الأحد، 21 يوليو 2013

هل نحن أحرار؟

  بقلم الأستاذ: محب الدين الخطيب *
 
 يجب أن نمتحن نفوسنا ، وأن نمرِّنها على الحرية
            الحر هو من لم يكن عبداً .
            الحر هو من لم يكن أسيراً .
            الحر هو من يستطيع أن يسعى لحقه ومصلحته المشروعة دون أن تحول بينه وبينها حوائل ، بشرط أن لا يكون في سعيه عدوان علىحق الغير ومصلحته المشروعة .
            هذه حقائق يعرفها كل قارئ من قراء هذه الصحيفة .
            ويحسن بنا أن نقف قليلاً فنفكر : هل نحن أحرار ؟
            تبادر لي هذا السؤال وأنا أقرأ افتتاحية المقطم الصادر يوم الأحد ، فرأيت أحد قرائه يشكو استخفاف دور السنما بالجمهور المصري ، وابتزازها لأمواله ، وتعيينها أجوراً لمشاهدة مناظرها تعد فاحشة جداً بالنسبة إلى سائر المرافق التي يقوم بها الناس في مصر من تجارة وصناعة وزراعة ، لا سيما وإن دور السينما عندنا لا تؤدي لحكومة البلاد شيئاً من الرسوم والضرائب كما تفعل مثيلاتها في أوربا وأمريكا.
            ولما عالج المقطم هذا الموضوع كان جوابه  عن تذمر الناس من غلاء أجور السينما : إن مسألة الأجور لا تتعرض لها ، لأنها بين عاقدي صفقة يتعاقدان عليها بتمام رضاهما واختيارهما ، فإذا كان الجمهور يرى أن ثمن التذاكر باهظ فله من إعراضه عن دور السينما خير علاج لهذا الأمر .
            إذن فالذي يتذمر منه الجمهور  المتردد على دور السينما بيده الخلاص منه لو شاء ، وذلك بإعراضه عن دخولها إلى أن تحقق رغباته : فتجعل ثمن تذاكر الدخول متناسباص ربحُه مع أرباح المرافق الأخرى في البلد ، وتحترم لغة البلاد فيكون شرحُ المناظر المعروضة بالعربية الصحيحة القويمة ، وتحترم عواطف  المسلمين وكرامتهم فلا تعرض منظراً عن بلاد إسلامية أخرى فيها إساءة لها وتشويه لكرامتها ، كما فعلت دار سينما أولمبيا في القاهرة مرة إذ عرضت رواية عن المغرب والمغاربة هي أولاً خلاف الحق ، وثانياً فيها حطّ من كرامة ذلك الشعب  العربي الإسلامي الكريم .
            يتكون جمهور الأمة من فريقين : الفريق الأول – وهو الأقل عدداً – هو الذي يشعر بكرامة نفسه ، وينشد الحرية في تصرفاته ، فهذا الفريق هو موضع الأمل في تحرير الأمة من عبوديتها . وأما الآخر – وهو الأكثر عدداً – فإنه في الغالب أسير شهوته ، ولكن على الذين بيدهم تكوين الرأي العالم : من صحفيين ، ومدرسين ، وخطباء ، ومربّين ، أن يُشعر كل واحد منهم من يليه من أفراد  الأمة بأنهم أسرى ، وبأنهم في حاجة إلى تمرين نفوسهم على الحرية ، وإلى أن يمتحنوها المرة بعد المرة حتى ينهضوا بها من حضيض العبودية فتتبوأ مرتبة الحرية التي لا تنال الأمة المعالي إلا بها .
            دور السينما مثلٌ من الأمثال خطرَ ببالنا عند قراءة مقالة المقطم ، فضربنا المثل بها تقريباً لمعنى الحرية والعبودية إلى أذهان من لم يسبق لهم التفكير في هذه المعاني السامية ، وإلا فوسائل امتحان الحرية والعبودية في النفوس كثيرة جداً ، وأهم مظهر من مظاهرها « حرب القرش » التي يستطيع المسلمون أن يخوضوا غمارها وأن يهزموا بها جميع أعدائهم لو أمكنهم أن يطبِّعوا نفوسهم بطبع الحرية ، ومَن منا يرضى لنفسه بذل الأسر والعبودية ، ومَن منا يسوءه أن يكون حراً كامل الحرية . كلنا نشمئز من العبودية والأسر ونحتقر من يرتضيها لنفسه بطيب خاطر ، ولكن أكثرنا – وللأسف – على جانب من هذه العبودية وسنبقى متصفين بها إلى أن نقتنع بأننا خائضون « حرب القرش » وأن التساهل في هذه « الحرب » يؤدي إلى « الخذلان في المعركة » .
            لقد كنا حتى اليوم نساءً تبكي ، فيجب علينا بعد اليوم بأن نصير رجالاً تعمل .
            كنا نساء تبكي ، فإذا جارت علينا دور السينما بابتزاز الأرباح غير المشروعة من جيوبنا لجأنا إلى الصحف نصخب فيها ونشكو ، والخواجة صاحب دار السينما يهزأ بنا من بعيد ويحتقرنا لأنه يعلم أن صخبنا لا ينقص شيئاً من مقدار «قروشنا » التي تتسرب إلى خزينته ، ولا من أثر « دعايته » التي تتسرب من فِلم السينما إلى عقولنا وقلوبنا ، أو على الأقل إلى عقول أهل السذاجة منا وقلوبهم .
            كنا نساء تبكي ، فإذا جارت علينا دولة من الدول اكتفينا بالاحتجاج والصخب ؛ والدولة الجائرة علينا لا تبالي بنا لأنها لا ترى لصخبنا ضرراً مادياً يلحق بها ثم يبقى لاحقاً بها إلى الأبد .
            أما بعدَ اليوم فيجب أن نتحوّل إلى رجال يعملون ، بل جنود يجاهدون . والسلاح الذي نحارب به هو « القرش » نمنعه عن الوصول إلى جيوب عدونا ونحرص على أن لا ينتقل منا إلا إلى أقرب الناس إلينا « بقدر الإمكان » .
            حرية « التصرف في القرش » هي سبيل الحصول على الحرية إذا أحسنَّا هذا التصرف . وإن أمامنا جيشين بدءا يخوضان هذه المعركة واكتشفا – منذ الساعة الأولى – السلاح الماضي الذي يستطيعان أن يقفا به في وجه الأعداء الأقوياء وأن ينالا منهم وأن يكون أثره فيهم بليغ الألم . الجيش الأول جيش الهند الذي امتنع بالفعل عن استعمال المصنوعات الأجنبية وبدأ بشرِّ المصنوعات وهو الخمر ، فتألفت كتائب النساء للوقوف أمام الخمارات ومنع المواطنين من دخولها . والجيش الثاني جيش المغاربة الذين لجأوا إلى سلاح المقاطعة فاستعملوه بمهارة عجيبة ونزع خريجو جامعة السوربون الفرنسية والمتعلمون في أرقى مدارس فرنسا ملابسهم الإفرنجية عن أبدانهم وعادوا إلى العمامة والبرنس فكانوا مثال الهيبة والجمال الذي يذكِّرهم بجمال شباب الأندلس أيام الزهراء والحمراء والعزّة القعساء ، فالشاب المغربي اليوم يبدو بملابسه المغربية المهيبة كأنه أمير من أمراء بني عبد شمس في قرطبة أيام الناس والزمان زمان .
            أقسم بالله العظيم الأعلى أن الهنود في الهند التي كانت مضرب المثل في الذل ، وأن المغاربة الذين تصرفت فرنسا في بلادهم تصرُّف مالك الرقاب في الرقاب التي يملكها ، إذا استطاعا أن يمنعا « القروش » بضع سنوات عن أن تصل إلى جيوب الجائرين عليهم ، فإن الحرية تكون منهم قاب قوسين أو أدنى . وإن الذي ليس بيده سلاح ناري ليس له من سلاح آخر يسترد به حريته إلا هذا السلاح مشحوذاً على الحجر الذي تسحق به الأمة شهواتها .

*  صحيفة (الفتح) العدد 231 ، القاهرة : يوم الخميس 5 شعبان 1349 ، السنة الخامسة [ص 481 – 482]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق