د.
عجيل النشمي
المهدية في الميزان
ذكرنا
في الحلقة السابقة أن من سلبيات الحركة المهدية عدم بلورة
منهج الحركة، وادّعاء محمد أحمد
المهدية؛ وها نحن نضيف في هذه الحلقة
بقية الأسباب التي أودت بالحركة إلى
الفشل رغم حكمها للسودان ستة عشر عاماً.
فقد
ذكرنا أن من دعائم الحركة المهدية سهولة
الإسلام ويسره. ومع صحة هذا المبدأ إلا
أن محمد أحمد لم يكن مدركاً لحدود هذا
اليسر ومجالاته، وأخذ هذه المبدأ على
إطلاقه سواء في الأمور العقائدية أو
الفكرية أو الأحكام الاجتهادية. وبناءً
على هذا الفهم اعتقدَ أن كتب المذاهب
الأربعة لا داعي لها، بل
إنها عقبة في فهم الإسلام، حجبت
الإسلام الصحيح عن الناس وحالت بينهم
وبين الكتاب والسنة، ولذلك أصدر حكمه
ببطلان العمل بالمذاهب الأربعة - إلا أن
المهدي يشكر أصحاب هذه المذاهب على
اجتهادهم وأنهم أوصلوا الإسلام إلى عصر
المهدي المنتظر- ولذلك بإحراق كتب الفقه
والأصول وغيرها ولم يبق إلا القرآن
الكريم والصحيحين وإحياء علوم الدين
للغزالي وغير ذلك من الكتب التي سماها
له الأنصار.
ولعله
بهذا كله كان متأثراً بما أورده الشيخ
محي الدين بن عربي عن الإمام المهدي
بأنه سيرفع المذاهب ويعيد الدين إلى ما
كان عليه أيام النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن فهم هذا وإقدامه على إحراق كتب
المذاهب الأربعة جلب عليه إنكار
العلماء داخل السودان وخارجه، وقلل من
مكانته العلمية. ودخل في حرب لذلك مع
الصوفية أيضاً باعتبارها مسؤولة أيضاً
عن حجب الناس عن الكتاب والسنة، وجلب
عليه كثيراً من المصاعب لتأصل الصوفية
في وقته. ولقد كان ذلك سبباً في عرقلته
في كثير من الأماكن التي كان يرغب أن
يدخلها ويؤثر فيها لوجود الطرق الصوفية
المناهضة له.
وموقفه
من الحركة السنوسية فقد كانت الظروف
التي نشأت فيها الحركة المهدية هي نفس
الظروف التي نشأت فيها السنوسية
والدوافع والأهداف واحدة. وكانت
المنطقة محتاجة لعمل موحد يجمع شتات
الأمة ويصيغ منهم جبهة واحدة متراصة
أمام المؤامرات والغزو والظلم والجور
الذي يزاوله الاستعمار الأوروبي بعد أن
أجهز على ما تبقى للخلافة من قوة وتأثير.
وكان
الواجب في ظل تلك الظروف أن تتوحد كلمة
السنوسي والمهدي، إلا أن الأمر كان على
عكس ذلك، بل كان الخلاف بينهما محتدماً
–كما سبق- ونحن نحمّل المهدي الجزء
الأكبر من مسؤولية هذا الموقف، فهو الذي
طلب ابتداءً من السنوسي أن ينضم تحت
لوائه وأن يحضر من ليبيا ليستلم منصب
الخليفة الثالث، وكان يعلم ابتداءً أن
السنوسي سيرفض ذلك، والسنوسي في حقيقة
الأمر يحمي ظهر محمد أحمد ويسد ثغرة
هامة، فكان على محمد أحمد أن يعي ذلك..
ولهذا فإن إرساله طالباً حضور السنوسي
ليس له ما يبرره..
وكان
من سوء التصرف أن المهدي كان عازماً على
حربه، وهو يعلم أنه مسلم لا يحل رفع
السلاح في وجهه. وقد سيّر التعايشي
الجيش –فعلاً- لحربه ولكن السلطان يوسف
رد هذه الجيوش عن وجهتها كما سبق.
مثل
هذا الموقف العدائي من الحركة السنوسية
أضعف بلا شك كلتا الحركتين وجعل اللقاء
وتوحد القوتين صعباً، وفي نفس الوقت جعل
فرصة القضاء عليهما من قبل المستعمر
قوية، وهذا ما حدث.
ثم
أخيراً موقفه من دولة الخلافة: لم يكن
وضع دولة الخلافة الإسلامية يسعد أحداً
مثل ما يسعد الدول الأوروبية التي تعمل
جاهدة لتقويض صرح الخلافة الذي ظل
سياجاً حامياً للبلاد الإسلامية قاطبة
حتى في أيام الخلافة الأخيرة.
وكان
الأوروبيون ومن معهم من اليهود والروس
يباركون أي انفصال لأي جزء من البلاد
المسلمة ويعملون لذلك جهدهم لأنه
سيعينهم في مؤامرتهم الدنيئة لإسقاط
الخلافة الإسلامية.
وكان
موقف المهدي من دولة الخلافة موقفاً
عدائياً صريحاً، وقد كشف عن ذلك
بالرسائل التي كان يرسلها إلى السلطان
عبد الحميد يعلنه فيها أنه هو المهدي
الذي ينبغي أن ينصاع له المسلمون وأنّ
دولة الخلافة ينبغي أن تنتقل إلى مكة.
وحروبه التي اصطدم فيها مع إخوانه
المصريين تشعر بهذا الموقف العدائي،
وموقفه هذا من دولة الخلافة كان سبباً
في إضعاف حركته من جهة استمرارها
وشرعيتها، وعوناً للاستعمار المتربص
لدولة الخلافة الدوائر.
وكان
الواجب أن يضع كل إمكاناته لإحياء دولة
الخلافة وتقويتها والذود عن حياضها،
وهذا ما لم يكن.
ولقد
حاول السلطان عبد الحميد أن يخضع الحركة
لسلطته ويعيدها إلى خطها السليم وهو
معاداة الإنجليز فحسب وتقوية دولة
الخلافة في العمل باسمها في إفريقيا
للتتوحد الجهود بين السنوسي في شمال
إفريقيا والمهدي في وسطها وجنوبها.
وكانت إنجلترا تستنكر خطط السلطان عبد
الحميد للتدخل، لأنه ليس من مصلحتها –حقيقة-
إخماد الثورة ما دامت تؤدي إلى إضعاف
مركز دولة الخلافة، وهذا ما يجعل نجاح
الثورة أخف ضرراً بالنسبة لإنجلترا من
إخمادها بقوة واسم دولة الخلافة
الإسلامية. وذلك لا نستبعد إطلاقاً أن
يكون الإنجليز وزراء توسيع الثورة
وتصعيدها وتهيأة سبل وصولها إلى غايات
أكبر من حجمها وبسرعة فائقة، مع أننا لا
نغالي كما يذهب البعض إلى أن الحركة
المهدية برمّتها من عمل الإنجليز، لكن
استفادة الإنجليز من خلال موقف الحركة
من دولة الخلافة أمر وارد.
ولقد
أشار السياسي الكبير السلطان عبد
الحميد في مذكراته لهذا كله فقال: »إن
السياسة التي يتبعها اللورد كرانفيل
تجاه الدولة العثمانية ليست مرْضية،
وقد أثارت أحداث السودان (ثورة المهدي
1883-1884) صدى واسعاً في الجزيرة العربية
وكان من المقرر أن نقوم بالتدخل العسكري
ليعتد –أي ليعود- إلى المهدي صوابه
ولنحافظ على سيادتنا في هذه البلاد.
واتفقنا في هذا الشأن مع شريف (وزير شؤون
مصر) كما وافقنا الخديوي على هذا الرأي،
لكن إنكلترا استنكرت هذا التدخل، مثلما
فعلته عام 1880 عندما أزمعنا على إخماد
الثورة التي قام بها عرابي باشا في مصر.
أما بارتلمي سانت هيلاف فكان يخشى أن
أستعمل صلاحياتي في مصر كخليفة
للمسلمين، لأن نفوذه في شمال إفريقيا،
وفي تونس على وجه الخصوص، سيكون في خطر،
ولهذا تعمد ارتكاب الخطأ الكبير في
الوقوف إلى جانب إنجلترا في سياستها
تجاه مصر، أما اليوم فالتاريخ يعيد نفسه
في السودان. إن سياسة الإنجليز في مصر
تتلخص في زيادة نفوذ المهدي كزعيم ديني
على حسابنا، والحط من شأننا في الولايات
العربية توطئة للقضاء على حكمنا فيها مذكرات السلطان عبد الحميد ص 119«.
ولا
شك أن كلام السلطان عبد الحميد يدل على
بعد نظر للسياسة التي ينبغي أن تسير
عليها تلك الحركات الإسلامية كالحركة
المهدية التي كان عليها أن تصب في رصيد
دولة الخلافة وتعمل باسمها لترتفع
هيبتها ومكانتها في نفوس الشعوب
المسملة فتستعيد تلك المكانة التي تريد
إنجلترا وأعوانها القضاء عليها.
فلم
يكن المهدي موفّقاً في عدائه لدولة
الخلافة، فقد أضر بحركته فاستنزف قوته
في محاربة إخوانه المسلمين فأضعف
الحركة مستقبلاً أمام الإنجليز
وأعوانهم، وفي نفس الوقت أضعف مركز دولة
الخلافة الإسلامية، ولذلك تركته
إنجلترا يحقق بنفسه كل هذه النتائج
فيضعف نفسه وحركته ويضعف مركز الخلافة
ثم بعد ذلك تستوعبه إنجلترا بقوتها فلا
يستطيع المواجهة، وهذا ما حدث فعلاً
فيما بعد.
(نقلاً عن مجلة المجتمع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق