دماء المسلمين، فما هي جهود الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود صاحب الشأن في هذه القضية المصيرية؟ هذا ما نطرقه في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
مجلة المجتمع، العدد 526، سنة 1401 هـ.
  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق