الأربعاء، 24 يوليو 2013

كلمات في كتابة البحوث (1)



أكرم حمدان

 هذه كلمات وقعت لي عَفْوَ الخاطر، أحببت أن أدوّنَها في هذه المقالة ليطلعَ عليها من له بكتابة البحوث والمقالات العلمية صلة، عسى أن يجدَ فيها بعضَ فائدة أو متعة، لم أصرفْ فيها همي إلى ما تتناقله بعضُ الكتب المصنفة في مناهج البحث وأساليبه، ولكني أردت إبرازَ بعض الجوانب التي أحبُّ أن يراها القارئ في بحوث الباحثين، ومقالات الكاتبين. وذلك أن كتابة البحوث الجادة الأصيلة فن لا يحسنه كل أحد، فكأيِّن من بحث نشر في مجلة من المجلات، ثم صرف القارئَ عنه ما ينبعث منه من رائحة النقل والاجترار، وكثرةُ القيل فيه والقال، أو نفرّه منه جموده وخلوه من روح البحث الهادف الرصين، أو صغره في عينه ضحالته وقلة نفعه. أما البحث الجاد الجيد فهو ينبئ عن نفسه، ويعرب عن ذاته، وتجدك مدعواً إلى قراءته، مسوقاً إلى متابعته، مأخوذاً بجمال أسلوبه وحسن عرضه. 
 كلمة في الأصالة
وبدأة ذي بدء، فإني أحب أن أُذكّر كاتبي البحوث والمقالات العلمية بما أطمعُ أن يكونوا به عالِمين، من أن أهم ما يجب صرف العناية إليه، والاحتفال به والحرص عليه هو الأصالة. إذ على الباحث أن يكون أصيلاً فيما يكتب، وأن يعيد النظر في كل جملة يجري بها قلمه، فإن رأى فيها إضافة وجدة وأصالة أبقاها، وإلا حذفها وخشي أن يطلع الناس عليها عنده، بعدما لاكتها الألسنة وجرت بها الأقلام. ولأن لا يكتبَ الكاتبُ ولا ينشرَ خيرٌ له من أن يُذيعَ الغث الهزيل، وينشر ما يؤذن بجهل أو ينبئ عن غفلة، ولله در العرب إذ قالت: زاحِمْ بعَوْدٍ أو فَدَعْ، فمن كتب فقد عرض عقله على الناس، ومن ألف فقد استُهدف، ومن هنا فقد كان ابن المقفع، على شرفه وجلالة قدره، وعلو منزلته في العلم والأدب، لا يقول الشعر، فقيل له: لم لا تقول الشعر؟ فقال: الذي أرضاه لا يجيئني، والذي يجيء لا أرضاه. وقد قال في ذلك الشاعر:

أبى الشعر إلا أن يفيء رديئه                      إليّ ويأبى منه ما كان مُحْكما
فيا ليتني إذ لم أُجدْ حوكَ وشيِِه       ولم أكُ من فرسانِه كنتُ مُفحما[1]
والأصالة أكثر ما تكون في الفكرة لا تنقدح لصاحبها إلا بعد طول معالجة للموضوع، وإنعام نظر فيه، وتقليبه على وجوهه، وقراءة كل ما تقع عليه اليد مما كتب عنه أو قيل فيه، قراءة منهجية واعية، لأن من أهمل النظر لم تسرع إليه المعاني، كما قال الجاحظ، فإذا ما وصل الكاتب إلى هذا الحد، ثم تجاوزه ورأى أن لديه جديداً يمكن أن يضيفه، أو طارفاً وقع له استنباطه، فثَمَّ الأصالة.
ولا يعني هذا أن على الباحث أن يخترع كلاماً، وألا يكتب إلا إذا وقع له كلامٌ لم يقله أحد من العالمين، فالأصالة أوسع من ذلك وأبعد، بل كثيراً ما تكون الأصالة في تأليف المعلومات المتناثرة وتنسيقها في أبحاث حيوية أصيلة، ومعالجات فعالة لمشكلات العصر، ومقتضيات التقدم العلمي، وثمة الكثير من القضايا التي كتب فيها كلام كثير، ودار حولها كلام أكثر، ولم يزل وجه الحق فيها خافياً، وهذه كلها بحاجة إلى من يقوم بالبحث فيها، وبيانِ وجه الحق فيما التبس منها، ونفيِ الخبث مما علق بها من الأغلاط والأوهام والمبالغات، وتمحيص ما قيل في ذلك كله، بضم الإلف منه إلى إلفه، أو النقيض إلى نقيضه، بعبارة محررة، وأدلة موثقة، وأسلوب مشرق وعرض جميل، ولا سيما في العلوم الإسلامية والإنسانيات.
ولأضربْ لكم التاريخَ مثلاً، فإنه على كثرة ما صنف فيه من كتب مطولة، ودُبّج فيه من بحوث ومقالات، يبقى فيه للباحثين مندوحة كبيرة، ومجال متسع، للتنقيح والتهذيب، والتحقيق والتدقيق، والنظر فيما تعارض فيه من روايات، أو تناقض من نقول، ومحاولة التوفيق بينها، أو ترجيح بعضها على بعض، واستبعاد ما يأباه العقل منها والنقل، ويقضي ببطلانه سياقُ التاريخ وتتابعُ الأحداث، مما انطلى بعضه على المتقدمين، وإن كانوا في كثير من ذلك معذورين، ثم الخروج بعد ذلك من سطحية الوصف إلى عمق التحليل، ومن ضبابية القصص والأساطير إلى وضوح الحقائق الواقعية والوقائع الثابتة، ومن فوضى العموميات إلى نظام الأحكام المستندة إلى الأدلة، القائمة على الحجج والبراهين. 
وقُل مثل ذلك في الدراسات الأدبية واللغوية، وفي التفسير والحديث، وفي الفقه والأصول، وفي السير والتراجم والرجال. ولو تم لنا هذا لسكت كثيرون من أدعياء العلم وأنصاف المتعلمين، ولاختفى الكثير من الأحكام المتسرعة، والآراء العجلى، كقولهم: "الحديث مشحون بالوضع والضعف، والنحو تعقيد وتأويلات، والبلاغة تكلف وأصباغ، والعروض قيود ودوائر تدير الرأس، والتاريخ أرستقراطي كتب للخلفاء والملوك، والجغرافيا العربية بلهاء، وأدبنا العربي غارق في الذاتية ومجالس السمر"[2] وكقولهم أيضاً: الفقه الإسلامي فقه الغالب، ولا يصلح لهذا العصر، لأنه كتب في زمن غلبة المسلمين، وغير ذلك من هذه الدعاوى العريضة التي تهدم ولا تبني، وتفسد من حيث تريد الإصلاح أو لا تريد.
وكم من بحث أصيل ليس لصاحبه فيه إلا فضيلة الجمع والتبويب والترتيب، وما معجم ألفاظ القرآن منا ببعيد، وهو كتاب أفاد منه آلاف الباحثين وطلبة العلم ولا يزالون، وهو الذي عرّف بصاحبه وجعل له قدم صدق في العالمين، وعلى ذلك فقس كل ما كان من هذا النوع من التأليف.
كلمة في شخصية الكاتب
وأنا عندما أقرأ مقالة أو بحثاً لكاتب ما، فإنما أطمع أن أرى فيها شخصيته وأسمع صوته، لا أن أسمع أصواتاً من هنا ومن هناك، يختفي في زحمتها صوت الكاتب، وتضيع شخصيته، وتتميع أفكاره، فأكثر ما يسيء إلى البحوث والمقالات كثرة النقل عن الآخرين، ولا سيما إذا جاءت في غير موضعها، أو زادت عما يخدم الفكرة التي يريد الكاتب إبرازها، إحكاماً لمتشابه أو تبييناً لمجمل أو توضيحاً لغامض، فإن كان يريد سوق كلام ليُعملَ فيه مِبضعَ النقد والتقويم[3]، اقتصر في ذلك على موضع الانتقاد، واكتفى بما يتم به المعنى ويتصل به الكلام، وإلا فعليه الإحالة إلى موضع الكلام في مصدره، ولَرُبَّ دراسة مقتضبة مركزة تظهر فيها شخصية الكاتب، ويرتفع من خلالها صوته عالياً، بذّت كتباً طوالاً من كتب أصحاب النقل والتجميع، وهذا هو دأب الباحثين الجادين ممن أنعم الله عليهم بسلامة الذوق، وحسن النظر في الأمور، وأعاذهم أن يكونوا من الثقلاء الغافلين.
ولو أردنا أن نمثل للقارئ الكريم بما عند هؤلاء الكتاب الجادين مما يوضح ما نذهب إليه لما وسعنا المقام، ولضاقت بنا الصفحات، ووقعنا فيما ننهى عنه ونحذر منه، وإنما نردهم إلى كل ما كتب الأستاذ الكبير إحسان عباس من مقالات في اللغة والأدب، وكذلك الدكتور محمود محمد الطناحي، والأستاذ حسين مؤنس والأستاذ ناصر الدين الأسد والدكتورة وداد القاضي، ثم إلى بحوث الدكتور علي القره داغي في الاقتصاد الإسلامي، وبحوث الدكتور القرضاوي في الفقه الإسلامي والفتاوى المعاصرة، وبحوث الدكتور عماد الدين خليل في التاريخ، وقائمة الأسماء طويلة، لا سبيل إلى الإحاطة بها، بله ذكرها في هذه العجالة.
بل إن ما كتبه العلماء المتقدمون من خير ما يمثل به على ما نقول، فإن كثيراً من المباحث المبثوثة في كتبهم خليقة أن تعد من البحوث العلمية الجادة، إذ توفر فيها من شروط البحث العلمي الحديث ما لا يتوفر لكثير من الكتاب المعاصرين، من الجدة والموضوعية والأصالة والواقعية والعمق والتحليل، مع الإحاطة التامة بالمواضيع التي تناولوها، ومعرفة مداخلها ومخارجها، ناهيك بالأساليب العالية واللغة الرفيعة التي كتبت بها. اقرأ إن شئت ما كتبه الشافعي في رسالته، والغزالي في إحيائه، وابن تيمية في فتاواه، والشاطبي في موافقاته، وابن خلدون في مقدمته، وابن القيم في إعلامه، والجرجاني في دلائله، والسبكي في طبقاته، تجد كتباً تدل على أصحابها، وتنطق بألسنتهم، وتنبئ عن أفكارهم، وتجد أصالة وجدة ومنهجية إلى جانب رؤية واضحة وأفكار منسجمة وعرض بديع.
            ولسنا نذكر هذه الكتب من باب التنويه بها، والتدليل على فضلها، ولا للذب عنها أو دفع شبهة علقت بها[4]، فهذا أمر مفروغ منه، لا يشك فيه إلا جاهل أو جاحد، ولكن من أجل أن ينظر فيها الباحثون من هذه الجهة، وليقتفوا أثر هؤلاء العلماء في طرائقهم في البحث والاستدلال والمناظرة، وليروا كيف تقرع لديهم الحجة بأختها، لا ببنت عمها، كما يقول أحمد أمين في مقالة له ضافية ماتعة تحدث فيها عن منطق اللغة[5].
ومع ذلك فإنني أستسمح القارئ الكريم في أن أقبس له شيئاً مما وقع من ذلك في بحث للدكتور الطناحي، لأجل جلاء الفكرة، ووضوح المقصود، ففي مقالة عنوانها النحو العربي والحِمَى المستباح، يرد الطناحي على مقالة للأستاذ أحمد عبد المعطي حجازي ينكر فيها فضل النحو ويدعو إلى نبذه. ومثل هذه المقالة تقتضي أن يسوق الطناحي الأمثلة والشواهد التي تدعم رأيه وتعضد مذهبه، ولكنه يقول: "ولا أظنني بحاجة إلى الاحتشاد والاستشهاد على سلطان النحو على سائر علوم العربية، ودورانه في نسيج الثقافة العربية، فهذا شيء مسطور في الكتب، ومحفوظ في صدور الذين أوتو العلم"[6]. فانظر كيف نأى الرجل بنفسه عن أن يكون من أصحاب النقل والتجميع، احتراماً لقارئه وحسنَ ظن به[7].
ولا يُقذفنَّ في رُوع القارئ أن الرجل لم يرد أن يكلف نفسه عناء استقصاء هذا الشيء المسطور في الكتب، أو أنه رآه خارجاً عما يبلغ إليه ذرعُه أو تناله حيلته، فاكتفى بالتعميم فراراً من البحث عنه والخوض فيه، فِعلَ بعض الباحثين الأغرار، بل إنه اجتنب ذكر ما يغلب على الظن أنه من القراء وطلبة العلم قريب، ولم يشغل قارئه بما يمكن قراءته عند غيره، ولا سود صفحاته بالذي سُوِّدت به صفحات سواه، مع علمه به وتمكنه منه، وآية ذلك أنه استأنف فجاء بما هو وراء ذلك شأواً وأعز منه مطلباً، فقال: "لكن لا بأس من الإشارة إلى بعض الأمثلة التي تؤكد سلطان النحو على اللغة وعلى الفكر والفن معاً، وهذه الأمثلة التي تأتيك أيها القارئ الكريم مما لا يتنبه له كثير من الناس؛ لأنها مطروحة في أخبار لا يقف الناس عندها كثيراً". ثم أتى من الأمثلة بما يعز على القارئ المتخصص، فضلاً عن غيره، مما دل على سعة اطلاع وبعد نظر وطول تأمل.
كلمة في التنقيح
وبعد كل ما قدمنا من وجوب إعطاء الموضوع حقه من الوقت، بدءاً من انقداح الفكرة في ذهن الكاتب، حتى اختمارها فيه، ثم نضجها واستوائها على الورق أمام ناظريه، فإن على الباحث أو كاتب المقالة أن يكر على ما يكتب بعد الفراغ منه، فيعمل فيه قلم الحذف والتغيير، والتشذيب والتهذيب، لا من أجل المعنى فحسب، ولا من أجل الشكل وحده، بل من أجلهما معاً، فالمعنى هو الأصل، والكاتب مدعوّ لأن يعيد النظر فيه فيقرأه مرة ومرة ومرة، ليُحْكِم فكرة، أو ينضج رأياً، أو يزيل لبساً، أو يخفف مبالغة، وليعلم أن صلاح لفظه لا يقوم بفساد معناه، كما جاء في توقيع الحسن بن سهل على كتاب لسهل بن هارون، ألفه في مدح البخل وذم الجود، ليظهر فيه قدرته على البلاغة[8]. ولكن الشكل لا يقل أهمية، ولينظر الكاتب فيما كتب نظرَ المثقِّف، فيعتنى بتأليفه، ويتأنق في ترصيفه، مستبدلاً كلمة بأخرى أجمل منها موقعاً أو أخف لفظاً أو أقرب منالاً أو أشد اتصالاً بالموضوع، أو محكماً عبارة قلقة في موضعها، نابية عن غيرها.
وتحضرني في هذا السياق قصة إملاء أحمد أمين مقالة على إحسان عباس-وكان أمين يملي بأخرة من حياته- في موضوع البطولة والأبطال، إذ ختم المقال بنكتة طريفة، وبعد أن أسمعه إحسان ما أملاه قال: احذف الفقرة الأخيرة فإنها غير منسجمة مع الموضوع[9].  ومثل هذا ما ذكره الجاحظ من شأن معاوية رضي الله عنه من أنه "مع تخلفه عن أهل السابقة، أملى كتاباً إلى رجل فقال فيه: "لهو أهون علي من ذرة، أو كلب من كلاب الحَرّة" ثم قال: "امح: من كلاب الحرة، واكتب: من الكلاب". قال الجاحظ: كأنه كره اتصال الكلام والمزاوجة وما أشبه السجع، وأري أنه ليس في موضعه[10].
وأولى من هذا بالحذف والمحو ما فضل عن الحاجة وإن كان حسناً كله، فلأن ينقص الكتاب عن مقدار الحاجة أحب من أن يفضل عن مقدار القوة، لأن الملالة تبغض في الجميع، وتزهد في الكل، و"من شأن النفوس الملالة لِما طال عليها، وكثُر عندها، فليس لنا أن نكون من الأعوان على ذلك، ومن الجاهلين بطبائع البشر، فإن أقواهم ضعيف، وأنشطهم سؤوم"، كما قال الجاحظ[11].
            وكم من مقالة فيها من بديع المعاني وعظيم العبر راحت طي النسيان، ولم ينوه بذكرها أحد، لأنها لم تحظ بالوعاء المناسب من الأسلوب، الذي يشجع الناس على قراءتها والاستمتاع بها. ومن هنا كان العقاد يرى أن الكتابة الأدبية فن، وأن الفن لا يكتفى فيه بالإفادة ولا يغني فيه مجرد الإفهام[12].
وأنا شديد التعجب ممن يكتب بحوثاً في اللغة أو النقد أو الأدب، ثم تأتي بحوثهم وقد كتبت بلغة ركيكة المعاني والمباني على السواء، وكثيراً ما أتساءل فيما بيني وبين نفسي: وما فائدة دراسة النقد والأدب إن لم يقومِ المرء بها أسلوبه، ويجودْ عبارتَه، ويُحسّنْ عرضَ فكرته وتأديةَ معانيه، ويخرجْ بها من ضيق العي إلى بحبوحة البيان؟ بل إنك تنظر في كثير من هذه الكتابات والبحوث فلا تكاد تظفر منها بشيء إلا بشيء لا يُعوّل عليه، من الأسماء والمصطلحات التي لا طائل تحتها ولا غناء فيها، بل يصدق فيها قول العرب: أسمع جعجعة ولا أرى طِحناً. ومَثلُ هؤلاء مَثل بعض أهل الحديث الذين شغلهم جمعه وكتابته وسماعه وتطريقه وطلب العلو فيه عن التفقه فيه، وفهم لغاته ومعانيه، واستنباط أحكامه ومراميه، مما الناس إليه في دنياهم وأخراهم أحوج، وقد صدق فيهم قول جعفر السراج إذ قال:
إذا كنتم تكتبــــــون الحد                 يث ليلاً وفي صبحكم تسمعون
وأفنيتم فيه أعمــــــاركم                 فأي زمــــــــان به تعملــون؟![13]
على أن لهؤلاء عليهم درجة، فهم قد اشتغلوا بكلام سيد الأولين والآخرين، وأكرم به من كلام، وأما أولئك فقد اشتغلوا بنظريات جاءتهم من كل مكان، وما أكثرهم بمدركين ما تخفي وراءها من خبيث الأفكار وهادم الفلسفات.
وكلما تحدثت عن الأسلوب في الكتابة، قفزت إلى خيالي صورة محلات "هارودز" في لندن، تلك التي تنفق مبالغ طائلة على تصميمات طرائق العرض، وأساليب التسويق، وتعنى كل العناية بواجهاتها الزجاجية، وتتفنن في التأنق والتزيين، والتجويد والتحسين، لإغراء الزُّبن واجتذابهم، فمن دخلها منهم عومل بمنتهى الرقة وغاية الإحسان. وما ذاك إلا لأن الأفكار والمعاني بضاعة يجب الاعتناء بعرضها، كما يعتنى بعرض سائر الأشياء، وإلا انصرف الناس عنها، وصَغَوا إلى غيرها، وقد صدق الطناحي إذ قال: "وحسن البيان وتجويد العبارة كانا لازمين لكل كاتب يريد لكتابته أن تقرأ، ولكل مفكر يريد لأفكاره أن تذيع"[14]. بل إن هذه هي سبيل جميع الكتاب والأدباء الذين لمعت في سماء الفكر والأدب والثقافة أسماؤهم، وقرأ الناس كتابتهم وتأثروا بأساليبهم، ممن أتينا على ذكر بعض منهم في مقالتنا السابقة.
وفيم نمضي بعيداً وفينا كتاب الله ينطق بذلك، فقد قال الله تعالى لرسوله الكريم: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"، أي لو ساء عرضك البضاعة لم يشفع لك حسن المعروض، وهل ثمة أحسنُ من أحسن الحديث؟
كلمة في العزو
ثم على الباحث أن يجتهد في عزو ما ينقله عن غيره إلى أصحابه، ورده إلى مصادره، ولْيتق في ذلك ربه، وليُرحْ ضميره. وقد رأينا من الباحثين من يعييه فعل ذلك وهو عليه شاقّ، فتراه إن استحسن رأياً أو عبارة أدرجها في كلامه وكأنها من بنات أفكاره، وعصارات قريحته، ولم يعلم بأن الله يرى، وأن القراء ليسوا بجهلة ولا مغفلين، وأنه لو نسب القول لصاحبه لكان ذلك خيراً له وأحسنَ تأويلاً، فإنه إن جاء بالبديع الذي يغلب على ظنه أن كثيراً من القراء لم يطلعوا عليه، ثم نسبه لقائله، وأحال إلى الكتاب الذي رجع إليه وأخذ عنه، دل ذلك على سعة اطلاعه، وسلامة ذوقه، وحسن اختياره، وإلا فـمتى اتكل الكاتب "على الهوينى والوِكال، وعلى السرقة والاحتيال، لم ينل طائلاً، وشق عليه النزوع، واستولى عليه الهوان، واستهلكه سوء العادة"[15].
وليغالب الباحث في ذلك نفسَه، فيَظلِفها مرة ويكبحها أخرى، ليحملها على قول الحق والاعتراف به، فِعْلَ الشيخ محمود شاكر رحمه الله مع مستشرق يهودي صحح له خطأ وقع فيه، حيث قال: "وكنت أخطأت في طبعتي السالفة من الطبقات، فجاءتني من الأرض المقدسة التي دنسها يهود، رسالة رقيقة من (م. ي. قسطر) فدلني على الصواب الذي ذكرته آنفاً، فمن أمانة العلم أن أذكره شاكراً، كارهاً لهذا الذكر". ويعلق الدكتور محمود الطناحي رحمه الله على هذه الحادثة بقوله: فانظر وتأمل كيف اعترف بالصنيعة وشكرها، ثم لم يخف ما في نفسه[16].
وليسمح لي القارئ الكريم أن أسوق له مقدمة مقالة لميخائيل نعيمة عنوانها نقيق الضفادع لشديد صلتها بموضوعنا، يقول بعد العنوان مباشرة: "ليس هذا العنوان من مبتكراتي. بل قد سرقته يا سادتي، من ديوان فريد لشاعر فريد، وشجعني على السرقة أمران: أولهما أن الديوان لم ينشر بعد. وثانيهما أن صاحبه رفيق لي قديم وصديق حميم. أما الديوان فاسمه الأرواح الحائرة، وأما ناظمه فاسمه نسيب عريضة. وإنصافاً لنفسي ولصاحب "الأرواح الحائرة" يجب أن أعرفكم هنا أن وجه الشبه بين قصيدته وهذا المقال يبتدئ بالعنوان وينتهي بالعنوان. فلا قرابة بين ضفادعه وضفادعي من حيث النقيق. وهو يحدث عن ضفادع المستنقعات، وأنا أحدث عن ضفادع البشرية"[17]. وما سقت هذا القدر من كلام نعيمة، إلا لأريك كيف ابتدأ مقالته بهذا الاعتراف الجميل، مع ما بين المقال والقصيدة من فرق كبير!
ومن حق القارئ على الباحث أن يقدم له معلومات صحيحة موثقة، وأن يمحضَه النصح ولا يهوش عليه بمصطلحات يختفي مع صوتها صوت الحقيقة، وكذلك أن يحترم عقله، ويحسن الظن به. والذي يطيل النظر في كتابات العلماء المسلمين القدامى يأخذه العجب من دقة نقلهم، وشدة حرصهم على ضبط ما ينقلون، وتوخيهم النصح لله في ذلك ولرسوله وللمؤمنين، وما علم القراءات ولا الحديث ولا اللغة منك ببعيد! هذا مع أنه لم يتوفر لهم ما هو متوفر للباحثين في هذا الزمان من أدوات البحث ووسائله، إذ المكتبات في كل مكان، فيها الكتب المحققة، والفهارس المفصلة، والأبحاث العلمية المتنوعة، والدوريات والنشرات، والخرائط والصور، ناهيك بالحاسوب وعالمه، والشبكة العنكبوتية وما جاءت به.
ولئن جعلت هذه الأدوات عمل الباحث أسهل، فإنها تزيد من تبعته، وتضاعف من مسؤوليته، إذ لم يعد يقبل من الباحث ألا يكون دقيقاً فيما ينقل، وإن كان في غير تخصصه. وليخش الذين يوسعون في بحوثهم لضعيف الحديث ومنكره وموضوعه، من بعد ما تبين لهم الحق، أن تصيبهم قارعة من غضب القارئين، أو تحل بهم لعنة من لعناتهم، فقد غدت المجاميع الحديثية لا تكاد تخلو منها مكتبة باحث جاد، ناهيك بمكتبات الجامعات والمؤسسات العلمية، وكذلك الذين ما يزالون يكررون ذكر وقائع تاريخية بان عوارها، وانكشفت سوأتها، ووقف القاصي والداني على بطلانها. وأسوأ من أولئكم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، أو يستشهدون بكلام في معزل عن سياقه، أو يستدلون بأدلة في غير موضعها، لياً لأعناق النصوص، وخروجاً بها عما وضعت له أو جاءت من أجله.
ولا إخال امرأ يحترم نفسه سيلقي السمع وينصت باحترام لفقيه لحنُه في العربية يسبق إعرابه، أو أصولي يغلب خطؤه في النحو صوابه، أو مفسر لم يمتلك ناصية علوم الآلة من اللغة والنحو والصرف وعلوم البلاغة، بله الإحاطة بعلوم القرآن وقواعد التفسير، ومعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، وما إلى ذلك مما لا غناء عنه لمن أراد أن يتكلم في كتاب الله تعالى. وهيهات هيهات أن يطربك حديث في العربية أو الأدب أو البلاغة أو النقد، وصاحبه ركيك العبارة ضعيف البيان، كأنه لم يمرّ يوماً بكتاب الله تعالى، ولا بحديث نبيه الكريم، وليس يمت إلى بليغ القول بحبلٍ ولا يمد إليه بسبب.
كلمة في الرسائل العلمية
ومن هنا فإنني كثير الأخذ على طلاب الدراسات العليا الذين يقدمون أبحاثاً لنيل شهادة الدكتوراه مثلاً، وليس لهم في العلم سابقة، ولا هم تمرسوا فيه، "فقرأوا كتب من قبلَهم، ودارسوا أهلها، ومارسوا الموافقين لهم، وعانَوا المخالفين عليهم، فمخضوا الحكمة وعجموا عيدانها، ووقفوا على حدود العلوم، فحفظوا الأمهات والأصول، وعرفوا الشرائع والفروع، ففرقوا ما بين الأشباه والنظائر، وصاقبوا بين الأشكال والأجناس"[18]، وصرفوا شطراً من أعمارهم صالحاً متلقين وعارضين ومناقشين ومعترضين، فتأتي أبحاثهم ضعيفة في محتواها، ركيكة في أسلوبها، ساذَجة في تناولها، فِجة في عرضها، لا تسمن في العلم ولا تغني من جوع، ثم هم مع ذلك ينالون من الجامعات ما يرجون، ويُعطَون ما فيه يطمعون، فتكال لهم الدرجات العلى، ويخلع عليهم من الألقاب العلمية ما تئط له الجبال أطاً.
بل اللوم أحرى أن يوجه إلى الجامعات التي ما بات همها إلا تحصيل الرسوم من الطلاب، وما عادت تنظر إلى أهليتهم في الحصول على مثل هذه الدرجات العلمية، التي قللت من قيمة العلم، وانحطت به إلى أسفل سافلين، حتى صرت ترى بين حملة هذه الشهادات الموقوذة والمتردية والنطيحة، ودون ذلك كثيراً ممن "لم ينظر في علم قط، ولم يخض في أدب منذ كان، ولم يدر ما التمثيل ولا التحصيل، ولا فرق ما بين الإهمال والتفكير"[19].
ولو أن الجامعات اتبعت في ذلك نظاماً صارماً يفترض في الطالب حداً أدنى من المعرفة والإحاطة بموضوع بحثه، يُعرف من خلال مناقشة علمية تسبق قبول الطالب، يختبر فيها ذكاؤه ويُرى مدى تحصيله واستعداده النفسي، لتساقط على الطريق الكثيرون من أدعياء العلم، وما أكثرهم في هذا الزمان، ولم يثبت إلا من عُرف بالفهم الثاقب والعلم الناصع، وقضت له المحنة بالذكاء والفطنة، وكان أهلاً لأن يكون بعدُ من الخريجين الذين تشرف الجامعة بانتسابهم إليها وتخرجهم فيها. 
وأنا لست أفهم من معنى الدكتوراة إلا أن يكون المرء مشتغلاً بعلم من العلوم مدة من الزمن، درساً ومدارسة وتدريساً، حتى يصير عارفاً به، مطلعاً على ما ألف فيه، فإن أدرك بعد ذلك أنه يمكن أن يسد في ذلك الحقل ثغرة، أو يكمل نقصاً، طفق ينظر في الموضوع بعين الباحث اليقظ، يتتبع مسائله، ويجمع شوارده، ويقيد أوابده، ويذاكر فيه غيره من أهل العلم والاختصاص، لأن مذاكرة الرجال تلقيح لألبابها، وهي السبيل إلى تجاوز الحفظ إلى الاستنباط، فالحفظ عِذق الذهن، كما قالت الحكماء، وأما الاستنباط فهو نقطة الدائرة وغاية المراد، وهو الذي يفضي بصاحبه إلى برد اليقين وعز الثقة، كما قال الجاحظ. فإن بلغ المرء من الأمر ما ذكرنا، ثم داوم عليه حتى يُطوى له الموضوع طياً، فعندها فليسجل لنيل شهادة الدكتوراة في موضوع يكون هو فيه فارس الحلبة وسيد الميدان. ورحم الله الجاحظ إذ قال: "وبين الشيء إذا عشش في الصدر ثم باض، ثم فرخ ثم نهض، وبين أن يكون المخاطر مختاراً، واللفظ اعتسافاً واغتصاباً، فرقٌ بيّن"[20]. ولكَم أشفقت على طلاب الجامعات المساكين كلما رأيت طلاب الدكتوراة ممن ليست كما وصفتُ حالُهم، فحدثتني النفس قائلة: يا ويح أولئك الأغرار المساكين وقد رُموا بأمثال هؤلاء عندما يصبحون عما قليل في الجامعات محاضرين. 
كلمة في بحوث الترقية
ويلحق بالرسائل الجامعية ما يكتبه كثير من الأساتذة مما يحبون أن يسموه بحوثاً لا يبتغون بها إلا الترقي في السلم الأكاديمي، والحصول على التسميات والألقاب، فتأتي بحوث ولا بحث، ومقالات ولا علم، وكلام ضَغَث لا وزن له ولا نفع فيه، ولست أدري كيف تقبل بعض المجلات العلمية المحكمة بنشر مثل هذه "البحوث" على صفحاتها، وإطلاع قرائها عليه، وتروج بذلك للمدعية للعلم المزور، ممن تسموا بأسماء العلم على المجاز من غير حقيقة، ولبسوا لباس الزور متزخرفين متشبعين بما لا محصول له.
وإني أهيب بهؤلاء وأتمنى عليهم أن ينعموا النظر في هذه الكلمة التي أسوقها لهم من كلام للأديب الكبير إحسان عباس، رحمه الله، في مقدمة وضعها لمجموع بحوثه التي نشرتها له دار الغرب الإسلامي في ثلاثة مجلدات، وقد طلبت إليه أن ينظر فيها قبل إعدادها للنشر، كي يتقيلوا في العلم أخلاقه، ويحتذوا في البحث على مثاله، يقول، برّد الله مضجعه: "ولكن هذه البحوث تمثل جهدي في مراحل الشباب من عمري، وتمثل ما كنت أعده إسهاماً مخلصاً في الميدان الثقافي والأكاديمي، فمن غير الطبيعي أن أتنكر لها وأن أشيح بنظري عنها، فأنا لا أذكر أني كتبت بحثاً منها لأجل الترقية في إحدى الجامعات، ولا أذكر أني كتبت بحثاً واحداً رجاء مكافأة مادية. كانت محبتي للبحث من أجل ما توفره ممارسته من متعة نفسية، وإيماناً مني بقيمة البحث المؤيد بالتوفيق"[21]. ومن هنا قال الجاحظ قِدْماً: "وليس من نظر في العلم على الرغبة والشهوة له كمن نظر فيه على المكسبة به والهرب إليه، لأن النفس لا تسمح بكل قواها إلا من النشاط والشهوة".[22]
كلمة في الطريقة
تحدث نقادنا القدامى عن براعة الاستهلال، وقالوا فيه كلاماً جميلاً حبذا لو يرجع له من يكتبون ويقتدون به، فما أروع الاستهلال البارع الذي لا يغري القارئ بحث الخطى ومواصلة السير فحسب، بل يدفعه إلى ذلك دفعاً، ويسرقه من نفسه ومن محيطه، ليمضي به الكاتب بعد في مقالته، ينقله معه حيث انتقل، من فكرة إلى فكرة، ومن حجة إلى حجة، موصلاً إليه ما يريد من قول، بأوجز عبارة وأقرب أسلوب، في كتابة مشرقة، وعرض أخاذ، وأفكار كالبنيان المرصوص، آخذ بعضها برقاب بعض، لا تترك للقارئ مجالاً إلا أن يمضي في القراءة إلى آخرها، من غير سآمة ولا ملل، بل تدعوه إلى أن يعيد القراءة، مرة إثر مرة، وهذه هي الغاية التي ما وراءها غاية، لأن "خير الكتب ما إذا أعدت النظر فيه زادك في حسنه، وأوقفك على حده"[23].
وإن مما يؤسف له أن بعض من قدر لهم أن ينخرطوا في السلك الأكاديمي، وبات حتماً عليهم أن يكتبوا بحوثاً ومقالات من أجل الترقي في هذا السلم، غفلوا عن هذا الكلام، فتراهم يفتتحون مقالاتهم بافتتاحيات تصلح نماذج للكتابة السقيمة العقيمة، التي تصرف القارئ عنها صرفاً، من لفظ مستكره ومعنى متكلَّف، وتأليف مضطرب ونظام منقطع. ثم تراهم يطيلون في ذلك ما شاء الله لهم أن يطيلوا، فهم لا يتركون سبيلاً لإملال القارئ إلا ويسلكونه، ولا مسلكاً إلى تضييع وقته ورغبته في القراءة إلا ويلجونه، من مقدمة ما كان أغنى القارئ عنها، إلى تمهيد غير ذي نفع، لا خير فيه إلا أنه ضِغث يزيد على إبّالة، ناهيك بما يعمد "الباحث" إلى ذكره من أيِّ المناهج في بحثه اتبع، وأيّ طريقٍ إليه سلك، وكم من الجهد في جمعه بذل، ومَن مِن العلماء فيه ناقش، وأياً من آرائهم بين سطوره فند، ولأي مراجع فيه رجع، ومن أي مصادر له اقتبس، وبأي النتائج منه خرج، وليته يدع القارئ هنا، بل لا بد أن يقسم له "البحث" إلى أبواب، والأبواب إلى فصول، والفصول إلى مباحث، والمباحث إلى مطالب، ولا يكتفي بهذا، بل يذكره بأنه ذيّل له البحث بخاتمة، لولاها لوقعت السماء على الأرض، حتى يتركه وقد استيقن أنه مقبل على قراءة مجلد ضخم، بل مجلدات ضخام، لا يحصي صفحاتها العد، والمقالة لا تتجاوز بضع ورقات!
والأعجب من ذلك أنك ترى من يكتب مقالة مقتضبة، يديرها على أحد الأعلام المعروفين، ويبحث فيها عن موقفه من قضية ما، أو إسهاماته في حقل معين، أو منهجه في كتاب له، ثم يبدأ مقالته بترجمة للعَلَم الذي يكتب عنه وافية، وسيرة له ضافية، لا يأتي فيها بجديد يذكر، بل يُبدئ فيها ويُعيد بذكر اسمه واسم أبيه وجده، وكنيته ولقبه، ومولده ووفاته، وشيوخه وتلامذته، وعقيدته ومذهبه، ودروسه ومؤلفاته، ولا يدع القارئ إلا وقد أرهقه بإسماعه ثناء الفضلاء عليه، أو قدح الثقلاء فيه، وينقل في ذلك كله ما بات بحمد الله في كثير من الكتب مسطوراً، بأجمل عبارة وأحسن تحرير، مما أضحى من القراء وطلبة العلم على طرف الثُّمام.
ولو أن هؤلاء إذ انتقلوا من المقدمات إلى صلب الموضوع جاؤوا بشيء جيد جديد، من نظرة ثاقبة لم يُسبقوا إليها، تستبطن الغامض الباطن بالظاهر البين، أو تحليل عميق وبحث جاد، يستظهر على الخفي المشكل بالمكشوف المعروف، أو عرض شيق يمتع القارئ وينسيه ما مر به من مصائبَ وأهوال، لكنا لهم من العاذرين، ولكنهم إذا دلفوا إلى صلب الموضوع بعد أن ينهكوا القارئ ويجلبوا إليه كل أنواع الملل وصنوف السآمة، لم يأتوه بخير، ولم يصدروه عن رِي، وأنت إذا حملت نفسك على المكروه ومضيت قارئاً محاولاً أن تلتمس العذر، فوجئت بأن آخر المقالة ليس بأفضل من أولها، ولا جوهرها خير من ظاهرها، وكاد يصيبك الغثيان مما ترى من التكرار والاجترار، والتعقيد والغموض، ناهيك بما يشغلونك به من تلك الثرثرة التي يخوض فيها بعض أساتذة الجامعات من الكلام في المنهج العلمي، والصعود والهبوط مع العموميات التي لا يعود القارئ منها بشيء ذي بال، بل يضيع فيها من ساعات عمره الغاليات ما كان أحرى أن ينفق في غير قراءة ما يكتبون، وصدق مارون عبود الذي يرى أن "من يعجزون عن الأسلوب الشخصي هم الذين يتحصنون في قلاع الأسلوب العمي المنيعة"[24].
ولكن مما يؤسف له أنك ما زلت تقف على كثير من الأبحاث المنسوجة على هذا المنوال، والتي من الغبن وعدم الإنصاف أن تسمى بحوثاً، وأن يفسح لها في صفحات مجلات علمية تحترم نفسها وتوقر قراءها، بل إن كثيراً مما بات ينشر في هذه المجلات لا يساوي ما يبذل من وقت في تنضيد حروفه، أو يستهلك من مداد في تسويد كلماته. ولقد قرأت من مقالات الكبار الشيء الكثير بالعربية والإنجليزية، ولم أقف في شيء منها على هذه البدعة التي يضعها هؤلاء تحت عنوان: "منهجي في البحث"، ولا تلك البدعة الأخرى التي يتحدثون فيها عن أنفسهم هكذا: "وقد قام الباحث بكذا"، "وقد وجد الباحث كذا" إلى غير ذلك من هذا التواضع الزائف، وخفض الجناح الجائي في غير موضعه!  
كلمة في تهاويل فارغة
ومما يؤسف أيضاً أنك تجد كثيراً ممن يكتبون يجرون وراء "الموضة" ويبحثون لاهثين عن البريق، فتراهم يبثون في مقالاتهم من المصطلحات الأعجمية والعربية الركيكة ما لو نوقشوه لعجزوا عن شرح معناه، وتبيين مقصده، فهم كالذي يهرف بما لا يعرف، وإنما هو حب الظهور، ولو كان في التقليد الأعمى والمحاكاة البلهاء. وقد استنكر العلماء هذا الضرب من العبث من قديم الزمان، ألم تر كيف وصف الجاحظ كتبه في آخر رسالته إلى عبد الله أحمد بن أبي دؤاد بقوله: "... وليست بحمد الله من باب الطفرة والمداخلة، ولا من باب الجوهر والعرض، بل كلها في الكتاب والسنة، وبجميع الأمة إليها أعظم الحاجة"[25]؟
وأكثر ما تجد ذلك عند المشتغلين بالنقد الأدبي وطرق فهم النصوص، حيث التفكيك والتركيب، والأسلوبية وما تلاها، والبنيوية وما وراها، والسيميائية والشكلانية، إلى ما هنالك من أسماء ومصطلحات صرفتُ من جهدي ووقتي ما يندم المرء على مثله في محاولة درك كنهها، وفهم حقيقتها، ولا سيما ما كتب منها بالعربية، فرجعت بخفي حنين، ولم أكد أظفر منها بشيء، لا لشيء إلا لأنها محض عبث عديم الفائدة، ولو أنني استقبلت من أمري ما استدبرت لأشحت ببصري عنها جملة وتفصيلاً، ولم أضيع ثمين وقتي في  قراءة هذا الزبد الذي لا خير فيه ولا نفع يرتجى منه.
وليسمح لي القارئ الكريم أن أنقل له -مع شيء من تصرف يسير- قطعةً من مقالة للدكتور الطناحي ماتعة، عنوانها: البيان والطريق المهجور، يقول فيها: "وهذه الألفاظ والتراكيب التي يستعملها بعض أدباء هذا الزمان، أشبه بتقاليع الموضة تظهر ثم تختفي، لا تعرف ثباتاً ولا استقراراً، فقد كنا نسمع في الستينات الوحدة الموضوعية، والمعاناة، وعمق التجربة، وتراسل الحواس، والمونولوج الداخلي، والدفقة الشعورية، والتعبير بالصورة، والألفاظ الموحية، والشعر المهموس. والآن نسمع: الإبداع، وتكثيف التجربة، والزخم، والطرح، والمنظومة والإشكالية والتناص والتماهي والتفجير والتفكيك... وهذا وأشباهه إنما هو كما قال ابن قتيبة منذ 1240 سنة في مقدمة أدب الكاتب: "ترجمة تروق بلا معنى، واسم يهول بلا جسم، فإذا سمع الغُمر والحدث الغر قوله: الكون والفساد وسمع الكيان... راعه ما سمع، فظن أن تحت هذه الألقاب كل فائدة وكل لطيفة، فإذا طالعها لم يحل منها بطائل"[26].
ثم إننا نقرأ النصوص الدينية من قرآن وحديث وفقه وأصول وتفسير فنفهمها حق فهمها، ونقرأ الأدب على اختلاف أجناسه وأشكاله فنتذوقه ونستمتع به، من غير هذه العلوم الطارئة، والفنون المستحدثة، والتهاويل الفارغة، وليت شعري هل كان الزمخشري أو ابن عطية أو أبو السعود أو عبد القاهر الجرجاني أقل فهماً لمعاني القرآن الكريم أو إدراكاً لمواطن الجمال في آيه، لأنهم لم يمتلكوا أدوات الأسلوبيين أو البنيويين، أم أن أصحاب السيمائية أقدر على سبر حديث النبي من ابن حجر والنووي والمباركفوري؟
ومرة أخرى أرجع إلى إحسان عباس لأنقل للقارئ الكريم قوله الذي أرجو أن يتأمله كثير من كاتبي المقالات والبحوث اليوم، إذ يقول: "هذا بكل تواضع جهد أقدمه مخلصاً وأنا أعرف أن المثقفين في عصري كانوا يتحدثون في القضايا الساخنة، وفي حرية التعبير، وحرية المرأة، والاتجاه الإسلامي والماركسي، والحداثة وما بعد الحداثة، وسيطرة الرأسمالية والعولمة، و... عشرات من القضايا الأخرى. لقد كان شعاري ألا أكتب في شيء خارج عن اختصاصي وما أثق فيه بمعرفتي ووضوح تصوري"، هذا والعلم حشو ثيابه، والأدب ملء إهابه.
والسلام 

من كتاب زهر الآداب وثمر الألباب، القسم الأول ص 351.[1]
مقالات الطناحي 2/690[2]
أجاز مجمع اللغة العربية أن تقول: قيم الشيء تقييماً. [3]
سيأتي تفصيل لهذه النقطة في مقالة لاحقة بإذن الله.[4]
فيض الخاطر، منطق اللغة. 1/192[5]
مقالات الطناحي 2/439[6]
من حيث إنه لم يتهمه بالجهل وعدم الاطلاع فيشرح له المشروح، ويبين له المستبين.[7]
زهر الآداب وثمر الألباب 2/220-221[8]
إحسان عباس، بحوث ودراسات في الأدب والتاريخ، 2/156.[9]
رسائل الجاحظ 4/195[10]
السابق 1/225[11]
مقدمة الغربال، ميخائيل نعيمة، المجموعة الكاملة، 3/345. [12]
- كتاب الكسب، مقدمة المحقق 7-8[13]
مقالات الطناحي 1/351[14]
رسائل الجاحظ 3/33[15]
محمود محمد الطناحي، المقالات، 2/595.[16]
ميخائيل نعيمة، المجموعة الكاملة، الغربال، المجلد الثالث 406. [17]
رسائل الجاحظ 1/238[18]
السابق 4/189[19]
السابق 3/33[20]
إحسان عباس، بحوث ودراسات في الأدب والتاريخ، 1/3.[21]
رسائل الجاحظ 1/208[22]
السابق 3/33.[23]
مارون عبود، في المختبر، 213.[24]
رسائل الجاحظ 1/225[25]
مقالات الطناحي 1/352،353[26]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق