السبت، 27 يوليو 2013

في وجه التبسيط 1/2

د.عبد الكريم بكار

17/3/1425
06/05/2004

لا تستطيع عقولنا التعامل مع معلومات كثيرة متداخلة ومتقاطعة على نحو مباشر ومثمر، وكثيراً ما نحار في إيجاد حل لهذه المعضلة. وقد لجأ العقل البشري قديماً إلى تقسيم المعرفة -والتي كانت واحدة- إلى علوم واختصاصات بغية تأمين نوع من السيطرة على فوضى المعلومات والوصول بالتالي إلى تنظيم جديد للمعرفة يتيح لبني الإنسان تعاملاً موضوعياً أفضل مما هو سائد. لكن هذا لم يحل المشكلة على نحو كامل، فهناك الكثير من الأوضاع التي لا تمكن معرفة كنهها وتشكيل رؤية واضحة لها من خلال أي علم من العلوم. ومن هنا فقد وجد الكثير الكثير من الناس في سبك المقولات المتقنة، وإطلاق الشعارات الجذابة وتشكيل الصور الذهنية المحددة أداة مثلى لاجتراح المجهول، وتقريب البعيد من الأحداث والأحوال . والواقع أن هذا العمل يلبي إلى حد بعيد تشوقات العامة والجماهير العريضة والتي تبحث عن شيء يريح عقولها من مشاق التأمل والخوض في التفاصيل؛ لكنه لا يخدم الحقيقة الموضوعية في شيء ذي قيمة؛ بل إنه يختزل الواقع التاريخي والمعيشي، ويعطي عنه صوراً مضللة ومبتذلة توفر من الإزعاج للباحث المدقق على مقدار ما توفره من الارتياح والإنشاء لأنصاف العوام والمتشبثين بأذيال المعرفة. ومن أجل توضيح ما أريد قوله سأضرب مثالين اثنين؛ أحدهما يتعلق بالحاضر والثاني تاريخي.
بالنسبة إلى المثال الأول؛ فإن من الملاحظ أن الحسّ الإسلامي يميل في علاقاتنا مع الغرب –على نحو عام- إلى اتخاذ موقف وسط، يبتعد عن الانغلاق التام والانفتاح المطلق. وقد لخـّص أحد المصلحين ذلك الموقف بالقول: نأخذ من الحضارة الغربية ما يلائمنا وينفعنا، ونُعرض عن غيره. وهذه الصياغة على المستوى النظري مثالية جدًّا إلى درجة أن معظم شعوب الأرض لا تحلم في علاقاتها بعضها مع بعض بأكثر ما ترشد إليه هذه المقولة. لكن هذه العبارة على المستوى العملي تفقد الكثير من قيمتها بسبب ضيق مجالات تطبيقها، والذي يقف وراء هذا القصور عدم تصور من سبكها كيفيات التطبيق والتنفيذ. إن صعوبة تطبيق هذا القول تنبع من الاعتبارات والحيثيات التالية:
1.                نحن نتعامل مع الغرب على المستوى العام وعلى المستوى الشخصي من خلال قرارات عامة. وحين يكون الأمر كذلك فإننا لا نستطيع اتخاذ قرار نفي وإيجابي وملائم على نحو كامل ما دمنا نعيش في وسط غير كامل، وما دامت إمكاناتنا غير كاملة.
2.                يختلف الكثيرون من أبناء المسلمين في تحديد ما يلائمنا من ثقافة الغرب وأخلاقه ومنتجاته على نحو عام؛ فما يعده فلان من المسلمين مهمًّا وحيويًّا لنا، ينظر إليه مسلم آخر على أنه خطر وسيئ .
3.                نحن لا نستطيع في كل الأحوال أن نقوم بعملية الانتقاء التي نريدها فالغرب ليس (سوق خضار) تتسوق منه ما شئت وتدع ما شئت لأصحابه؛ حيث إن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الأخلاق والسياسة وبين الأخلاق والاقتصاد وبين الاقتصاد والسياسة، وبين كل هذه الأشياء وبين الاجتماع والتربية والتعليم. فإذا أردت أن تقتبس أسلوباً أو نظاماً من أي مجال من هذه المجالات؛ فقد يقتضي الأمر أن نقتبس ما يرتبط به في مجال آخر، مما لا يلائمك ولا يرضيك. ينظر الغرب إلى التعددية الفكرية والسياسية على أنها أحد مصادر قوته وتميزه، لكن لولا تجرد الغرب من العقيدة الدينية لما أمكن له الحصول على تلك التعددية على النحو الموجود الآن.حيوية الاقتصاد الغربي قائمة على الربا والتأمين والضرائب العالية وعلى النفوذ السياسي العالمي لدولة وقدرتها على تأمين مواد خام رخيصة وفتح أسواق لمنتجاتها.
المرأة في الغرب تعلمت وأبدعت وعملت في كل المهن والأعمال وحازت درجة عالية من الوعي واستقلال الشخصية... وكان ذلك في أحيان كثيرة على حساب كرامتها وحشمتها وعفتها، كما كان على حساب سلامة البناء الأسري... وهكذا فإن أخذ ما ينفعنا من الغرب قد يقتضي أن نأخذ معه ما لا ينفعنا ولا تبيحه عقائدنا ومبادئنا؛ فتفكيك المنظومات الحضارية أو تغريق الصفقة – كما يقول الفقهاء- ليس ممكناً في كل الأحوال، وحين يكون ممكناً فقد لا يكون مجدياً، فكيف يكون العمل؟
4.                إذا فرضنا جدلاً أننا تجاوزنا كل المحاذير السابقة؛ فإننا سنواجه مشكلة الفجوة بين النظرية والتطبيق- هي فجوة أبدية-. فالتنظير يتم دائماً على نحو طليق من القيود، وعلى أساس توفر كل الإمكانات المطلوبة للتنفيذ، لكن حين نأتي للتطبيق فإنه تواجهنا مشكلات كثيرة لم تخطر في بال المنظَّر، كما أن الإنسان حين يأتي للعمل يضطر إلى الدخول في موازنات دقيقة لا تُعرف ولا تُحسب وقت التخطيط. وهذا مثال يمكن أن نلاحظ فيه كل ذلك:
 لدينا حكومة إسلامية شديدة الالتزام وعظيمة الوعي بطبيعة العلاقة التي تربطنا بالغرب، وأرادت أن تأخذ قراراً بشأن علاقة أبنائها بعلوم الغرب. طبعاً لديها خيار إغلاق باب الابتعاث إلى الغرب على نحو نهائي وإذا فعلت ذلك فإنها ستشعر ويشعر مواطنوها أنهم حرموا من علوم مهمة للارتقاء بالحياة في بلادهم، وسوف يؤدي ذلك إلى تراجع الوضع العلمي والتقني في البلد. وهي مع ذلك القرار لا تستطيع أن تمنع من السفر أولئك الشباب الذين يريدون السفر للدراسة على نفقتهم الخاصة، إلا إذا قررت تحويل بلادها إلى سجن كبير.
اتخذت تلك الحكومة قراراً بإيفاد طلابها للغرب من أجل الدراسة في تخصصات، تظن أنها ضرورية لتقدمها ونموها وقوتها، كما تظن أنها لا تشكل خطورة على عقيدة أبنائها وعلى خصوصيتهم الثقافية، كما هو الشأن في دراسة الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء وغيرها من العلوم البحتة. وذهب فعلاً ألوف الشباب من أبنائها؛ وهناك تشعر الحكومة أنها فقدت جزءاً كبيراً من السيطرة على أولئك الشباب؛ حيث إنها ستجد بين أولئك المبتعثين من لم يَرُق له التخصص الذي ابتعث إلى دراسته، فتحول من الطب إلى دراسة الأدب الإنجليزي أو الفلسفة أو إدارة الأعمال. وستجد بينهم من تعرف على بعض قرناء السوء، فوقع في شباك الرذيلة ومستنقع المخدرات. وستجد أيضاً من عزف عن الدراسة، وانخرط في مهنة من المهن يكسب منها قوته. وهناك من تزوج نصرانية بدافع الخوف من الفاحشة، فصارت فيما بعد أمًّا لأطفاله ومربية لهم... وهكذا فلم تستطع الدولة المسلمة أن تجعل أبناءها يأخذون من علوم الغرب ما هو نافع، ويعرضون عما هو ضار؛ لأن المسألة في غاية التعقيد.
ولك أن تقيس على هذا التحالف مع الغربيين في بعض الأمور والإقامة بين ظهرانيهم لكسب الرزق، حيث وجد كثير من أبناء المسلمين في الغرب الرخاء على حين ضاقت عليهم بلادهم، بالإضافة إلى الاستغاثة بالغربيين في تنظيم بعض الشؤون المحلية وغير ذلك.
 
وللحديث صلة.
المقال منقول من موقع الإسلام اليوم بإذن من الكاتب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق