الثلاثاء، 23 يوليو 2013

غرفة محمّد بن مسلمة الأوسي في نادي الكَمَلَة

بقلم محب الدين الخطيب

 أماني الطفولة وأحلامها
للطفولة أماني وأحلام ، لو عني أصحابها بتدوينها لكان في بعضها ما يحفز الإنسانية للتقدم نحو الخير بخفّة الأطفال وسذاجتهم المحببة. وقد يراجع الرجل المسن ذكريات طفولته فيستعرض منها ما يتمنى أن يحققه لو استقبل من أمره ما استدبر، ثم يقول في نفسه : ولماذا لا ألقي تلك البذور الآن في حقول الطفولة الخصبة بمروجها ، اليانعة بأثمارها ، على أمل أن ينبت بها غداً ما عجزنا عن استنباته في الأمس؟ وعلى هذه النية أعرض الأفكار الصبيانية التالية على أنظار فتيان من قرائي:
نادي الكملة
في يوم أبلج مفضّض من شتاء دمشق ـ قبل بضع وأربعين سنة ـ كان طلبة المدرسة الثانوية الأميرية يتمتعون في فسحة الظهر بالثلوج وهي تتطاير بين السماء والأرض كالقطن المندوف ، والعهن المنفوش ، فيجمعون منها أُكراً يتراشقون بها ، ويتصارعون على بساطها الأبيض الناصع الذي يملأ الساحة الكبرى فيتمرغون فيه. إلا أربعة منهم كانوا فيما بين السادسة عشرة والثامنة عشرة من أعمارهم جالسين حول موقد الفصل ـ وكان يتلظّى بالحطب الملتهب ـ فيتذاكرون ما يودون تحقيقه من أمانيهم. ثم أجمع رأيهم أن ينشؤوا في المستقبل نادياً يسمونه (نادي الكملة) يكون مشيّداً من بضع طبقات ، في كل طبقة عشرات من الغرف المتسعة. أما الطابق الأرضي فينتقى له من كبار تلاميذ المدارس الابتدائية وصغار تلاميذ المدارس الثانوية أهل القابلية للخير ممن يغلب عليهم الصدق والجد ومحبة الحق ، فينضم النظراء إلى نظرائهم ، ويلتحق المتشابهون بأشباههم ، حتى تكون منهم حلقات تأوي كل حلقة منها إلى غرفة من غرف الطابق الأرضي في نادي الكملة.
وكلما استوثق القائمون على النادي من تمكن خليقة الصدق في أفراد حلقة من حلقات الطابق الأرضي ارتقوا بأعضائها إلى الغرفة الأولى من الطابق الثاني ، وقد كتب على بابها هاتان الكلمتان: (أهل الصدق). وفي هذه الغرفة يتمرّن أعضاؤها على «الاعتدال» و«الرفق» ، ويثقفون بما في القرآن الإلهي والحديث النبوي والأمثال البليغة وأقوال الحكماء من جوامع الكلم من مزايا الاعتدال وأن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ، وحتى يكون كل ما قيل فيهما من أهم محفوظاتهم، وحينئذ ينقلون إلى (غرفة أهل الاعتدال والرفق) ، وفيها يتمرنون على «الإنصاف» ثم «الإيثار» ، ويثقفون ألسنتهم وعقولهم بكل ما قيل فيهما. حتى إذا حذقوا ذلك عملاً وعلماً ، انتقلوا إلى (غرفة الإنصاف والإيثار) ، فيتمرنون فيها على خلق التضحية ، التضحية بالنفائس ، وهو الكرم ، والتضحية بالنفوس ، وهو الجهاد ؛ والسخاء بالمعارف والتجاريب ، وهو التعليم والتهذيب لوجه الله وبلا أجر يشوهون به جمالها. ثم ينتقلون إلى (غرفة القناعة والاقتصاد) فيتعلمون فيها كيف يكون زهد الأغنياء وتواضع الملوك ، وبلوغ معارج العظمة الأدبية باحتقار الأنانيات والمتع المادية والشهوات الزائلة، ثم يصيرون إلى (غرفة الحياء) ، فغرفة (التعاون على الحق والخير) ... إلخ
فإذا انتهوا من هذا الطابق ، انتقلوا إلى الطابق الذي فوقه ، فيجدون الغرف مسماة بأسماء الممتازين بالفضائل السامية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يتأهل للالتحاق بغرفة منها إلا من يستقصي كل ما حفظه التاريخ من فضائل الصحابي المكتوب اسمه في هذا العصر. وبذلك يكون لأبناء الجيل طبقة من المعاصرين الممتازين الذين يمثلون الإنسانية المنشودة بأسمى كمالاتها ، فيرجع بهم الإسلام غضّاً جميلاً لا تصنّع فيه ، ولا متاجرة ببضاعته ، ولا مراءاة بمظاهره للاستغاء بها عن حقائقه. فإذا كثر أفراد هذه الطبقة في جيل من أجيال المسلمين ، كان سائر المسلمين تبعاً لها ، ونزلت الدولة على سننها «وكما تكونوا يولّى عليكم» ، فرأت الأمم ذلك بأعينها ، ولا يلبث أن يكون الإسلام بعد ذلك دين الإنسانية كلها.
غرفة محمّد بن مسلمة
ومحمّد بن مسلمة الأوسي ـ حليف بني عبد الأشهل ـ واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنصاره الأولين ، ولهذا الصحابي غرفة منفردة على اسمه في الطابق الخاص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من نادي الكملة كما كان يتصوّره أولئك التلاميذ الأربعة في مدرسة دمشق الثانوية قبل بضع وأربعين سنة. وقد اخترته الآن من بين عشرات الصحابة الممتازين الذين لكل واحد منهم غرفة في ذلك النادي ، لأنه مع امتيازه بما يرفعه إلى الذروة في الإنسانية السامية لم يشتهر عند الجماهير كاشتهار عمر وعلي وخالد وعمرو وأبي عبيدة ، ولذلك آثرت أن أعرض على فتيان المسلمين ما تتسع له هذه الصحيفة من سيرته.
أوّليته في الإسلام
قد يسبق إلى ذهن القارئ أن محمد بن مسلمة ولد في الإسلام فتسمّى (محمداً) على اسم الهادي الأعظم صلى الله عليه وسلم وليس كذلك ، فإن اسم (محمد) وإن كان قليل الذيوع بعد ولادة النبي صلى الله عليه وسلم لكنه كان متداولاً. وابن مسلمة ولد في يثرب بعد ولادة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بثمانية عشر عاماً ، فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة الحق وبالرسالة العظمى إلى الإنسانية ، كان محمد بن مسلمة في الثانية والعشرين من عمره ، ولو أنه كان مكياً ومن قريش لكان من الرعيل الأول في الإسلام لكنه وهو من مواليد يثرب كان أسبق الأنصار إلى دين الحق ، فقد أسلم قديماً على يدي مصعب بن عمير بن هاشم العبدري عندما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قبل الهجرة ، فكان إسلام محمد بن مسلمة أقدم من إسلام سعد بن معاذ وإخوانه من الأنصار.
ونشأ محمد بن مسلمة أسمر طويلاً معتدلاً ممتلئ الجسم ، أصلع ، مقداماً في العزائم ، صدّاعاً بالحق ، سريعاً إلى الخير ، مبغضاً للفتن وأهلها. وأنجب للإسلام عشرة من الذكور كلهم من أهل الخير ، وقد أدرك نصفهم صحبة رسول الله ، وهم : عبد الرحمن ، وعبد الله ، وجعفر ، وسعد ، وعمر.
ولما قدم النبي  صلى الله عليه وسلم المدينة وتبعهم المهاجرون فآخى بين كل مهاجري وأنصاري ، آخى بين محمد بن مسلمة وأمين هذه الأمة أبي عبيدة عامر بن عبد الله الجراح الفهري ، أحد العشرة المبشرين بالجنة ، وصاحب الفتوح الخالدة بنتائجها في سبيل الحق إلى يوم القيامة.
جهاده
شهد محمد بن مسلمة بدراً ، وجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الميادين ، ولم يتخلف إلا عن غزوة تبوك بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأغلب الظن أنه كان خليفته على المدينة في غيبته إلى أن عاد من تبوك.
وكان ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العظائم التي لا يصمد فيها إلا أهل العزائم. من ذلك أن ابن اليهودية عدو الله كعب بن الأشرف الطائي لما أسرف في إيذاء المسلمين والكيد للإسلام بثروته وجاهه وشعره ، حتى تطاول إلى التشبيب بنساء المسلمين ، وحتى ذهب إلى مكة فنزل في بني سهم ، وجعل ينظم أبلغ الشعر في رثاء أهل القليب من قتلى بدر ليهيج قريشاً لثاراتها ، رأى النبي صلى الله عليه وسلم من الخير للإنسانية بتر هذا العضو الفاسد من أعضائها ، وأنه إن لم يقتل فستسفك بشعره وتحريضه دماء لا ترقأ. فقال صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه:
ـ من لي بابن الأشرف؟
فقال محمد بن مسلمة : أنا لك به يا رسول الله ، أنا أقتله...
قال : ـ فافعل إن قدرت على ذلك.
فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاث ليال لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه ، لما أهمه من هذا الأمر . فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك دعاء فقال له:
ـ لم تركت الطعام والشراب؟
قال : يا رسول الله قلت لك قولاً لا أدري هل أفيَنَّ لك به أم لا...
فقال صلى الله عليه وسلم: إنما عليك الجهد.
واختار محمد بن مسلمة لمرافقته في هذه المهمة أربعة من الرجال هو خامسهم: أحدهم من أسرته بني حارثة وهو أبو عبس بن جبر والآخرون من حلفائه بني عبد الأشهل أولهم أخ من الرضاعة لكعب بن الأشرف وهو أبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش ، وابن عمه عباد بن بشر بن وقش ، ثم الحارث بن أوس بن معاذ الأشهلي. ولما أزمعوا أمرهم ، مثلوا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا:
ـ يا رسول الله ، إنه لا بد لنا من أن نقول (أي يتظاهروا بالعداوة للإسلام حتى يتمكنوا من الرجل).
فقال: قولوا ما بدا لكم ، فأنتم في حل في ذلك.
فلما نهضوا ليقوموا بمهمتهم ، مشى معهم صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم فقال: «انطلقوا على اسم الله ، اللهم أعنهم» . ثم رجع إلى بيته وهو في ليلة مقمرة. وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصن كعب بن الأشرف في ظاهر يثرب ، فاستنزلوه ، وأعملوا فيه السيف. فقتل وهو يصيح صيحة لم يبق حول حصنه حصن إلا أوقدت عليه النيران لتعرف خبر ذلك الصوت.
ولما أصابت الأوسُ كعبَ بن الأشرف في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الخزرج: والله لا يذهبون بها فضلاً علينا أبداً ، فتذاكروا مَن رجل في العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كابن الأشرف؟ فذكروا رأس اليهود وطاغيتهم سلام بن أبي الحُقيق في خيبر ، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله بمعقله بخيبر. ولما قتله الخزرج قال حسان بن ثابت:
لله  در عصــــابة لاقيتَهم * يا ابن الحقيق وأنت يا بن الأشرف
يسرون بالبيضِ الخفافِ إليكم * مرحاً كأسد في عرين مغرف
حتى أتوكم في محل بيوتكم * فسقوكم حتفاً ببيض ذُفّّّّّف
مستنصرين لنصر دين نبيهم * متصغرين لكل أمر مجحف
ويوم تآمرت يهود بني النضير على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة للهجرة وأرادت أن تلقي عليه الصخرة وهو مستظل بجدار من جدران بيوتها ، اعتبر صلى الله عليه وسلم هذا الغدر نقضاً من اليهود لعهودها ، فندب محمد بن مسلمة ليبلغهم أمره بالجلاء عن الحجاز إلى جنوب سوريا ، على أن لا يحملوا معهم شيئاً من أسلحتهم ولأْمَتهم. وكانت الأوس ـ قوم محمد بن مسلمة ـ حلفاء قدماء لبني النضير ، فقالوا لابن مسلمة:
ـ يا محمد ، ما كنا نظن أن يجيئنا بهذا الأمر رجل من الأوس.
فقال محمد بن مسلمة: تغيرت القلوب ، ومحا الإسلام العهود.
فقال اليهود: نتحمل!
وخرجوا بلا سلاح ولا ذخيرة ، لكل ثلاثة منهم بعير وسقاء.
ثم لما نزلت يهود بني قريظة على حكم النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الخامسة للهجرة ، كان محمد بن مسلمة قائد حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تصرف في هذه المهمة العسكرية تصرف القائد الحكيم المطلق اليد ، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على تصرفه.
وشهد محمد بن مسلمة حرب المسلمين مع اليهود في خيبر في السنة السابعة للهجرة ، فأبلى فيها بلاء حسناً ، واستشهد في تلك الحرب أخوه محمود بن مسلمة فحاول أن يثأر لأخيه من بطل اليهود (مرحب) وأثخن فيه إثخاناً كوفئ عليه بأخذ سلبه بعد قتله ، ثم كان ثأره لأخيه بقتله كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وصار يقال بعد ذلك لمحمد بن مسلمة (فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وفي عمرة القضية (سنة ثمان) كان محمد بن مسلمة أميراً على خيل المسلمين ، كما كان قائد غزوة القُرَطاء من هوازن. وهكذا كانت حياة هذا البطل جهاداً متواصلاً كلما احتاج الإسلام إلى جهود رجاله وعقولهم وجوارحهم وأخلاقهم.
الوصية النبوية
روى الحسن البصري (رحمه الله) عن محمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه سيفاً وقال له: «قاتل به المشركين ما قاتلوا. فإذا رأيت أمتي يضرب بعضهم بعضاً ، فائت به جبل أحد فاضرب به حتى ينكسر ، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة ، أو منية قاضية »، ففعل.
وقال حذيفة: إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتنة (وذكر محمد بن مسلمة) وصرح بسماعه ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم.
يد عمر بن الخطاب اليمنى
وكان محمد بن مسلمة في خلافة عمر بن الخطاب يد الخليفة اليمنى في كشف الأمور المعضلة ، والإشراف على الولاة والأمراء فيما يشكوه أهل الأمصار من أعمالهم ، فإذا كانت الحالة قارّة سارّة والرعية مغتبطين بولاتهم ، لا يدع عمر يده اليمنى عاطلة عن العمل فيرمي بمحمد بن مسلمة إلى أي عمل آخر من أعمال الدولة: فيوماً يلي صدقات جهينة ، ويوماً تجده على ثغرة أخرى من ثغور الإسلام. وكل عمل كان عمر يحب أن يؤدّى كما يريد وعلى ما يريد يرمي إليه بمحمد بن مسلمة فيؤديه بأمانة وبصيرة واتقان.
هذا سعد بن أبي وقاص صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد العشرة المبشرين بالجنة وفاتح العراق وإيران والقائم للإسلام بكل خير ، ينم عليه النمامون إلى عمر بأنه بنى في الكوفة قصراً وجعل بينه وبين الرعية باباً يغلق. هل يسكت عمر؟ هل يشفع له عنده أنه المجاهد الفاتح ، والأمير الصالح ، وصاحب الدعوة التي ليس بينها وبين السماء حجاب؟ إن عمر لا يكتفي بالخير الماضي ، ولا يعتقد العصمة لأحد بعد رسول الله. فإذا كان سعد من أهل الخير فيما مضى ، فقد مضى ما مضى ، ويجب على سعد أن يكون مصدر خير في كل محنة ونفَس.
ـ يا محمد بن مسلمة ، عليك بسعد بن أبي وقاص ، فقد زعم الناس أنه صار نمروداً في أرض بابل. اذهب إلى الكوفة واكشف لي عن هذا القصر الذي بناه أمير العراقين وفاتحهما ، وإذا رأيت للقصر باباً فأضرم فيه النار حتى لا يبقى بين سعد والرعية باب ، ثم ارجع إليّ من حيث ذهبت!
وتسرع الناقة بمحمد بن مسلمة تطوي الأرض بين المدينة والكوفة حتى يقف أمام ما سموه قصراً لسعد بن أبي وقاص فيرى داراً متواضعة بناها لتحول بينه وبين ضجيج الأسواق المجاورة لمكان الحكم ، وكانت الغوغاء تمنع سعداً قبل ذلك من أن يسمع حديث أصحاب الحاجات الذين يقصدون الأمير بحاجاتهم. فلما بنى هذه الدار سماها الناس قصراً وادّعوا عليه ما لم يفعل. إلا أن للدار باباً ، وقد أمر الخليفة بإحراقه ، فجمع محمد بن مسلمة حطباً وأضرم به الباب. ثم أراد أن يعود من حيث أتى ، فدعاه سعد وأراده على دخول داره والنزول عنده ـ لأنه صديقه القديم المجاهد معه في ركاب النبي صلى الله عليه وسلم دهراً طويلاً ـ فأبى أن يدخل. وعرض عليه سعد الزاد لسفره ، فرفضه ، ورجع من فوره. وقبل أن يصل المدينة فنى زاده فصار يأكل نبات الأرض ولحاء الشجر إلى أن بلغ عمر فأخبره خبره. فقال عمر: «إن سعداً أصدق مما روي عليه ، وما بلغني عنه»، وقال لمحمد بن مسلمة:
ـ هلا قبلت الزاد من سعد؟
فأجابه : لم أكن أعلم أنك تأذن لي به.
فقال عمر: إن أكمل الرجال رأياً من إذا لم يكن عنده عهد من صاحبه عمل بالحزم ولم ينكل...
في خلافة عثمان
لما انصرف الثوار من أهل مصر والكوفة والبصرة عن المدينة مقتنعين بما أجابهم به عثمان عن كل الشبهات التي بثها جماعة عبد الله بن سبأ في أذهانهم ، دبر عملاء عبد الله بن سبأ الذين في المدينة الرسالة المزورة على عثمان إلى عامله في مصر. وكان ثوار كل بلد قد أخذوا طريقهم إلى بلدهم من غير طريق الآخرين ، والرسول الذي حمله السبأيون الرسالة المزورة تراءى لجماعة مصر وحدهم لأنهم المقصودون بالدسيسة المرتبة. ولكن أهل المدينة لم يشعروا إلا بثوار الأمصار الثلاثة قد رجعوا جميعاً كأنما كانوا على ميعاد ، فأتى محمد بن مسلمة المصريين وقال لهم:
ـ ماالذي أرجعكم بعد ذهابكم؟
قالوا : أخذنا كتاباً من البريد مع خادم عثمان لعامل مصر يأمره فيه بقتلنا.
وسأل البصريين عن مجيئهم ، فقالوا : لنصر إخواننا. وكذلك قال الكوفيون. فقال محمد بن مسلمة للبصريين والكوفيين:
ـ كيف علمتم بما لقي أهل مصر ، وكلكم على مراحل من صاحبه حتى رجعتم إلينا جميعاً؟ هذا أمر دبّر بليل!
فقالوا: اجعلوه كيف شئتم ، لا حاجة لنا بهذا الرجل ، ليعتزلنا.
قال الشيخ محمد الخضري (في إتمام الوفا ص 185): ولم يلهم الله أحداً أن يحقق أمر هذا الكتاب، إذ كيف اتحدوا على الرجوع بعد افتراقهم في طرق مختلفة؟
وعلّق عليه الأستاذ صادق عرجون في كتابه النفيس (عثمان بن عفان ص 129) فقال: بلى قد ألهم الله حكيم الإسلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في رواية الطبري (5: 105) ، أو الألمعي محمد بن مسلمة كما ذكره الخضري نفسه في سيرته ، فألقى ظلاً كثيفاً من الشك على قصة هذا الكتاب المزوّر ، والغلام الأسود المختلق على عثمان أو على مروان ، وفضح أمر المزوّرين.
لا تضرّه الفتنة
إن محمد بن مسلمة «لا تضره الفتنة» كما سمعه ذلك حذيفة من فم النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك استطاع أن يكون في الفتنة رجلاً صالحاً يرد كيد أعداء الله عن دين الله وعن أولياء الله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
فلما تم لعثمان ما بشره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشهادة ، ذهب محمد بن مسلمة إلى صخرة في جبل أحد فكسر سيفه ، واتخذ لنفسه سيفاً من خشب ، وسكن الربذة ، وكان هو وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وأبو موسى الأشعري ، وأبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري ، وأسامة بن زيد ، وأبو بكرة نفيع بن الحارث الثقفي ، وحكيم تميم الأحنف بن قيس على رأس جمهور الأمة الأعظم في الكفّ عن القتال بين المسلمين ، إلى أن لقي الله في شهر صفر من سنة 43 هـ عن خمس وسبعين سنة ، فصلى عليه أمير المدينة مروان بن الحكم ، وصلى عليه معه بقية الصحابة وصالحو التابعين. رحمه الله ورضي عنه وأرضاه ، وبعث فينا أخلاقه وفضائله ، ووفقنا إلى الاقتداء به في صدقه وجهاده وولايته للإسلام وأهله.
-----------------------------
 من كتاب مع الرعيل الأول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق