الأحد، 28 يوليو 2013

علي بن يوسف القفطي


وإخبار العلماء بأخبار الحكماء
وإنباه الرواة على أنباه النحاة

بقلم : محمد عبده الحجاجي


جم الفضل، كثير النبل، عظيم القدر، سمح الكف، طلق الوجه، حلو البشاشة. كنتُ ألازم منزله ويحضر أهل الفضل، وأرباب العلم، فما رأيت أحداً فاتَحه في فن من فنون العلم كالنحو، واللغة، والفقه، والحديث وعلوم القرآن، وأصول النطق، والرياضة، والنجوم، والهندسة، والتاريخ، والجرح والتعديل، وجميع الفنون على الإطلاق إلا قام به أحسن قيام وانتظم في وسط عقدهم أحسن انتظام.
حياته
لم يبلغ أحد من معاصرى القفطي مبلغ ما وصل إليه من نباهة الذكر وبُعد الصيت، حتى إن الباحث المعاصر الذي يريد أن يؤرخ له يجد نفسه أمام مادة علمية غزيرة في كل جانب من جوانب حياته، تفيض بها كتب الطبقات والتراجم والسير، تجعل الباحث يقف حائراً أمام هذه الشخصية، ماذا يأخذ في حديثه عنها وماذا يبقى؟
            وقد يكون ذلك راجعاً إلى عوامل عديدة لعبت دوراً هاماً في حياة صاحب هذه الترجمة لعل من أهمها عراقة أصله وصراحة نسبه، فهو من قبيلة شيبان إحدى القبائل العربية الأصيلة التي نزحت من الكوفة إلى مصر منذ أوائل الفتح الإسلامي، وانتشرت في الشمال والجنوب، وطاب لها العيش وامتدت بها أسباب الحياة.
            وإذا كان الأمر كذلك مع نسبه فلا بد أن تكون أسرته التي نشأ بين أحضانها على جانب من الفضل والكرم والعلم، فقد كان والده يوسف بن إبراهيم الملقب بالقاضي الأشرف كما يجمع كثير من المؤرخين الذين تحدثوا عنه، كريماً فاضلاً، كاتباً ناصع البيان، متصرفاً في ضروب الإنشاء، حسن الترسل، مليح الخط، له علاقات قوية بسلاطين عصره من الأيوبيين الذين أنزلوه منهم منزلة كريمة وولوه أعمالاً بالصعيد لثقتهم البعيدة فيه، وكانت أمه أيضاً امرأة من بادية العرب من قضاعة، صالحة، حسنة العبادة، فصيحة اللهجة، تحفظ كثيراً من أشعار العرب وأمثالهم وحكمهم، نضيف إلى ذلك أثر البيئة التي نشأ بها صاحبنا وقضى فيها شرخ شبابه، وهي بيئة مدينة (قفط) من صعيد مصر الأعلى، والتي كانت آنذلك إحدى توابع إقليم يعرف بالأعمال القوصية نسبة إلى مدينة (قوص) التي كانت عاصمة له، نقول: إن هذه المدينة كما وصفها كثير من الرحالة والجغرافيين العرب كانت طريقاً للحج آمناً مرغوباً فأكسبها ذلك صيتاً بعيداً في ازدهار أسواقها، وكثرة تجاراتها وخيراتها، وكان ذلك سبباً في أنها جذبت إليها كثيراً من العلماء والفقهاء والمحدثين وهم في طريقهم إلى الحج، فعمرت مساجدها ومدارسها وأنديتها بهؤلاء العلماء الأجلاء الذين طاب لهم أن يعقدوا حلقات الدرس والوعظ، وازدهرت على إثر ذلك الحركة العلمية بمدينة (قفط) وقصدها الدارسون والباحثون فنشطت نشاطاً ملحوظاً كما نشطت مدينة (قوص وقنا وأسنا وأسوان) وغيرها من مدن الصعيد.
            وفوق كل هذه العوامل هناك عامل قوي له أثر على ثقافة القفطي ودراساته، وهو كثرة أسفاره ورحلاته، فقد لازم والده ملازمة الظل في كثير من هذه الأسفار فرحل إلى القاهرة، والاسكندرية، وبيت المقدس، وحلب، وكانت الحياة الثقافية في عصر سلاطين الأيوبيين سواء في مصر أو الشام على جانب كبير من التقدم والرقي، وكانت هذه المدن بصفة خاصة مقصد كثير من العلماء والفقهاء، بالإضافة إلى كثرة جوامعها ومدارسها وخزائن الكتب بها، ولا يفوتنا قبل أن نختم حديثنا عن العوامل التي أثرت في شخصية قاضينا الأكرم وعملت على تخليد ذكرها ووضوح تاريخها أن نشير إلى لقائه في مدينة حلب بالمؤرخ والجغرافي المعروف ياقوت الرومي وأثر ذلك على تقوية روابط الصداقة بينهما، وكان سبب ذلك هو أن القفطي قد أكرم ياقوتاً وأفسح له من داره في حلب حينما استغاثه برسالة بعث لها إليه من الموصل وقد تعرضت لهجون عنيف من قبل التتار. وظل ياقوت مدى حياته معترفاً بجميل القفطي هذا، وقد سجل له في كتابه معجم الأدباء حديثاً خاصاً عن نشأته وحياته وثقافاته وعلومه ونوادره استنفد أكثر من تسع وعشرين صفحة، بالإضافة إلى أن ياقوتاً أيضاً أثناء حديثه عن مدينة قفط في معجم بلدانه نراه يفيض في الثناء على القفطي وأصله وعشيرته.
            كل هذه العوامل مجتمعة كان لها أبعد الأثر في تكوين شخصية القفطي العلمية وخلود ذكرها، ونحن في هذه السطور القليلة سوف نعطي صورة سريعة عن حياة هذه الشخصية وثقافتها وآثارها العلمية التي ما زات موضع اهتمام الدارسين والباحثين حتى يومنا هذا.

مولده ونشأته

            في أحد ربيعي سنة ثمان وستين وخمسمائة (568 هـ) ولِد بمدينة (قفط) علي بن يوسف بن إبراهيم.. بن شيبان المكنى بجمال الدين أبي الحسن القفطي نسبة إلى (قفط) المعروف بالقاضي الأكرم، وقد أطلق عليه هذا اللقب حينما ولي منصب القضاء بحلب في عهد العزيز ابن السلطان صلاح الدين الأيوبي (633 هـ). وقد قضى صاحبنا في مسقط رأسه (قفط) شطراً يسيراً من حياته، لأنه كان دائب السفر مع ولده إلى القاهرة والفسطاط (مصر) وكان علىعادة الشباب في مثل سنه كثير المرح واللعب.
            اتجه القفطي بعد ذلك إلى الدرس وتحصيل العلوم، فحفظ، جرياً على العادة المتبعة في ذلك الوقت، القرآن الكريم، ونهل من موارد العلم والثقافة على يد من كان في بلدته من العلماء ولم تلبث (قفط) آنذاك أن تعرضت لثورة عارمة بين الشيعة والسنة، فرأى والده أن يفارق البلاد طلباً للعافية وإيثاراً للسلامة، فاتجه في 575 هـ مصطحباً ابنه إلى القاهرة، ولم يكن قد بلغ أربعة عشر ربيعاً.

أسفاره .. شيوخه .. وثقافاته

            كانت القاهرة في ذلك الوقت مركز إشعاع فكري وثقافي ليس له شبيه في المشرق والمغرب، فجوامعها ومدارسها تفوق كل حصر، كما أن علماءها وفقهاءها في كل عام وفن يجلون عن الوصف، بالإضافة إلى وفرة خزائن الكتب بها. فقد شاهد القفطي هذه النهضة العلمية الواسعة التي كانت عليها القاهرة فانبهر بها، واتجه بكليته يأخذ من معين هذه الثقافة الذي لا ينضب، فالتف حول الكثير من هؤلاء العلماء يأخذ عن أيديهم، ويستفيد من علمهم ومعرفتهم. وكان من بين هؤلاء الذي تأثر بهم: محمد بن محمد بن بنان الأنباري، وهو من المشايخ الأجلاء الذين صاحبهم القفطي وسمع منهم كتاب (الصحاح للجوهري) ثم اتجه بعد ذلك إلى الاسكندرية حينما سمع بأخبار شيخها الجليل: أبي طاهر، فانتظم في حلقة الطلاب الذين وفدوا عليه واستفاد كثيراً على يديه، ثم نراه بعد ذلك يتوق شوقاً إلى مسقط رأسه (قفط) فيأخذ طريقه إليها، وهناك يلتفّ حول علمائها وفقهائها وأدبائها.
            وكان ممن التقى بهم من العلماء: صالح بن عادي العذري، نزيلها، وهو عالم نحوي معروف في الصعيد في ذلك الوقت، فلزمه القفطي فاستفاد منه، ثم رجع ثانية إلى القاهرة، ولكنه لم يستمر طويلاً بها فاتجه منها في 591 هـ إلى بيت المقدس في صحبة والده الذي عين من قبل العزيز بن صلاح الدين الأيوبي، والياً عليه، وقد طاب له المقام في بيت المقدس زمناً، فأحب أهله وأحبوه، واطمأن إليهم واطمأنوا إليه، وعرضوا عليه منصباً لكنه رفض ذلك مؤثراً التردد على مجالس العلم والعلماء والدرس والتحصيل، لكن بيت المقدس لم يلبث أن تعرض للفتنة وعصفت به الأقدار، فتفرق الشمل واتجه الوالد إلى مدينة حران ومنها إلى ذي جبلة ببلاد اليمن، وأمضى بهذه المدينة بقية حياته إلى أن توفي ودفن فيها 624 هـ، على حين اتجه الابن إلى مدينة حلب التي كانت في ذلك الوقت من أهدأ المدن وأبعدها صيتاً في مجال الثقافة والمعرفة، وذلك ما تتوق إليه نفس القفطي، فعاش بين ربوعها آمناً مطمئناً، وتعرف فيها على ميمون القصري الذي كان صديقاً حميماً لوالده، ورفيقه في رحلته إلى حلب، وكان يحظى بنفوذ ومكانة عند صاحب هذه المدينة، وهو الملك غازي المعروف بالظاهر ابن السلطان صلاح الدين الأيوبي، ولقد كلف القفطي كلفاً شديداً منذ دخوله حلب باقتناء الكتب وجمعها، وأنفق في ذلك كثيراً من الجهد والمال، وكرس وقته في حفظ وترتيب ما اجتمع لديه من هذه الكتب حتى أصبح صاحب أكبر خزانة كتب في هذه المدينة وأصبحت داره من ثم قبلة الورّاقين ومقصد النساخين، يجلبون له الكتب والأسفار من كل صوب وحدب، وهو يضاعف لهم الثمن ويجزل في العطاء، وقد قال عنه ابن شاكر الكتبي في ذلك: »إنه قد جمع من الكتب ما لا يوصف، وكان لا يحب من الدنيا سواها، ولم يكن له زوجة، وأوصى بمكتبته للناصر حلب، وكانت تساوي خمسين ألف دينار«.
            وكان من بين المترددين عليه في حلب المؤرخ والجغرافي المعروف ياقوت الرومي الذي أشرنا إلى علاقته به، وبينما القفطي منقطع للبحث والتحصيل والاعتناء بالكتب وجمعها إذ ألزمه ميمون القصري لثقته به بالوزارة فقبل ذلك على كره منه، لكنه قام بهذا العمل خير قيام، وظل كذلك حتى وفاة ميمون (610 هـ) ومن ذلك الحين لم يجد القفطي بدأ من الخلود إلى نفسه والاشتغال بالعلم والدرس، فانقطع عن الناس ولزم بيته. ولم يلبث أن أصدر له السلطان أمراً بتولي منصب القضاء فلم يتقاعس، لا حباً في هذا المنصب، ولكنه لم يكن يملك أن يعصي السلطان، الذي كان يجله ويقدره ويثق به أمراً فتقلد هذا المنصب في (616 هـ) واستمر شاغلاً له حتى (628 هـ) يسوس الأمور أحسن سياسة، ويرعى مصالح الناس خير رعاية، وقد أورد ياقوت في معجمه أدبائه كثيراً من المواقف المشرفة التي تدل على ذلك، ومن هنا لقبه العالم والخاص بـ (القاضي الأكرم) ولكنه طلب من السلطان إعفاءه من هذا المنصب كي يستريح وينقطع للتأليف والكتابة، فأجابه السلطان إلى طلبه، فلازم قاضينا الأكرم الخلوة واعتزل الناس مشتغلاً بالتصنيف والتأليف، وظل كذلك إلى أن توفي سنة 646 هـ ودفن في حلب بمقام الخليل عليه السلام. وبهذا تنتهي حياة علم من أعلام الفكر والثقافة الإسلامية ظل ثمانية وسبعين عاماً شاهد خلالها كثيراً من الاضطرابات والفتن التي حلت بالعالم الإسلامي، وتقلد فيها مناصب عدة لم تحل بينه وبين أن يقول كلمة الحق، وأن يسعى بين الناس بالبر والمعروف حتى استولى على مجامع قلوبهم وأنزلوه منهم منزلة رفيعة.

آثاره العلمية

            لقد ترك القفطي أكثر من خمسة وعشرين مؤلفاً في كثير من الفنون والمعارف، وبصفة خاصة في التاريخ، وقد عد ابن شاكر الكتبي من هذه المؤلفات سبعة عشر مؤلفاً، كما أن ياقوت الرومي، والأدفوي، والأسيوطي قد ذكروا في مؤلفاتهم جانباً كبيراً من تراث القفطي، لكنه مع الأسف الشديد قد فقِد أغلبه وقد يكون السبب في ذلك راجعاً إلى غارات التتار التي توالت على مدينة حلب وما صاحبها من تدمير وتخريب، إلا أن الأيام قد حفظت لنا أثرين خالدين من آثار صاحب هذه الترجمة هما: »إخبار العلماء بأخبار الحكماء« و »إنباه الرواة على أنباه النحاة«. وما زال لهذين الأثرين فائدتهما الجليلة وقيمتها العلمية بين أمهات تراثنا الإسلامي، لا يستغني عنهما أي باحث أو دارس حتى يومنا هذا، ويجمل بنا أن نقف وقفة يسيرة أمام هذين الأثرين نقلب صفحاتهما علّنا نعطي للقارئ الكريم صورة سريعة عن مضمونهما.
أما كتابه »إخبار العلماء بأخبار الحكماء« المعروف بتاريخ الحكماء. فقد وصل إلينا مختصراً، وهو يحتوي على 414 ترجمة للأطباء والنحويين والعلماء منذ أقدم العصور حتى أيام المؤلف، ويعتبر هذا الكتاب على جانب كبير من الأهمية لأنه معين لا ينضب من المعلومات الخاصة بمعارف العرب عن مؤلفات الإغريق، وهو يحمل بين دفتيه الكثير من آثارهم التي لم تحفظها الكتب القديمة، وقد طبِع هذا الكتاب سنة 1320 هـ في ليبزغ، وقد طبع في القاهرة في مطبعة السعادة سنة 1326 هـ.
وأما »إنباه الرواة على أنباه النحاة« وهو يحمل أكثر من اسم، وفي رواية أنه إثبات الرواة على أثبات النحاة، وقد ذكره السيوطي في حسن المحاضرة، وفي بغية الوعاء بتاريخ النحاة. وذكره ياقوت في معجم أدبائه بأخبار النحويين، وهو يعتبر من المعاجم التي عرفها عصر الأيوبيين، ويقع في أكثر من جزء ترجم فيه أكثر من ألف ترجمة للقراء والفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمتصوفين والأدباء والشعراء والكتاب والمؤرخين والمنجمين في مختلف العصور، أي أن مؤلفه لم يتقيد فيه بعصر دون عصر، كما أنه شمل كل من كان له شأن يذكر من الأعلام في مختلف الفنون في أرجاء العالم الإسلامي، شرقه وغربه، ولم يشر المؤلف إلى التاريخ الذي بدأ فيه هذا الكتاب أو الذي انتهى منه. والراجح أنه ألفه في فترات طويلة، وقد رتبه على حروف المعجم حتى يسهل استخدامه.
وقد اعتنى بهذا الأثر الإسلامي الجليل المحقق الكبير الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، وتوفر على تحقيقه وترجم لحياة المؤلف ترجمة مستفيضة، أخرجه في ثلاثة أجزاء، فخدم بذلك المكتبة العربية خدمة جليلة. وقد اعتنت دار الكتب المصرية بالقاهرة بطبعه سنة 1950 م. وقد كان للقفطي بجانب هذه المؤلفات والآثار كثير من الرسائل الديوانية والإخوانية التي أورد ياقوت منها شطراً كبيراً بجانب أنه يقرض الشعر، وقد كان القفطي في كل ما كتب يتميز في أسلوبه بتنميق اللفظ والاحتفال بالسجع، كما كان يميل إلى التورية والجناس والاستشهاد بالنظم.
مجلة الأمة – العدد 14 – صفر 1402هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق