ذكرنا في الحلقة السابقة بعض الشبهات التي وجهت إلى حركة الإمام محمد بن عبد الوهاب، ورأينا الشيخ نفسه وردّه عليها. واليوم نتابع تلك الشبهات التي لا يمكن تقويم الحركة إلا من خلال النظر في كل ما لابس الحركة من الشبهات ومقدار قربها وبعدها من الحقيقة التي عليها منهج الدعوة الفعلي أو منهج الدعوة العملي والواقعي.
ادعاء النبوة:
قال الشيخ دحلان، وبمثل كلامه قال غيرُه: »وكان محمد هذا بادئ بدأته مولعاً بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذباً كمسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسي وطليحة الأسدي وأضرابه، فكان يضمر في نفسه دعوى النبوة، إلا أنه يدعي باطناً أنه أتى بدين جديد كما يظهر من قرائن أحواله وأقواله، ولذلك لم يقبل من دين نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا القرائن، فإنه قبله ظاهراً فقط لئلا يعلم الناس حقيقة أمره فينكشفوا عنه«.[2] وليس من شك تفاهة هذه الدعوة، ولكن سقناها ليعلم مقدار ما كان الناس يقولون ومقدار العقول التي كانت تصدق مثل هذا الهراء وتبني عليه مواقفها من الحركة. وأدنى ما يقال في رد ذلك أن الذين كتبوه وقالوه يقرون أن محمد بن عبد الوهاب لم يفصح عن شبهتهم هذه وأنها بقيت حديث النفس عند الشيخ، فكيف عرفوا ذلك، والشيخ لم يفصح إلا عن خلافه وكتبه من أولها إلى آخرها مشحونه بخلاف ذلك، مما لا يحتاج إلى تسجيل وتدليل، فكثيراً ما كان يقول: »إني متبع ولست بمبتدع. عقيدتي وديني الذي أدين به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين«.
انتقاص النبي صلى الله عليه وسلم
يقول علوي الحداد في كتابه »مصباح الأنام وجلاء الظلام« عن محمد بن عبد الوهّاب: »أنه كان ينتقص النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً بعبارات مختلفة، منها قوله: (أنه طارش) بمعنى أن غاية أمره أن كالطارش الذي يرسل إلى أناس في أمر يبلغهم إياه ثم ينصرف. ومنها قوله: (إني نظرت في قصة الحديبية فوجدت فيها كذا وكذا كذبة..) إلى غير ذلك مما يشبه هذا على أن أتباعه يفعلون ذلك أيضاً ويعلم بذلك ويظهر عليه الرضا به. وكان بعضهم يقول: (عصاي خير من محمد لأنها ينتفع بها بقتل الحية ونحوها، ومحمد قد مات ولم يبق فيه نفع أصلاً). ويقول ابن دحلان في كتابه فتنة الوهابية: (وكانوا –أتباع محمد بن عبد الوهاب- يمنعون من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم على المنابر بعد الأذان، حتى أن رجلاً صالحاً كان أعمى وكان مؤذناً وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان بعد أن كان المنع فأتوا به إلى ابن عبد الوهاب فأمر به أن يقتل فقتل)« [3] وعلى هذا قالوا إنه يكره النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لو قدر على هدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم لفعل. وقد ردّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن هذه الفرية في أكثر من موضع من كتبه فقال: »محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء«. وقال: »وما ذكره المشركون أني أنهى عن الصلاة عن النبي أو أني أقول لو أن لي أمراً هدمت قبة النبي أو أني أتكلم في الصالحين.. فكل هذا كذب وبهتان«.[4]
ولما شاع هذا البهتان وبدأ كثير من العلماء يصدقه أو يتردد فيه ويشيع المصدقون أن محمد بن عبد الوهاب يهدم قبور الصالحين ولم يفرقوا بين القبب على القبور والقبور ذاتها، كتب محمد بن عبد الوهاب رسالة خاصة إلى العلماء في الحرم فقال: »من محمد بن عبد الوهاب إلى العلماء والأعلام في بلدان الله الحرام نصر الله بهم سيد الأنا وتابعي الأئمة الأعلام، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: جرى علينا من الفتنة ما بلغكم وبلغ غيركم وسببه هدم بنيان في أرضنا على قبور الصالحين، فلما كبر هذا على العامة بظنهم أنه تنقيص للصالحين، ومع هذا نهيناهم عن دعواهم وأمرنا بإخلاص الدعاء لله، فلما أظهرنا هذه المسألة مع ما ذكرنا من هدم البنيان على القبور كبر على العامة جداً وعاضدهم بعض من يدّعي العلم لأسباب أخرى والتي لا تخفى على مثلكم، أعظمها اتباع هوى العوام، مع أسباب أخرى، فأشاعوا عنا أنا نسب الصالحين و[أنّا] على غير جادة العلماء. ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها وأن أخبركم بما نحن عليه خبراً لا أستطيع أن أكذب.. فنحن –ولله الحمد- متبعين غير مبتدعين على مذهب الإمام أحمد بن حنبل.. فإن بانَ لكم أن هدم البنا على القبور والأمر بترك دعوة الصالحين لما أظهرناه، (وبيّن هنا أن هذا إذا انطلى على العوام فلا ينطلي على العلماء) وتعلمون أعزكم الله أن المطاع في كثير من البلدان لو تبين بالعمل بهاتين المسألتين أنها تكبر على العامة الذين درجوهم وإياهم على ضد ذلك؛ فإن كان الأمر كذلك فهذه كتب الحنابلة عندكم بمكة شرفها الله مثل (الامتناع) و(غاية المنتهى) و(الإنصاف) اللاتي عليه اعتماد المتأخرين وهو عند الحنابلة (كالتحفة) و(النهاية) عند الشافعية، وهم ذكروا في باب الجنائز هدم البنا على القبور واستدلواع عليه بما في صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه بهدم القبور المشرفة وأنه هدمها، واستدلوا على وجوب إخلاص الدعوة لله والنهي عما شاتهر في زمنهم من دعاء الأموات بأدلة كثيرة، وبعضهم يحكي الاجماع على ذلك«.[5]
إبطال الشفاعة
وادّعوا أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يردّ شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وينكرها، وهذا في الحقيقة مجانب للصواب إن لم يكن بهتاناً وافتراء على ما دوّنه الإمام نفسه في بيان العقيدة الصحيحة، فالإمام محمد يقرّ بالشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لأفراد من الصحابة في وقائع كثيرة. وكذلك شفع لجماعات من المسلمين كالذين لم يمطَروا حتى مطروا، ولكن محمد بن عبد الوهاب ينكر الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، لأن الشفاعة دعاء ولا يكون الدعاء إلا من الحيّ. ولما شاع ذلك افتراءً على الإمام كتب رسالة إلى عالم من أهل المدينة قال فيما قال: ».. ويزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم. بل نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع صاحب المقام المحمود نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفعه فينا وأن يحشرنا تحت لوائه، هذا اعتقادنا وهذا الذي مشى عليه السلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين وتابع التابعين والأئمة الأربعة رضي الله عنهم أجمعين. فإن كانوا يأتون عند قبره يطلبون الشفاعة فإن اجتماعهم حجة، والقائل إنه يطلب الشفاعة بعد موته يورد علينا الدليل من كتاب الله، أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من اجماع الأمة، والحق أحق أن يتبع«.[6]
ويقول الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: »ونثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، حسب ماورد أيضاً، ولا نسألها إلا من الله تعالى المالك لها والآذن فيها لمن يشاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها كما ورد، بأن يقول أحدنا متضرعاً إلى الله: شفع نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة«.[7]
دعوى الاجتهاد وإبطال المذاهب الأربعة
لما لم يجد الطاعنون بغيتهم في خلاف الإمام محمد بن عبد الوهاب في الأصول، جنحوا إلى الطعن به من جهة الفروع، وقالوا أنه يضرب صفحاً بالمذاهب الأربعة ولا يعتد بها وأنه يمثل مذهباً خامساً ولذلك سموه »المذهب الوهابي« وأنه يدعي الاجتهاد المطلق لنفسه.
ولقد تصدى الإمام محمد بن عبد الوهاب لهذه الاشاعات مبيناً مذهبه وحدود اجتهاده. فقال قولاً صريحاً: »ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد منا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أوس نة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به، وتركنا المذهب –أي مذهب الحنابلة- كإرث الجد والأخوة، فأنا أقدم الجد بالإرث وإن خالفه مذهب الحنابلة«.[8] ويقول: »الإمام ابن القيم وشيخه إماما حق من أهل السنة، وكتبهم من أعز الكتب إلا أننا غير مقلدين لهم في كل مسألة، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم«.[9] وقال في معرض رسالته إلى البكبي صاحب اليمن: »وأما ما ذكرته من حقيقة الاجتهاد فنحن مقلدون الكتاب والسنة وصالح سلف الأمة وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن حنبل، رحمهم الله تعالى«.[10]
ويقول: »وأما المتأخرون رحمهم الله فكتبهم عندنا نعمل بما وافق النص منها، وما لا يوافق النص لا نعمل به«. [11]. ومن هنا يتضح أن الإمام محمد بن عبد الوهاب لم يأت ليمثل دوراً مذهبياً جديداً ولا ليشغل الناس بالفروع، فلم يدع الاجتهاد ومع ذلك لم يرضَ أن يكون متمذهباً تمذهباً أعمى وإنما ينظر للدليل ما وسعه ذلك مما ذكره الإمام أحمد: »وإذا اختلف كلام أحمد والأصحاب فنقول في محل النزاع التراد إلى الله وإلى رسوله لا إلى كلام أحمد ولا إلى كلام الأصحاب ولا إلى الراجح من ذلك. بل قد يكون الراجح والمرجح من الروايتين والقولين خطاً قطعاً، وقد يكون صواباً«.[12]
ويقول: »إذا استدل كل منهما –أي المختلفين في المذهب- بدليل فالأدلة الصحيحة لا تتناقض بل الصواب يصدق بعضه بعضاً، لكن قد يكون أحدهما أخطأ في الدليل، إما أن يستدل بحديث لم يصح، وإما فهم من كلمة صحيحة مفهوماً خاطئاً، وبالجملة فمتى رأيت الاختلاف فمردّه إلى الله ورسوله، فإذا تبين لك الحق فاتبعه، فإذا لم يتبين لك واحتجت إلى العمل فخذ بقول من تثق بعلمه ودينه«.[13]
وطريق محمد بن عبد الوهاب هذا حيال المذاهب طريق سديد يتفق ورأي الأئمة الأربعة أنفسهم فكلهم يطلب الدليل، وكما قال أبو حنيفة رحمه الله: »إذا صح الحديث فهو مذهبي«، وكما قال الشافعي رحمه الله: »انظروا في قولي، فإذا رأيتموه يوافق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا به، وإذا رأيتموه يخالفه فاضربوا به عرض الحائط«، وكما قال مالك: »ما من أحد إلا يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر« مشيراً إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم. وكما قال أحمد بن حنبل رحمه الله: »لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي.. وخذ من حديث أخذوا« يعني إن كنت قادراً على الأخذ- فالإمام محمد بن عبد الوهاب على المذهب الحنبلي متبع في هذا الإطار الذي ذكرنا ما دام المستند الكتاب والسنة. وله مؤلفات في المذهب الحنبلي كمختصر الشرح الكبير، ومختصر الانصاف وغيرهما، وكتبه مشحونة باستدلالات كثيرة من الإمام ابن تيمية وابن القيم يتبع في ذلك الدليل حيثما كان.
[2] راجع الضياء الشارق 25 وما بعدها وبحث الدكتور عبد الرحمن عميرة »الشبهات« 31، والشيخ محمد يوسف »الشبهات« 19 من بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
[3] الأسنة الحداد 16، وفتنة الوهابية 76، عن بحث الدكتور عبد الرحمن عميرة 42.
[5] الرسائل الشخصية 41
[10] الرسائل 96
[11] الرسائل 101
[12] الدرر السنية 4/4
[13] الدرر السنية 4/14
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق