الأحد، 28 يوليو 2013

من مفكرة فلسطين (2)

 في الفكر اليهودي
دعوات مستوردة وشعارات خادعة
بقلم: إسماعيل الكيلاني

**وضوح الرؤية لدى يهود، وإصرارهم على أن العودة إلى صهيون يجب أن تسبقها عودة إلى اليهودية، وأنه ليس هناك ما يسمى «فلسطين» ولكن «أرض الميعاد» التي وعد إله  إسرائيل بها «شعبه المختار» وتأكيدهم على أن «اليهود يريدون أن يعيدوا العبادة إلى الهيكل مكان المسجد الأقصى» (دائرة المعارف اليهودية) واستماتتهم لأجل سحب جثث قتلاهم من ميدان معاركهم في بلادنا ليدفنوا وفقاً للطقوس اليهودية في أرض الميعاد «جنتهم». ومبادلتهم الجثة أحياناً بأعداد كبيرة من أسرانا لديهم، وتأكيد مفكريهم وسياسييهم أن «الحياة الدينية اليهودية هي دون سواها سر خلود إسرائيل، وسيظل إسرائيل خالداً طالما بقي متعلقاً بالتوراة، فإذا هجر إسرائيل التوراة اندثر تاريخه في رمال الصحراء ولو ظل مقيماً في أرضه وبلاده.. لذا يجب أن تكون بلاد اليهود الناهضة خير خلف من الوجهة الروحية لبلاد اليهود، فرسالتها –قديمة كانت أم حديثة- هي أن تظل محافظة على شخصيتها وكيانها.. وأن «نهضة إسرائيل القومية، وإحياء الدين اليهودي أمران لا ينفصلان» هذا كله – للأسف- لا يقابله على الجهة المقابلة سوى الجري وراء السراب الخداع، والضياع، والتخبط، وغبش الرؤية.**

يهودية وصهيونية

إن بعض الذين ينتسبون إلى العروبة والإسلام، وهم يدّعون الموضوعية، يحاولون التفريق بين اليهودية والصهيونية، وأن اليهودية تختلف عن الصهيونية (1).. في الوقت الذي تعرِّف فيه إسرائيل الصهيوني بأنه «اليهودي الذي يقيم في إسرائيل أو يستعد للهجرة إليها» (الأهرام: 26/9/1967) ويعلن بن جوريون –أول رئيس وزراء لإسرائيل- في تقديمه لكتاب «تاريخ الهاجاناه» قائلاً: «في بلدنا لا يوجد مكان إلا لليهود.. وسنقول للعرب: اخرجوا من هنا.. وإذا أبدوا أية مقاومة فإننا سنخرجهم بالقوة» ويقول: «تستمد الصهيونية وجودها وحيويتها من مصدرين: مصدر عميق عاطفي دائم، وهو مستقل عن الزمان والمكان، وهو قديم قدم الشعب اليهودي ذاته، وهذا المصدر هو  الوعد الإلهي والأمل بالعودة، يرجع الوعد إلى قصة اليهودي الأول(2) الذي أبغلته السماء أن (سأعطيك ولذريتك من بعدك جميع أراضي بني كنعان ملكاً خالداً لك) هذا الوعد بوراثة الأرضي رأى فيه الشعب اليهودي جزءاً من ميثاق دائم تعاهدوا مع إلههم على تنفيذه وتحقيقه، والإيمان بظهور المسيح لإعادة المملكة أصبح مصدراً أساسياً في الدين اليهودي يردده الفرد في صلواته اليومية، إذ يقول بخشوع وابتهال: أؤمن إيماناً مطلقاً بقدوم المسيح، وسأبقى –حتى ولو تأخر- أنتظره كل يوم. أما المصدر الثاني، فقد كان مصدر تجديد وعمل، وهو ثمرة الفكر السياسي العملي الناشئ عن ظروف الزمان والمكان، والمنبعث من التطورات والثورات التي شهدتها شعوب أوروبة في القرن التاسع عشر، وما خلّفته هذه الأحداث الكبيرة من آثار عميقة في ا لحياة اليهودية».
وفكرة الحنين هذه إلى أرض الميعاد التي يذكرها بن جوريون هي عقيدة دينية جاءت في التوراة المتداولة بينهم، جاء في المزامير (137/1-7): (على أنهار بابل هناك جلسنا..، بكينا أيضاً عندما تذكرنا صيهون..، على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا..، لأنه هناك سألنا الذي سبونا كلام ترنيمة..، ومعذبونا سألونا فرحين قائلين: رنّموا لنا ترنيمات صهيون..، كيف نرنم ترنيمة الربّ في أرض غريبة؟ إن نسيتك يا أورشليم تنسني يميني، ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك، إن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحي..)
كما جاء في سفر إشعيا (35/1-10): (قولوا لخائفي القلوب تشددوا لا تخافوا، هو ذا إلهكم، الانتقام يأتي، جزاء الله هو يأتي ويخصلكم، ومعذبو الرب يرجعون إلى صهيون بترنم وفرح أبدي على رؤوسهم، ابتهاج وفرح يدركانهم ويهرب الحزن والتنهد). وفيه أيضاً (49/14-26): «وقالت صهيون قد تركني الرب وسيدي نسيني؛ هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك. هكذا قال السيد الرب ها إني أرفع إلى الأمم يدي، وإلى الشعوب رايتي فيأتون بأولادك في الأحضان، وبناتك على الأكتاف يحملن، ويكون الملوك حاضنيك وسيداتهم مرضعاتك، بالوجوه إلى الأرض يسجدون لك ويلحسون غبار رجليك، وأنا أخاصم مخاصميك، وأخلص أولادك، وأطعم ظالميك لحم أنفسهم، ويسكرون بدمهم كما من سلاف، فيعلم كل بشر أني أنا الرب مخلصك وفاديك..» وقد وجدت الصهيونية في هذا النص سنداً قوياً لزيادة الاقتناع بصحة ما تدعو إليه، واعتبرت نفسها تحقيقاً لمعجزته التي بدأت تتحقق على أيدي الصهيونية، فقد بدأت الأمم تأتي بأبناء اليهود وبناتهم إلى فلسطين، وذلك بصدور وعد بلفور (2/11/1917) وموافقة عصبة الأمم المتحدة عليه، ثم بتأييد الولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا وإيطالية وروسية..
وتأتي دعوة هؤلاء للتفريق بين اليهودية والصهيونية في الوقت التي تطبق فيه الصهيونية نصوص اليهودية على أرض الواقع في فلسطين والجولان وجنوبي لبنان و.. فالتوراة المتداولة مليئة بالنصوص التي تنمي روح العزلة لديهم وتقوي كراهيتهم لجميع البشر، فهم الشعب المختار صاحب العبقرية المتميزة: «أنا الرب إليهم ميّزكم من الشعوب» (لاويين: 20/24) «وقد ميّزكم من  الشعوب لتكونوا لي» (لاويين: 20/26) «لأنك شعب مقدس للرب إلهك: إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعباً أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض» (تثنية: 7/6) حتى إن «بنسكر» صاحب كتاب «التحرر الذاتي» لا يجد مناصاً من تقرير أن «الشخص الذي لا يقول: إن الشعب اليهودي هو شعب الله المختار، لا بد أن يكون أعمى» (ص: 48) بل إن «موسى هيس» صاحب كتاب «روما والقدس» يعتبر أن اليهودية هي أساس النظرة المعاصرة للحياة العالمية ليصل إلى القول بأن «اليهود وحدهم شعب الله» (ص: 31-32) مما حدا بهم إلى احتقار الأمم الأخرى والتعالي عليها، خاصة وأن التلمود يقول: «نحن شعب الله في الأرض، سخر لنا الحيوان الإنساني، وهو كل الأمم والأجناس، سخرهم لنا، لأ،ه يعلم أننا نحتاج إلى نوعين من الحيوان، نوع أعجم، كالدواب والأنعام والطير، ونوع كسائر الأمم من أهل المشرق والغرب.. إن اليهود من عنصر الله كالولد من عنصر أبيه، ومن يصفع اليهودي كمن صفع الله.. يباح لإسرائيل اغتصاب مال أي كان، وإن أموال غير اليهود كالمال المتروك يحق لليهودي أن يمتلكه.. وكما أن بني الإنسان يسْمُون على الحيوانات فإن اليهود يسمون على شعوب الأرض جميعاً». (إسرائيل: فكرة، حركة، دولة: ص21). هذا التمييز في النظر والتعامل نجده صريحاً في التوراة المتداولة، جاء في سفر التثنية (23/19-22): «لا تقرض أخاك بربا، ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء مما يقرض بريا. للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا، لكي يباركك الرب إلهك». وهذا يستتبع نشوء نظرة عدوانية لا شفقة فيها ولا رحمة، فكيف إذا ارتبط هذا الأمر بالقتل والتدمير والفتك والإرهاب؟ جاء في سفر التثنية (20/11-16): «حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك أبوابها، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك، بل عملت معك حرباً، فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف.. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما المدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إليهك نصيباً فلا تستبقِ منها نسمة ما».
إن يهود وهم يتقدمون  إلى فلسطين وغيرها من أراضينا جاؤوا يتغنون بنداء التوراة المتداولة بين أيديهم، يحدوهم الأمل ببناء «مملكة الله» واستعباد الشعوب.. «وبرائحة سروركم أرضى حين أخرجكم من بين الشعوب، وأجمعكم من ا لأراضي التي تفرقتم بها، وأتقدس فيكم أمام عيون الأمم، فتعلمون أني أنا الرب حين آتي بكم إلى الأرض التي رفعت يدي لأعطي آباءكم إياها..» (حزقيال: 22/41-42) «هكذا قال رب الجنود: ها أنذا أخلص شعبي من أرض المشرق، ومن أرض مغرب الشمس، وآتي بهم فيسكنون في وسط أورشليم، ويكونون لي شعباً وأنا أكون لهم إلهاً». (زكريا: 8/7-8).
هذه النصوص وغيرها كثير في أسفار اليهود المقدسة (3) التي تدعوا إلى استئصال الأعداء، رجالاً ونساءً وأطفالاً، بل تمتد الدعوة إلى استئصال الحيوانات والنباتات والممتلكات جميعها، أي: الإبادة الشاملة للبشر وسواهم.. هي التي تربّى عليها الناشئة اليهودية منذ نعومة أظفارها في (الجيتو) اليهودي، وتنشَّأ الشبيبة في ضوئها وهداها، وازداد هذا بعد قيام الدولة على جزء من أرض فلسطين عام 1948م، فنجد الاهتمام بالدين اليهودي واللغة العبرية اهتماماً يفوق اهتمام أي دولة أخرى بدينها ولغتها، يستوي في ذلك أقصى اليمين وأقصى  اليسار، وهو ما عبر عنه أستاذ التربية وعميد الجامعة العبرية بقوله: «إن أكبر كمية من الدراسة هي: الثقافة العبرية الكلاسيكية، كما هو معبّر عنها في التوراة، وفي الأدب العبري القديم والحديث، وهذا هو الحبل المشترك القوي والإنساني الذي يوحد جميع اليهود، ويكوّن لهم تقاليدهم المشتركة، وقد حصص لهذه المواضيع بين ثلث إلى نصف وقت التدريس، وفي جميع المدارس سواء كانت تتبع المنهج الرسمي الديني أو العام، من أقصى اليمين الأرثوذكسي إلى اليسار المتطرف العلماني الاشتراكي يوجد تركيز كبير على التوراة في أصولها العبرية، لأن التوراة في إسرائيل ليست فقط الأدب القومي الكلاسيكي والمحتوى الأساسي للتقاليد الروحية والأخلاقية، ولكن لأنها أيضاً مصدر التاريخ القومي، وجغرافية ا لوطن، وطرق  المعيشة «الفولكلورية» المتشركة واللغة العبرية الحية..» (تعليم العرب في إسرائيل: 41-42) فكيف يمكن التفريق بين الدعوة اليهودية والصهيونية، وما هو المقياس الذي يمكن أن يستخدم لتحقيق هذا الأمر؟
لقد عاش يهود بين ظهرانينا منذ فجر الدعوة الإسلامية، وتمتعوا بحقوق المواطنة الكاملة، وكانوا أهل ذمتنا، لم تمتد إليهم يد بسوء إلا إذا ارتكبوا ما يوجب القصاص، كما فعل بنو قينقاع عندما أرادوا كشف عورة امرأة مسلمة في سوقهم، وبنو النضير عندما تحالفوا مع المشركين العرب للقضاء على الإسلام والمسلمين.. وكانت العقوبة لا تنال إلا الذين يستحقها، لأنه في ديننا (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
إن الصهيونية هي التطبيق العلمي للقيم اليهودية المستمدة من التوراة والتلمود المتداول بين أيدي يهود.. هذه القيم هي التي جعلت يهود يأتون من مختلف بلدان الدنيا إلى فلسطين لتشريد أهلها واغتصاب أرضها لتحقيق مملكة إسرائيل الكبرى وبناء هيكل سليمان.. حتى إننا لنجد الزعماء اليهود الذي يصفهم دعاة التفريق بأنهم غير صهاينة ليسوا سوى أفراد عصابات ساهمت بالقتل والتشريد. من هؤلاء مثلاً: شتيرن وهو الذي قتل الكونت برنادوت الوسيط الدولي في فلسطين عام 1948م لأنه لم يحقق ما يريده يهود منه.
وعاموس كنعان كاتب يهودي وعضو في عصابة شتيرن. ويوري أفنيري إرهابي قديم من منظمة أرغون، وإريك رولو يهودي مصري، إرهابي، طرد من مصر في أعقاب فضيحة «لافون» واسمه الحقيقي إلياهو رفول الذي تحول بعد نزوحه إلى فرنسة إلى إريك رولو الكاتب الصحفي الخطير في جريدة «لوموند» وخبير شؤون الشرق الأوسط في الخارجية الفرنسية، ولإذاعة وتلفزيون باريس.
            وماتيتيا هوبيليد قاتل في صفون الهاجاناه منذ نعومة أظفاره عندما كان في سن الخامسة عشر... (انظر صحوة الرجل المريض: 223-224).

الفرز الطبقي

            ومن هذه الدعوات المشبوهة: ضرورة فهم التقسيم الطبقي اليهودي في فلسطين المحتلة، وضرورة التعرف على الصقور والحمائم، وتصنيف الطبقة  الحاكمة في صف الإمبريالية، والطبقة المحكومة في صف الكادحين من فقراء العالم، والوقوف إلى جانب الطبقة الكادحة ضد البرجوازية، لأن هذا الأمر في الذي يمكن أن يقدم الحل الأمثل للقضية الفلسطينية، حيث يمكن أن تتحول دولة العدو إلى دولة تقدمية، ويقول  الدكتور حامد ربيع معلقاً: «هذا المنطق هو الذي بدأت تردده الدعاية الإسرائيلية عقب نكبة حزيران 1967م وسقوط القدس بأيديهم، وبشكل خاص عقب مبادرة روجرز وتحت ستار الانفتاح على اليسار الإسرائيلي، وهو منطق استطاعت أن تخطط له الدعاية الإسرائيلية بدقة ونجاح، وغايتها: إضعاف إرادتنا في المواجهة من جانب، والتسرب في سبيل إيجاد المصالح المتكاتفة والمترابطة مع الوجود الإسرائيلي من جانب آخر.. الأدوات كانت عديدة، ولكن  أحدها كان التلاعب بفكرة اليسار في المجتمع الإسرائيلي، ووقع في هذا الخطأ –وليكن بحسن نبيه- بعضُ المفكرين  العرب، ولو أنهم عادوا إلى المؤلفات العلمية الصادرة عن علماء صهاينة ينتمون إلى الجامعات العبرية نفسها لوجدوا أنهم ينفون عن الأحزاب الإسرائيلية التي يصفونها باليسارية، ويعلنون أن المنطق اليساري لا وجود له في الأيدلوجية الصهيونية، ويصير هذا التحليل أكثر وضوحاً وصراحة في مؤلَّف الإسرائيلي «أنتنوفسكي» الذي يعلن أن «عملية التمييز بين اليسار واليمين لا يمكن في المجتمع الإسرائيلي إلا أن تقود إلى نتائج مشوهة» (إطار الحركة السياسية في المجتمع الإسرائيلي: ص19).
            ولمعرفة الحقيقة كما هي دون زيف، يجب التذكير بأن كارل ماركس كان قد تعاون تعاوناً وثيقاً مع موسى هيس صاحب كتاب «روما والقدس» الذي وضع فيه أسس الاشتراكية الصهيونية، وهو من أوائل دعاة الصهيونية والعودة إلى فلسطين، حتى إن لوكاتش المفكر الاشتراكي عدّ «هيس» سلفاً لماركس، بينما كان «هيس» يعتبر ماركس مثله الأعلى، وقد ذكر ذلك من خطاب إلى صديقه «برتولد أورباخ». ومن المعروف أن رئيس الدولة الشيوعية الأولى في العالم كله «زينو فييف» كان يهودياً، واسمه الصهيوني «أبفلبوم»، وكذلك رئيس البوليس السياسي «ياجودا» أو «يهودا» ووزير الخارجية «ليتفينوف» واسمه الصهيوني «فنكلشتين». ولم يكن في الدولة السوفيتية من الزعماء الكبار سوى لينين وستالين من  الروس الذي لا يدينون باليهودية، ولكن لينين كان نصف يهودي واسمه «إيليانوفيتش» وستالين كان صهراً لكاجانوفيتش الصهيوني.. وقد أعلن «جاكوب شيف» اليهودي صاحب الملايين أنه أمد «تروتسكي» بالمال لإقامة الدولة الشيوعية، وثبت أن صاحب الملايين «ماكس ووربورغ» في ستوكهولم كان الواسطة القريبة لتزويد «تروتسكي» بالمال كلما احتاج إليه. (الصهيوتية العالمية: ص78-79) وأغلب الظن أن يهود –كعادتهم في المراهنة على عدة جياد وبوقت واحد- الذين نادوا بالاشتراكية في القرن التاسع عشر وجدوا في هذه الأفكار مطية تقربهم من هدفهم، ووسيلة لستر الكثير من نواياهم. يقول عباس محمود عقاد رحمه الله: «لقد تأسست حكومة إسرائيل في فلسطين، وهم –اليهود- لا ييأسون من تسخير الشيوعية لتأييدهم في المجامع الدولية، وتسخيرها من جهة أخرى لتخويف دول الغرب، وتهديدها بالتحول إلى جانب الكتلة الشرقية إن لم تسعفهم بالمال والسلاح والمعونة الدولية.. وظهر أثر هذا سريعاً على ساحة القضية الفلسطينية عندما وقف «أندريه غروميكو» وزير خارجية الاتحاد السوفييني سابقاً، ورئيس وفده في  الأمم المتحدة يومذاك، في 15/5/1947م ليقول: [إن الدول الغربية قد أثبتت عجزها في الدفاع عن الحقوق الأولية للشعب اليهودي، وهذا ما يبرر طموح اليهود إلى إنشاء دولتهم بأنفسهم، ومن غير العدل ألا نوافق على هذا الطموح، أو أن ننكر حق الشعب اليهودي في تحقيق ما يصبو إليه]. وعندما سارعت الأحزاب الشيوعية العربية في سورية ولبنان وفلسطين والأردن والعراق و.. بإعلان تأييدها لقرار تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، بين اللص والضحية، ورفضت أن تحارب مع أبناء جلدتهم ضد المعتدين اليهود الذي قدموا من بقاع مختلفة من العالم لأن «غروميكو» نفسه قال في 6/11/1948م: [إن الهجوم العربي على الشعب اليهودي المسالم يعتبر عملاً وحشياً ضد شعب لا يريد سوى تقرير مصيره!] ونكاد نجد الحجة نفسها في بيانات الأحزاب الشيوعية العربية، وعلى سبيل المثال أعلن الحزب الشيوعي العراقي أن [الشعب العراقي يرفض بإباء أن يحارب الشعب الإسرائيلي الشقيق! لا مصلحة في الحرب للكادحين العرب واليهود بل للبرجوازية العربية العفنة!] ألا يوجد برجوازية يهودية عفنة؟» (صفحات مجهولة من تاريخ الأحزاب الشيوعية العربية، من تأليف شيوعيين سابقين هما: محمد على الزرقا، وإلياس مرقص).
            وجاء في كتاب (أضواء على القضية الفلسطينية) الذي أصدره الشيوعيون في العراق ما يلي: «فلتسقط الحرب بين العرب واليهود لإحباط خطط الاستعمار والرجعية ولْتَحْيَ ا لصداقة العربية اليهودية!».
            هذا كله في الوقت الذي حمل فيه الشيوعيون اليهود السلاح وجاؤوا غزاة لفلسطين مع بني جلدتهم –مهما كانت انتماءاتهم الظاهرية- جاؤوا من مختلف دول العالم إلى بلد لم يولدوا فيه، ولا صلة لهم به، لتحقيق العودة إلى أرض الميعاد –حسب الوعد المبرم الذي تورده التوراة المتداولة- وهم الذين يعلنون الإلحاد، لم يخرجوا قيد أنملة عن الخطوط العريضة لدولة العدو، والأدهى من ذلك أنهم استخدموا صلاتهم ونفوذهم لدى الدوائر الشيوعية العالمية لخدمة هذه الأهداف. جاء في صحيفة «أخبار فلسطين» نقلاً عن صحيفة إسرائيلية بتاريخ 19/4/1965م ما يلي: «إن الوطنيين العرب –في إسرائيل- وقعوا في خطأ كبير عندما ظنوا أن الحزب الشيوعي يتخذ مواقف على ضوء السياسة التي تنتهجها دول المعسكر الشرقي تجاه القضايا العربية، لا سيما وأن تلك الدول تدأب على تأييد القضايا العربية! ولكن سرعات ما خاب أمل العرب عندما تضامن الحزب الشيوعي في إسرائيل مع باقي الأحزاب الأخرى في البرلمان اليهودي –الكنيست- وشجب تصريحات «والتر أولبرخت» (1) أثناء وجوده في القاهرة، تلك التصريحات التي أعلن فيها عدم اعترافه بوجود الدولة اليهودية، وكذلك تحدث «موشيه سينه» أحد زعماء الحزب عن عدم اعتراف الحزب الشيوعي اليهودي بمنظمة التحرير الفلسطينية، وأعلن تضامنه مع بقية الأحزاب في محاربة أهداف منظمة التحرير..»
            ويمكن أن يزول العجب إذا تذكرنا أن معظم –إن لم نقل كل- مؤسسي وقادة الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي كانوا من اليهود: ففي مصر مثلاً كان هناك أربعة تنظيمات شيوعية، رؤساؤها كلهم يهود: «هنري كورييل»، «إيلي شوارتز»، «أوديت» وزوجها «سلامون سدني»، «يوسف درويش» و«ريمون دويك». كذلك فإن السكرتير العام للجنةالمركزية للحزب الشيوعي اللبناني  السوري «جاكوب تيبر» يهودي جاء من فلسطين ليترأس الحزب، وعندما تشكلت قيادة جديدة برئاسة خالد بكداش ثم اختيار فرج الله الحلو حيث أرسل إلى تل أبيب للتنسيق، كما تم استقدام «نخمان ليفنسكي» اليهودي ليكون مستشاراً للقيادة الجديدة.. (صفحات مجهولة).            إن الغاية من مثل هذه الدعوات المشبوهة والمضللة: إبعاد الإسلام عن ساحة القضية المقدسة؛ لقد درسوا التاريخ، تاريخ صراعهم مع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وتاريخ الغزو الصليبي، ووعوا درسه، بل إنهم شكلوا لجنة لدراسة ظاهرة »صلاح الدين الأيوبي« رحمه الله لتفادي ظهورها من جديد.. وذهبوا إلى حد استعداء الدنيا بأسرها ضد الصحوة الإسلامية: »إن عودة الروح الدينية للظهور من جديد في المنطقة تشكل تهديداً مباشراً لمستقبل إسرائيل ولمستقبل الحضارة الغربية بأسرها.. إن على اليهود وأصدقائهم أن يدركوا أن الخطر الحقيقي الذي تواجهه إسرائيل هو خطر عودة الروح الإسلامية إلى الاستيقاظ من جديد.. وإن على المحبين لإسرائيل أن يبذلوا جهدهم كله لإبقاء الروح الإسلامية خامدة، لأنها إذا اشتعالت من جديد فلن تكون إسرائيل وحدها في خطر، ولكن الخضارة الغربية كلها ستكون في خطر«. (من تعليق للإذاعة اليهودية: 5/9/1978م).
            وإبعاد الإسلام عن ساحة القضية المقدسة لا يكون إلا بمثل هذه »المستوردات« من هنا وهناك، وإلا فما الذي دفع يهود إلى أن يهجروا الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبولندا وغيرها من دول أوروبا الشرقية والغربية.. والقدوم إلى فلسطين للاستقرار والإقامة فيها؟ وإن كان حقاً منهم من يعادي الصهيونية كما يدّعون، فلمَ لا يعودون إلى بلدانهم الأصلية؟ لمَ يصرّون على البقاء في فلسطين وتشريد أهلها، وينطلقون في كل ما ينادون به من منطلق الحفاظ على دولة إسرائيل والتمكين لها في الأرض؟
            وأخيراً: فإن يهود، وهم يتقدمون نحو الأرض المقدسة، رجالاً ونساءً، شيباً وشباباً، جاؤوا يتغنون بنداء التوراة على اختلاف انتماءاتهم الظاهري، يحدث هذا في اوقت الذي نجد فيه بعض من يسمون عندنا برجال الفكر والمثقفين يخجلون من مجرد الانتساب إلى الإسلام، ويبذلون ما في وسعهم لرفع شعارات ودعاوى تصرف أذهان الناشئة المسلمة عن حقيقة الصراع الدائر على الأرض المقدسة.. يراهنون على الصراع الطبقي وضرورة الوقوف مع الكادحين اليهود رغم احتلال أرضنا، ويسخّرون وسائل الإعلام المختلفة للدعوة إلى التفريق بين اليهودية والصهيونية.. هذه التفرقة ليست مهمة العرب والمسلمين، فهم الضحية المعتدى عليهم، ولكنها مهمة اليهود أنفسهم –إن كانوا صادقين- من خلال المواقف العملية التي يتخذونها ضد اليهود الذين اغتصبوا فلسطين وغيرها من أراض عربية مسلمة وشردوا أهلها.. فهل فعل هؤلاء شيئاً من هذا؟
            إن الصهيوني كما يقول الشيخ محمد الغزالي: »ليست وليدة بحث اليهود عن وطن لهم بعد ما أحسوا وحشة الغربية في أرض الله الواسعة.. فقد وسعتهم بلدان شتى،وعاشوا فيها جزءاً من أبنائها الأصلاء، ووصلوا إلى درجة فاحشة من الثراء، ومناصب كبيرة في الحكم.. ولكنه رجحوا نداء دينهم على علاقاتهم بأوطانهم وآثروا التجاوب مع توراتهم وتلمودهم على الذوبات في الوطنية الأمريكية أو الروسية أو الألمانية أو.. سيرتهم في مختلف القارات واحدة، ونزوعهم إلى خدمة عنصرهم ديدنهم في كل مكان وزمان..« فهل يعي العرب والمسلمون هذه الحقيقة؟

مجلة الأمة، العدد 59، ذو القعدة 1405 هـ

  (1) أثيرت هذه القضية علناً، وبشكل جماهيري، في أعقاب نكبة الخامس من حزيران 1967م، وتمكنت دولة العدو من السيطرة على فلسطين بأكملها والجولان وسيناء.. وتولت كبرها مجلة «الطليعة» التي كانت تصدر في القاهرة، وكان مدير تحريرها آنذاك زوجاً لبنت أحد زعماء الحركة الصهيونية –يهودي رأسمالي صودرت أمواله في مصر.
  (2) (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حينفاً مسلماً..)
(3) انظر سفر يشوع، وهو المقرر بصورة إجبارية في المناهج المدرسية على الناشئة والمعتمد من الحاخامية العسكرية في جيش العدو، لتجد كيف يركز على «الإبادة المقدس» من ذلك مثلاً: «وحرِّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف» (الإصحاح السادس/21).
(4) الحاشية: رئيس دولة ألمانيا الشرقية، وقد قال «شو إن لاي» ريئس وزراء الصين السابق لوفد منظمة التحرير: «إن الروس يتظاهرون بأنهم يعطونكم بعض التأييد، بل ربما ذهبوا إلى أبعد من ذلك فأوهموكم بأنهم يحملون السلاح معكم، ولكن احذروا من ذلك، وتأكدوا أن البندقية التي يحملها الروس معكم هي غير محشوة، إنها فارغة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق