الاثنين، 22 يوليو 2013

إعادة ترتيب أوراق سقوط الخلافة (26)

د. عجيل النشمي

المهدي يؤسس الحركة ويبدأ الثورة


أسُس الحركة المهدية

لم يتفرغ المهدي لوضع الأسس والدعائم لحركته وأساليب هذه الحركة في الوصول إلى أهدافها، وإنما اكتفى بما كونه من تصور عام عن الإسلام وحال المسلمين في السودان من خلال زياراته واختلاطه بالعلماء والأعيان وسواد الشعب، ولذلك لم يحرص على تربية تلاميذ يحملون فكراً محدداً ومنهجاً يضمن للحركة وقودها وحيويتها واستمرارها.
ولقد كان المهدي ينوي أن يقوم بهذا الجانب النظري الهام من حركته بعد أن يستقر له الوضع في الخرطوم، ولكن المنية عاجلته وحالت دون ذلك.
إلا أن الناظر في سير الحركة وبعض النقولات اليسيرة عن محمد أحمد وبعض الكتابات القليلة التي حفظها بعض مريديه توحي إلى أن الحركة المهدية كانت تقوم على دعائم ثلاث:
فالدعامة الأولى: فهم الإسلام بيسر وسهولة من خلال الكتاب والسنة، فلا حاجة للوسائط بينهما وبين العباد. فالإسلام دين الفطرة يفهمه المسلم دون عناء أو مشقة. ولذلك فإن خوض الناس في الخلافيات والجزئيات طمس معاني العقيدة السليمة وصفاءها في نفوس المسلمين وباعد بينهم وبين الكتاب والسنة.
ولأجل هذا بادر المهدي بإبطال العمل بالمذهب الأربعة وإبطال الطرق الصوفية بحجة أن المذاهب والطور مسئولة عن حجب الحق والنور عن الناس، فينبغي أن يستقي الناسُ من الكتاب والسنة مباشرة دون واسطة.
والدعامة الثانية: إن روح الدين الإسلامي وحياته إنما هو في التطبيق لا في النظرية، فهو دين جاء ليحكم الواقع ويحدد اتجاهه، وهو يتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شئون الحياة فهو دين شامل لكل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتبعاً لذلك فلا بد من الامتثال لأوامر الشرع واجتناب نواهيه.
ونورد على سبيل المثال بعض أقوال المهدي وخليفته عبد الله التعايشي للتدليل على هذه الدعائم. فقد جاء عن المهدي أنه قال: »طريقنا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومذهبنا الكتاب والسنة، ما جاء من عند الله على رؤوسنا، وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم على رقابنا، وما جاء من الصحابة إن شئنا عملنا به وإن لم نشأ تركناه.
وجاء في الإنذار الذي وجهه خليفة المهدي عبد الله التعايشي إلى توفيق خديوي مصر: »واعلم أن ما دعوتك إليه هو الدين الحق القويم والمنهاج الواضح المستقيم، فلا تعرض عنه إلى نزعات الباطل، فإن الحق جدير بالاتباع والباطل حري بالتلاشي والضياع«.
والدعامة الثالثة: ادعاءُ المهدية. فقد قامت الحركة المهدية منذ ابتدائها على اعتقاد أن محمد أحمد هو المهدي المنتظر.
وقد أسر محمد أحمد في جزيرة »آبا« لصديقة عبد الله التعايشي بأنه أصبح يرى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يقظان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بأنه المهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً. كما أنه أسرّ لخاصة تلاميذه بذلك، وكان ذلك في ربيع الثاني سنة 1298 هـ، مارس 1881م، وكان القرن الثالث عشر للهجرة قد شارف النهاية. وقد أورد أبو هريرة وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: »إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها«. وقد بايع المهدي مريدوه على هذا وسمى كل من ناصره وبايعه الأنصار.
وذهب بعد ذلك إلى »كردفان« وأسر إليهم أنه المهدي المنتظر. ثم عرج إلى جبال النوبه كذلك. ولم يصبح ادعاء المهدية سراً بل أصبح دعامة وأساساً للالتحاق بالحركة. وبدأ يعلن أمام الملأ ويدعو القبائل والمشايخ والأعيان على هذا الأساس، ويكتب الرسائل طالباً الانضواء تحت لوائه ومبايعته على المهدية والهجرة إلى جزيرة »آبا«. وقد كتب هنزل القنصل النمساوي في الخرطوم إلى حكومته في 15 أغسطس 1881م بأن الأخبار قد وصلت من جزيرة »آبا« منذ شهر يوليو منبئة بأن الفقيه »محمد أحمد« قد أعلن على الملأ أنه المهدي المنتظر والمكلف من قبل المولى بتأسيس دولة إسلامية مترامية الأطراف تكون عاصمتها مكة المكرمة.
ولقد بدأت الحركة تأخذ شكل الثورة الحقيقية منذ أعلن محمد أحمد أنه المهدي المنتظر وبايعه عبد الله التعايشي وبدأ بإرسال الرسائل إلى الأعيان والعلماء زعماء القبائل والمشايخ يدعوهم إلى تأييده ومبايعته والهجرة إليه في جزيرة آبا والنهوض للجهاد عند حلول شهر رمضان، وكان ذلك في أواخر شهر يونيو 1881م شعبان 1298 هـ، وكان موقف الحكومة منه ضعيفاً بادئ الأمر، واكتفى حكمدار السودان محمد رؤوف بإسداء النصيحة للفقيه في أن يقلع عن ادعاءته وجاء في وثيقة بعنوان »نبي كاذب في السودان« بعث بها هنزل القنصل النمساوي في الخرطوم إلى ممثل حكومته في ا لقاهرة »بالزاوسكي« الذي بعث بها طي رسالته إلى حكومته بتاريخ 21 أغسطس 1881م: »أن حكمدار محمد رؤوف أوفد لجنة من الفقهاء والمشايخ إلى جزيرة آبا لمناقشة محمد أحمد لمعرفة ما إذا كان الفقيه هو المهدي المنتظر حقيقة، فأدت اللجنة مهمتها وعادت إلى الخرطوم في شهر أغسطس. وجاء في تقريرها إلى رؤوف باشا أن دعوى محمد أحمد أنه المهدي المنتظر ادعاء كاذب، وأن حوالي المائتين من الأتباع المتعصبين يلتفون حوله في آبا وأن الواجب يقتضي استخدام القوة للقضاء فوراً على هذه الحركة.
وقد أخطأ رؤوف باشا في تقدير قوة الدعوة وأثرها فاكتفى بإرسال مائتين من العسكر فانهزموا في واقعة عرف باسم »واقعة آبا« في 12 أغسطس 1881م.
وكان لهذه البداية الطيبة في صالح المهديين أثر بالغ على انتشار دعوتهم. وبعدها أعلن محمد أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالهجرة من آبا إلى جبل »ماسة« في كردفان، وكان الغرض من هذه الهجرة أن يتخذ المهدي مقره بين قبائل القارة وهي من أكبر القبائل القوية ذات المكانة المهابة في إفريقية، وكان هذا الاختيار اختياراً موفقاً من الناحية العسكرية والأمنية.
ثم ساقت الحكومة المصرية جيشاً لقتال المهدي بقيادة جيفلر باشا فهاجمه نحو 50 ألف سوداني وهزمه. ثم استولى محمد أحمد على مدينة »الأبيض» سنة 1300 هـ.
وكانت أكبر هزيمة للجيوش النظامية على يد محمد أحمد في واقعة »شيكان« في نوفمبر سنة 1883 م وهي حملة هكس باشا حيث أبيد هذا الجيش.
وكان لانتصارات المهدي هذه أصداء واسعة في العالم الإسلامي الذي كان يتوق إلى من يأخذ بيده من جور الحكام. وقدِم على المهدي أفراد ووفود من مسلمي الهند ومراكش وتونس والحجاز يهنئونه على انتصاراته.
وكانت هذه الانتصارات تهدد مصالح كثير من الدول الاستعمارية مثل إنجلترا وفرنسا، فقد أزعجب انتصارات المهدية على يد عثمان دقنه في شرق السودان إنجلترا واصطدمت معه في مواقع كانت هي الخاسرة فيها. ولما فرغ عثمان دقنه من الجيش الإنجليزي انصرف إلى حصار »سواكن« والتضييق عليها، ولكن كانت هناك بعض العوامل التي لم تساعده على الاستيلاء على »سواكن« أهمها وجود البوارج الحربية الإنجليزية في البحر، كما كانت معقلاً من معاقل »الختمية« فلعب خلفاء السادة »الميرغنية« دوراً في تخذيل الأهلين من الانضمام إلى عثمان دقنه وإلى نشر الدعاية بتكذيب المهدية.
أما مصر فقد كانت الهزائم وخصوصاً هزيمة هكس مريعة بالنسبة لها لأن ذلك قضى على كل الجيش المصري القديم، وأصبحت مصر في حالة لا تستطيع معها اتخاذ أي إجراء ضد المهدي في السودان عن طريق إرسال جيش مصري آخر، وفي نفس الوقت رأت بريطانيا أن تطور الأحوال في السودان يعطيها الذريعة المناسبة للاستمرار في احتلال مصر بحجة الدفاع عن الحدود المصرية الجنوبية. وقد جهزت بريطانيا بعد ذلك جيشاً تعداده 13,000 لمحاربة عثمان دقنه الذي لا يزيد عدد رجالة عن 10,000 مقاتل بالسيوف وقليل من البنادق. وبدأ هجوم الإنجليز على جيش عثمان دقنه بعدما سقطت الخرطوم وقتِل غوردن باشا وحمل رأسه على حربة سنة 1302 هـ. ولما رأى عثمان دقنه تفوق الجيش الإنجليزي عدةً وعدداً انسحب من أرض المعركة واتبع أسلوب حرب العصابات، وبذلك استطاع أن يصدّ الهجوم الإنجليزي في شرق السودان؛ وكان مبدأ الهجوم الإنجليزي في 23 مارس سنة 1873م.
وفي يناير سنة 1885م دخل محمد المهدي الخرطوم، ولقب نفسه بالمهدي خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جعل أربعة خلفاء له هم: الصديق وهو الخليفة عبد الله التعايشي، ثم خليفة عمر بن الخطاب وهو »علي ودحلو« ووهب لقب خليفة عثمان بن عفان للسيد السنوسي بليبيا، وأما الخليفة الرابع وهو خليفة علي بن أبي طالب فكان من نصيب الخليفة شريف. ثم اهتم بالجيش وقسمه أقساماً ثلاثة وجعل كل قسم تحت قيادة أحد الخلفاء السودانيين الثلاثة. واهتم بالشؤون المالية فنظم الإدارة المالية لتطابق الشرع في جمعها وتقسيمها للأموال وأمر بضرب عملة مستقلة خاصة بحكومته، وأبطل الطرق الصوفية والمذاهب الأربعة، بيد أن الأمر لم يطل بالإمام كي يتسنى له تحقيق ما أراد من إقامة الدولة الإسلامية الموحدة الكبرى فوافته المنية في شهر رمضان 1302 هـ الموافق 26 يونيو 1885م.
(نقلاً عن مجلة المجتمع)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق