الاثنين، 22 يوليو 2013

إعادة ترتيب أوراق سقوط الخلافة (52)

د. عجيل النشمي
موقف الحركة الوهابية في دولة الخلافة
في عهد الأمير سعود

تعرضنا في الحلقة السابقة (1) لرسالتي الأمير سعود إلى أهالي مكة والسطان سليم [الثالث]، تحملان بعض تصور الأمير سعود للعلاقة بينه ودولة الخلافة. وفي هذه الحلقة نستعرض أعماله التي قام بها ملخصة ثم نقيم تلك الرسالتين ونرى ما قد تدلان عليه قي هذا تحديد العلاقة. فإن ما صاحَبَ دخولَ الأمير سعود من أفعال قام بها إبان وبعد دخول مكة المكرمة، فيمكننا إبراز بعض تلك الأفعال التي ربما تكون مسعفة لنا في التصول  إلى تصور العلاقة بين الأمير سعود ودولة الخلافة من جهة، وتقييم تلك العلاقة من جهة ثانية. ويمكن تلخيص هذه الأفعال في الآتي:
1-      قبول تعيين الشريف عبد المعين أخو الشريف غلاب في منصب أمير مكة، كما سبق ذكره.
2-      إخراج الأتراك من مكة. فيذكر المؤرخ عثمان بن بشر وغيره في أحداث سنة 1221 هـ أن الأمير سعود »أخرج من كان في مكة من الأتراك، وأخرج من كان في قصور مكة من عسكر الترك، ثم رحل منها وقصد المدينة النبوية فدخلها وضبطها أتم الضبط، وجعل في ثغورها مرابطة، وأجلى عنبر باشا والقاضي وكل من يحاذر منه«.
3-      منع الحجاج: منذ أن دخل الأمير سعود مكة المكرمة صعب الحج على القادمين من مصر والشام والعراق واستانبول. ولم تكن هذه الصعوبة نتيجة لمنع الأمير سعود بل لظروف أخرى –كما سنبينه- وعلى ذلك ظل الناس في تلك الأقطار من حوالي عام 1219هـ إلى حوالي 1226هـ لم يحجوا إلى بيت الله الحرام.
4-      هدم القباب: وقد كان أول أعمال التغيير التي قامت بها الحركة الوهابية من الناحية الدعوية والشرعية هدم تلك القباب كقبة الزهراء فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبة الحسن بن علي وعلي بن الحسين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وعثمان بن عفان وحمزة رضوان الله عليهم أجمعين. وكان في مكة من هذه القباب الشيء الكثير في أسفلها وأعلاها وأوسطها. ولم تمض بضع عشر يوماً حتى لم يبق في مكة من تلك المشاهد والقباب شيئاً. ثم تبع ذلك إلغاء الضرائب التي ليس لها وجه حق شرعي.
5-      الحروب من جهة العراق والشام: وقد واكب دخول مكة والمدينة تحرّك جيوش الأمير سعود جهةَ العراق والشام، فيذكر ابن بشر في أحداث سنة 1220 هـ أن سعود سار بالجيوش المنصورة والخيل والجياد الموسمة المشهورة من جميع نجد ونواحيها وبواديها وقصد جهة الشمال نوازل بلد المشهد المعروف في العراق، وفرق المسلمين عليه من كل جهة، وأمرهم أن يتسوروا الجدار على أهله، فلما قربوا منه فإذا دونه خندق عريض عميق، فلم يقدروا على الوصول إليه، وجرى بينه وبينهم مناوشة وقتال ورمي من السور والبروج، فقتل من المسلمين –يريد بهم الوهابيين- عدة قتلى فرجعوا عنه، ثم رحل منه سعود.. وقصد السماوة وحاصر أهلها ونهب من نواحيها ودمر أشجارها، ووقع بينهم رمي وقتال، ثم رحل منها وقصد إلى جهة البصرة ونازل أهل الزبير ووقع بينه وبين أهله مناوشة وقتال ورمي، ورحل منه إلى وطنه وعاود الأمير سعود غزو العراق مرة ثانية عام 1222 هـ.
ويذكر في أحداث سنة 1225 أن سعود سار بالجنود المنصورة والخيل والجياد المسومة المشهورة واستنفر جميع النواحي من جميع الحاضر والباد منوادي الدواسر إلى مكة والمدينة إلى جبل طي والجوف وما بين ذلك نحو ثمانية آلاف خرج من الدرعية، وقصد نقرة الشام المعروفة واجتازها حتى وصل جهة حوران واجتاز القرى حتى وصل المزيريب وبصرى فنهبت الجموع ما وجدوا فيها من المتاع والطعام وأشعلوا فيها النار، وكان أهلها قد هربوا عنها لما سمعوا بمسيره، ثم نزل عين لبجة، وروى فيها المسلمون وشربت خيولهم وجيوشهم، ثم أقبل على قصر المزيريب فظهر عليهم منه خيل فحصل طراد فانهزمت الخيل إلى القصر.. ثم ترحّل ونزل بصرى وبات فيها، ثم رجع قافلاً إلى وطنه ومعه غنائم كثيرة من الخيل والمتاع والأثاث والطعام، وقتل من أهل الشام عدة قتلى، وحصل في الشام رجفة ورعب عظيم بهذه الغزوة في دمشق وغيرها من بلدانه وجميع بواديه.
هذا إلى جانب توسع الأمير سعود وتمكن جيوشه في جهتي عمان وقطر وما جاورهما واليمن.
وكتد تكون هذه الأقوال من رسالتيه إلى أهل مكة والسلطان سليمن أهم ما يؤثر  عنه من أقوال.
وكذلك أفعاله إبان دخوله مكة المكرمة وتوسعه جهتي العراق والشام.
وهذا القدر كافٍ في إعطائنا تصوراً نستطيع على ضوئه تحليل مواقف الأمير سعود ممثل الحركة الوهابية أو الدولة السعودية الأولى وسنقرر ابتداء رأيَنا في الموضوع ثم نتبعه بمستنده من خلال الرسالتين والأعمال التي قام بها الأمير سعود. ثم أثر هذا كله على الموقف الصِّدامي لدولة الخلافة تجاه الحركة الوهابية.
الذي نراه من استعراض المواقف القولية والفعلية للأمير سعود أن تصوره لدولة الخلافة تتلخص في أنها دولة أخذت في الضعف والانهيار وهي بالتالي ليست حريصة على توطيد علاقتها بل دعمها لرجل ضعيف في مكة المكرمة ممثلاً في الشريف غالب أو  غيره. وستكون مساعدتها له في أسوأ الظروف محددة إن لم تكن معدومة. وهذا ما حدث بالفعل حينما أرسل الشريف  غالب الرسائل تلو الرسائل ليحث دولة الخلافة على إسناده –كما رأينا في مقال سابق نماذج من تلك الرسائل- دون أن يلقى ذلك تحركاً مباشراً سريعاً من دولة الخلافة يوازي دخول الأمير سعود والسيطرة على بلاد الحرمين الشريفين.
ومن هنا فإن وضع دولة الخلافة أمام الأمر الواقع كان هو خيار الأمير سعود المفضل، فهو الأقوى الذي ينبغي أن يسمع له ويطاع، وعلى دولة الخلافة أن تتقبل هذا الواقع إلا أنه لم يأخذ في اعتباره أن دولة الخلافة قد لا ترضى منه بذلك إلا بشرط هام بالنسبة لها وهو إعلان الطاعة لها، والحكم باسمها، كما كان الحال قبل دخول الأمير سعود.
ونحن نلاحظ أن الأمير سعود لم يكن واضحاً في هذه الملاحظة مع أنها جوهرية ولا يخفى على الأمير سعود بأنها جوهرية لكنه لم يشأ أن يذكرها ولا يهملها بل عالجها بأسلوب سياسي بين بين. لكنه على أي الأحوال لم يكن أسلوباً مرضثاً لدولة الخلافة بالاعتبار ملابسات دخول مكة وأثر ذلك على سمعتها لدى عموم المسلمين وتحركات الأمير سعود جهتي العراق والشام، وهذا ما كان في حسابات دولة الخلافة فعلاً، ولذلك اعتبرت دخول الأمير سعود مكة والمدينة خروجاً عليها، ينبغي أن يواجَه بتحرك موازٍ، وهو من الناحية الفعلية لا يحتمل غير ذلك، رغم ما صاحبَ ذلك الدخول من أقوال ومواقف تنحو خلاف ذلك، وإذا كنا نسوق هذا الاستنتاج ملخصاً مجرداً فإننا سنسنده على التو بالتوقف عند رسالتي الأمير سعود إلى أهل مكة والسلطان سليم وعند الأعمال التي قام بها في تلك الآونة، وسنرى كيف تسوقنا هذه الشواهد إلى تلك النتيجة.. مشفعين رأينا في كل قضية منها تاركين لمن يستنتج خلافه ما يراه.
نلحظ في رسالة الأمير سعود إلى أهل مكة أنه يدرك أن دولة الخلافة تتابع خطواته وأنها تعتبر بلاد الحرمين من أهم البقاع التي تربطها بالمسلمين عاطفة ومشاعراً، وبالتالي فمن الصعف إهمالها في مثل هذا التحرك الذي أول ما يعني دولة الخلافة. ولذلك ذكر في ابتداء رسالته إلى ألى أهل مكة أن رسالته موجهة أيضاً إلى قاضي السلطان. وذكر قاضي السلطان هنا له حساسيته وأهميته ودلالته فإن الذي أقدم على تعيين شريف مكة قادر بلا شك على طرد قاضي السلطان.
ولذلك يؤكد الأمير سعود بعد ذلك في رسالته إلى السلطان سليم إن »ثبت القاضي الذي وليته أنت طبقاً للشرع الإسلامي« وهذا التنويه إلى قاضي السلطان يوحي إلى أن الأمير سعود لا يعني بدخوله هذا الخروج على دولة الخلافة. ولكن هذا ليس كافياً أو مقنعاً في هذا الصدد، فقد أقدم الأمير سعود على طرد قاضي السلطان في المدينة فيما بعد –كما ذكرنا سابقاً- في رواية ابن بشر، أضف إلى ذلك الملابسات العامة التي سنأتي عليها تباعاً.
لقد ضمن الأمير سعود رسالته جملة تحمل في طيها تهوين مكانة الخليفة في الأستانة، أو بمعنى أصح تلميح إلى ذلك إن لم تكن في حس البعض صريحة في معناها. هذه العبارة نلمسها في الآتي: »فأنتم في وجه الله ووجه أمير المسلمين سعود بن عبد العزيز..« والجملة التي نعنيها هنا هي »أمير المسلمين« وهي عبارة دقيقة قد لا ترقى في حس الناس إلى جملة خليفة المسلمين لكنها في ذات الوقت تزاحمها في المعنى، بل تكاد يؤدي نفس هيبتها وجرسها في أذهان السامعين، خصوصاً إذا استحضرنا الظروف التي كانت تعيشها المنطقة وقتها، وحال دولة الخلافة..
وتكاد تكون هذه الكلمة أول كلمة تصدر عن الأمير سعود تعبر عن إعلان ما يشبه العصيان على دولة الخلافة. ونقول: ما يشبه العصيان لأن هناك دلالات أخرىسنذكرها تجعل شيئاً من الصلة ما يزال موصولاً بدولة الخلافة.
ولعل هذه الكلمة بدأت تنتشر بشكل أو بآخر بين أتباع الأمير سعود أحياناً أمير المسلمين أو المؤمنين، وأحياناً بلفظ إمام المسلمين، فيذكرها صاحب لمع الشهاب –إذا صحت بدايته- عن بيانه لحصار الأمير سعود لأهل الزبير، قال له أحد أتباعه: »اخترْ أهيا الأمير والرأي لك.. ثم أرسل لهم أميراً من أمرائه اسمه مجيلان.. فقال لهم: أيها الجماعة المغرورون، اهبطوا من هذا الكوت ودعوا إمام المسلمين وجيشه أن يردوا الماء.. فما يئس مجيلان منهم رجع إلى العسكر فقال: أيها الإمام لا يرضون هؤلاء بالنصح.. وجاء سعود بنفسه وقال: أيها الرجال أنا إمام المسلمين..« وجاء في قصيدة للشيخ محمد بن الشيخ أحمد الحفظي الحجازي في منظمة طويلة:
ولا الأماناتِ ولا النقولا
ولا تخونوا الله والرسولا
في أرضه (سعود) دام عدله
هذا أمير المؤمنين ظله
            ولقد شجع          شيوع مثل هذه العبارات استغلالها في تشويه صورة الأمير سعود وبالتالي الحركة الوهابية في أنه يدعو نفسه بخليفة المسلمين، وفي ذلك ما فيه من استعداء دولة الخلافة.
            ولقد قام الشريف غالب بقسط كبير في هذا الشأن وكان يرفع التقارير تلو التقارير الذي تلقفه أعداء الحركة –كما بينا ذلك في مقال سابق- وعلى كل حال فإن هذه العبارة تحمل دلالة في غير صالح الأمير سعود، وهكذا فهمَت على الأقل.
            أما الرسالة الثانية، فيلحظ فيها أنها جاءت متأخرة بعض الشيء، فبعد أن مكث الأمير سعود في مكة نيفاً وعشرين يوماً أرسل تلك الرسالة، ولا شك أن جسامة هذا الأمر وثقله على دولة الخلافة وضرورة إظهار النبية تجاهها كان يستلزم المبادرة الفورية إن لم يكن قبل ذلك، فلا أقل من أن يكون بعد الدخول مباشرة إذا كان المراد وضع دولة الخلافة أمام الأمر الواقع.
            وكان بإمكان هذه الرسالة حينئذ أن تقطع الشكوك وتزيل اللبس، ولعل الأمير سعود لم يبادر إلى تلك الرسالة إلا لما وصل إلى أسماعه ما وشى به المغرضون لدى دولة الخلافة من إعلان الأمير سعود نفسه خليفة للمسلمين وخروجه على دولة الخلافة، ومن ثم بادر إلى كتابتها، وهي مع صراحتها في نفي صفة الخلافة عن نفسه وذلك بقوله: »إني دخلت مكة وأمنت أهلها وهدمتُ ما هناك من أشباه الوثنية، وألغيت الضرائب.. وعليك أن تمنع والي دمشق ووالي القاهرة من المجيء..«
            ومن جهة ثانية لم تتضمن الرسالة ما يرضي دولة الخلافة ويثلج صدرها ويرقد الفتنة.. لم تتضمن الرسالة ما يشير صراحة إلى أن الحكم والولاية إنما سيكون باسم دولة الخلافة، وإن هذه القوة هي قوة لدولة الخلافة تعينها وتسندها.
            لقد كانت الرسالة لبيان الأمر الواقع ومن منطق القوة، ولذلك فقد تضمنت حقائق فعلاً، فقد حصل دخول مكة وتأمين الناس على أرواحهم وأموالهم سواء داخل مكة أو ما جاورها، فقد فرض الأمير سعود قوته وتأثيره في سبيل تحقيق الأمن للناس، وقد كان قبل ذلك مهدداً، وهدم فعلاً مظاهر الوثنية والبدع، وألغى الضرائب التي كان يعاني منها أهل مكة لما فيها من الجور، ولكن كل ذلك لم يكن ليرجح كفة الميزان لدى دولة الخلافة.
            وإن هذه الأقوال أو هذه الرسائل لا تكوّن لدينا رأياً متبلوراً في تحديد التصور والعلاقة، إذ لا بد من إجالة النظر فيما صاحبَ ذلك من أفعال سواء في دخول مكة أو التحرك خارجها، وهذا ما سنواجهه في الحلقة القادمة بعون الله. 

(نقلاً عن مجلة المجتمع) 

(1) هذه الحلقة غير متوفرة لدى الفسطاط.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق