بقلم: ف. دانييل
ترجمة: عبد الرحمن
كيلاني
لقد
وجدنا أمير المؤمنين
وجعلناه مَلِكَنا
(نشيد هوسي)
عثمان دان فوديو معروف لقليل من الإنجليز، لكنه لبضعة ملايين من سكان
السودان الغربي يعتبر بطلاً قومياً وقائداً روحياً يأتي بعد النبي نفسه.
قصة عثمان دان فوديو هي قصة الجهاد التي نتجت عن تأسيس الحكم
الفولاني (الفيلاني) لما يعرف الآن بالأقاليم الشمالية لنيجيريا.
في نهاية القرن الثامن عشر كان هذا البلد مقسماً بين عدة
مملكات صغيرة، معظمها تتكلم اللسان الهوسي، وهي بالاسم محمدية[1]،
ولكنها في حرب مستمرة فيما بينها. وكان سكان هذه الممالك قد وصلوا إلى
درجة من الحضارة، فقد تكونت لديهم تقنية عالية في النسج والصباغة
والدباغة، وكانت أنسجتهم القطنية ومنتجاتهم الجلدية معروفة في شواطئ
البحر الأبيض المتوسط. عاشوا في مدن مسورة، وكانوا يشنون حربهم بفرسان
مدرعة، وكانوا قد طوروا نظاماً اقطاعياً وطريقة معقدة لجمع الضرائب.
لقد وصلهم الإسلام قبل بضعة قرون، ولكن تحت غطائه الرقيق كان
معظم السكان ما زالوا متعلقين بمعتقداتهم وطقوسهم القديمة.
كان يسيح في هذه المنطقة جنس من البدو الرعاة يعرفون أنفسهم
باسم «بولبي» (Pulbe)،
وأما جيرانهم الهوسيون فيعرفون باسم «الفولانيين». أصل الفولانيين ما زال
غامضاً. لقد عُرِّفوا من قبل بعض الناس بأنهم من ملوك الهكسوس في مصر،
وبقبائل إسرائيل المفقودة[2]،
وبقبائل الماساي في شرق إفريقية، وبغجر أوروبة. ويكفينا أن نقول أنهم ذوو
شفاه رقيقة، وجنس جلده أسمر، وشعورهم مستقيمة وملامح وجوههم عادية، كانوا
ومنذ قرون يجوبون المناطق مع أنعامهم من غامبية إلى بحيرة تشاد.
ومع هذا، فالفولانيون هم قوم أكثر من كونهم مجرد رعاة. هم
أصحاب ذكاء وكرامة، مع شعور موروث بالقيادة وتعلق كبير بتقليد الترفع فوق
الأجناس «السوداء». منذ وقت مبكر، يبدو أنهم كانوا متميّزين لدرجة ما
بكونهم مسلمين متعلمين وأنهم شكّلوا طبقة من المتعلمين بين السكان الزنوج
المحليين.
في الوقت الذي نكتب فيه، فإن المنطقة المعروفة اليوم بمقاطعة
«سوكوتو» كانت مقسمة بين مملكتين متنازعتين هما: مملكة غوبير
Gobir
وكبّي
Kebbi.
لقد دفعت قبائل الطوارق الغازية رجال غوبير من الشمال وسيطروا على بقايا
مملكة «زمفرى» القديمة. ومن الغرب مملكة كبي، وكانت أرضاً إقطاعية تابعة
لإمبراطورية «سونغاي» القوية، استطاعت الانفصال عن سونغاي منذ قرنين،
وحافظت بنجاح على استقلالها.
ولد عثمان، المعروف بشيخو (الشيخ)، في منطقة غوبير في حوالي
عام 1754م. كان أبوه فوديو فولانياً من عشيرة «توردة»، وكان شيخو وأخو
عبد الله قد نشآ على تعاليم الإسلام على المذهب المالكي. كان شيخو
تلميذاً نجيباً. في سن مبكرة، زار مدينة «أغاديز» الصحراوية[3]
حيث استقبله سلطانها استقبالاً حاراً وبقي فيها للدراسة لبضع سنين.
وأثناء عودته من أغاديز، استقبله ملك غوبير «باوا جان غوارزو». عاش شيخو
بضع سنين في ضيافة الملك في مدينة «الكَلاوا» وعمل معلماً لأبناء البيت
الملكي «ياكوبا» و«يونفا».
«نفاتا»، وريث الملك باوا، اختار دين المشركين من آبائه،
وعمل على وقف انتشار الإسلام. فقد أعطى أوامره بأنه لا يسمح لأي إنسان أن
يصبح مسلماً، إلا أن يولد مسلماً، وعلى كل الذين أسلموا أن يرجعوا إلى
دين آبائهم. وحرم «نفاتا» على الرجال أن يعتموا وعلى النساء أن يغطين
وجوههن. انسحب شيخو إلى قرية «دِغِلْ» رافضاً كفر نفاتا، حيث عاش هناك
منعزلاً خلال فترة حكم نفاتا ووريثه ياكوبا.
في هذه الأثناء، أصبح «يونفا» -أخ ياكوبا- ملكاً على غوبير،
وقام بزيارة خاصة لقرية دِغِل ليحيي سيده القديم (أي معلمه شيخو). بدأ
شيخو، متشجعاً بزيارة الملك ولفتته، بجوب البلد داعياً إلى الدين الحق
يحث الناس على ترك عباداتهم الشركية. كان شيخو داعياً حماسياً. الأفارقة
عاطفيون ومعرَّضون لموجوات من التعصب الديني.[4]
والمحمدي متحسب دائماً لمجيء المهدي، والداعي الناهض هو دائماً مصدر قلق
لحكامه، سواء كان أبيض أم أسود.
إن تعاليم شيخو الحماسية قوبلت بنجاح واسع، وخصوصاً بين رجال
قبيلته، وبسرعة جمَّع حوله عصابة صغيرة من المتحمسين الذين تعلقوا
بكلماته واعتبروه سيدهم.
بدأ يونفا يشعر بالخطر من جراء نمو الحركة، وتزايد شعوره هذا
بحادث بيَّن له القوة التي وصل إليها شيخو. اتخذ عبد السلام، أحد تلاميذ
شيخو، مسكناً له في بلدة «غيمبانا». عبد السلام هذا جلب لنفسه غضب يونفا.
كانت مجموعة من محاربي غوبير قريباً من غيمبانا حين طلبت من عبد السلام
–بكونه رجل دين- أن يأتي ويباركها، لكن عبد السلام رفض. مضت مجموعة
المحاربين في طريقها، ورجعوا إلى الكلاوا وأخبروا يونفا بما حدث. اعتبر
يونفا رفض عبد السلام إهانة مباشرة له وقرر معاقبته. أرسلت حملة ضد
غيمبانا. هُزِمت المدينة وقيد سكانها إلى الرق. وفي طريقهم إلى بيوتهم
عبر قطاع الطريق خلال دِغِل، وجاء شيخو ليرى ما حصل. لاحظ شيخو عدداً من
المسلمين من بين المساجين فاعترض مباشرة، وتساءل: «بأي حق جعلوا مِن
هؤلاء المسلمين عبيداً؟» وبضربة من يده فكَّ قيودهم. تخبر الروايات كيف
أن شيخو حُفِظَ بقوة معجزة. لقد صُوِّب مسدس نحوه من مسافة بضعة أقدام
ولم يصبه. فتحة بئر كانت مغطاة بأوراق الذرة وفوقها وضعت سجادة. دعي شيخو
ليمثل أمام يونفا، وأن يجلس نفسه، وأنذر عن طريق «ما فوق الطبيعة» فجلس
عن الأرض.
لم يشعر يونفا بأنه قوي إلى درجة أن يحكم على شيخو بالموت
علناً، فأرسله إلى دغل، وبعدها بقليل أنذر بزيادة تعصب الفولانيين، فأعطى
أوامر سرية بذبح كل الفولانيين في مملكته.
تسرب السر فوراً، وأنذر شيخو وأتباعه فهربوا إلى «غودو» حيث
التف حوله الفولانيون كواحد من أفاضل جنسهم. رمي التخفي جانباً، ودعى
يونفا قادة جيشه لحمل السلاح. في 21 حزيران/يونيو 1804، التقى جيش غوبير
بالفولانيين على بحيرة «كُووُتو» وتلقى هزيمة نكراء،وتغنت «نانا» بنت
شيخو بقصة المعركة بشعر أصبح أغنية كل بيت:
هرب
يونفا أمام الرعاة الحفاة
من
لا يملكون بريداً ولا فارساً
نحن
مَن كنا نُلاحَق كالأرانب
نقدر
الآن أن نعيش في البيوت
في ساحة المعركة توعد الفولانيون بالجهاد ضد المشركين.
اختار الفولانيون شيخو قائداً لهم وجعلوه «أمير المؤمنين»
(ساركِن مُسلُمي، بلغة الهوسا)، وهو اللقب الذي يحمله اليوم سلطان سوكوتو
الذي هو مِن نسله.
لقد وهب النصر في كووتو الإشارة للصعود العام للفولانيين.
أعطى شيخو راية مباركة لمن يثق به من جنده، ومعها أعطاهم النفوذ لينطلقوا
ويغزو. كانت عاصمة كبي «برنين كبي» قد أخذها أخو شيخو عبد الله في سنة
1805. وقد شهدت السنة نفسها انقلاب مملكتي الهوسا: «كانو» و«كاتسينا».
حملات ثلاث ضد الكلاوا كانت قد صُدَّت، لكن في سنة 1808 نجح «بيللو» ابن
شيخو أخيراً في دخولها وقتل يونفا وتحطمت قوة غوبير.
في بداية سنة 1810، اكتمل الجهاد عملياً. كل ولايات الهوسا،
نوبه، أداماوا وأجزاء من بورنو، كانت في أيدي الأمراء الفولانيين الذين
عيَّنهم شيخو وأعطوه البيعة. وتقريباً في كل حالة فإن الحاكم الحالي
للأراضي التي فتحها الأمراء الفولانيون هم من سلالتهم.
بعد سقوط الكلاوا، قسم شيخو إدارة دولته، فأعطى الشرقَ لابنه
بيللو، والغربَ ولأخيه عبد الله الذي اتخذ مسكناً له في غواندو في كبي؛
أما بيللوا فقد استقر في مدينة سوكوتو والتي أسسها قبلها بسنة على موقع
طبيعي قوي بين سبخات كبي وغوبير.
لقد عاش شيخو ليرى نتيجة عمل حياته. لقد وجد الإسلام تحت
راية: لقد رفعها عالياً. لقد أصبح الفولاني، من قبيلة الرعاة الرحل،
الجنس الحاكم في كل ولايات الهوسا. رجل مخلص في إيمانه وصاحب اعتقاد
دينية قوية، لديه ثقة لا يعتريها شك في دعوته الربانية، وشخصيته أعطت
لأتباعه ثقة مشابهة لثقته. عاداته البسيطة وحياته الشاقة كانت مختلفة
تماماً إذا ما قورنت بحياة الحكام الوثنيين المتأثرة بمظاهر البرابرة.
وشيخو لم يكن جندياً في نفسه، فقد أرجع نجاحه إلى فضل الله فقط. بعد
تقسيم دولته، اعتزل شيخو عن الاتصال وسخر نفسه لحياة الدراسة ، أولاً في
سيفاوة، ثم في مدينة سوكوتو. هنا مات في سنة 1817، ودفن داخل جدران
المدينة، حيث ما زال قبره مكاناً للزيارة.
قبل موته عبّر شيخو عن أمنيته في أن يكون ابنه بيللو خليفته
كأمير للمؤمنين. عندما مات شيخو كان عبد الله في غواندو، على بعد ستين
ميلاً. وعندما سمع بموت شيخو سار مباشرة إلى سوكوتو، ولكن في نفس الوقت
كان بيللوا قد اختير رسمياً أميراً للمؤمنين، وأغلق بوابات المدينة في
وجه عمه.
عاد عبد الله إلى غواندو وهو في حالة غضب شديد، وأصبحت
العلاقات بين الجانبين متشنجة. لكن جاءت فرصة للتفاهم فوراً. بلدة
«كَلَمْبينا» ثارت ضد عبد الله، وحورب هو وأتباعه داخل جدران غواندو.
عندما سمع بيللو بمصيبة عمه أسرع إلى نجدته. سقطت كَلَمبينا، وقضي على
الثورة على يد القوات الفولانية المتحدة. كان عبد الله كريماً إلى حد
اعترافه بواجبه تجاه بيللو لتدخله في الوقت المناسب. اجتمع الاثنان خارج
أسوار كلمبينا. كان بيللو على فرسه، وعبد الله على مهره التي دائماً ما
يركبها والتي تناسب المعلم. بيللو كشابّ جهَّز نفسه لينزل عن دابته، كما
تتطلب الآداب المحلية، لكن عبد الله طلب منه أن يبقى على ظهرها، بينما
أحنى نفسه ليحيي ابن أخيه كأمير للمؤمنين.
لقد اندمل الجرح، ومنذ ذلك الحين استمرت سوكوتو وغواندو تحت
أفضل روابط الصداقة. وحسب تقسيم شيخو، فإن الإمارات الشرقية دفعت الضرائب
لسوكوتو، بينما دفعتها الإمارات الغربية لغواندو.
بقيت الإمبراطورية المزودجة أقل من مائة سنة. في الأول من
كانون الثاني/يناير عام 1900، أعلنت شمال نيجيريا محمية بريطانية. وفي
حزيران/يونيو من عام 1902 سارت القوات البريطانية عبر غواندو، وفي
آذار/مارس من نفس السنة احتلت سوكوتو بعد مقاومة بسيطة. فرَّ أمير
المؤمنين، أتاهيرو، وعُيِّن ابن عمه محمدو أتاهيرو أميراً للمؤمنين عن
طريق المندوب السامي فريدريك لوغارد.
ف.
دانييل
Journal of the
Royal African Society, Vol. 25, No. 99 (April, 1926), 278-283.
انظر أيضاً:
الشيخ عثمان دان فوديو: أبو حركة الإصلاح الديني في غرب إفريقيا
1754-1802
[1]
على عادة المستشرقين أطلق كاتب المقال لفظ «المحمدية» على الدين
الإسلامي نفسه، وهذا خطأ قد تنبه له المعاصرون منهم وعلموا أن أتباع
محمد صلى الله عليه وسلم هم «مسلمون» وليسوا «محمديين». (المترجم)
[2]
مسألة ضياع أو فقدان قبائل من بني إسرائيل أسطورة تبناها الغربيون
عبر العصور، فكل شعب اكتشفوه ولم يعرفوا له أصلاً نسبوه إلى إحدى
قبائل بني إسرائيل المفقودة. وفي الحقيقة، فإن بعض قبائل بني
إسرائيل، والتي جاء وصفها في الحديث الشريف باسم «أمة» إما قد دمرها
الله تعالى، أو مسخت، أو اختلطت مع بعض الشعوب القديمة وضاع أصلها.
والله أعلم. انظر كتاب:
The
Lost Tribes of Israel: The History of a Myth
للكاتب: Tudor
Parfitt.
(م)
[3]
أغاديز: مدينة إسلامية في النيجر. (م)
[4]
هذه وجهة نظر الأوربيين لغيرهم من الشعوب وخصوصاً المسلمة منها. (م)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق