الأحد، 28 يوليو 2013

حق الابن البكر في وراثة عهد أبيه


للبروفسور عبد الأحد داود (1)
 


            هناك خلاف ونزاع ديني قديم غارق في القدم بين بني إسماعيل وبني إسرائيل حول مسألة الابن البكر ووراثته لحكم وعهد أبيه. وإن أولئك الذين قرأوا الإنجيل والقرآن الكريم يعرفون جيداً قصة النبي العظيم إبراهيم مع قصة ولديه إسماعيل وإسحاق، ويعرفون أيضاً قصة الدعوة التي حملها إبراهيم من »أور« الكلدانية وقصة ذريته التي امتدت حتى موت حفيده يوسف في مصر، ذلك أهما جاءتا في سفر التكوين (الفصل 1-6).

            أما من ناحية تسلسل إبراهيم بالنسب فيأتي ترتيبه العشرين من بعد آدم عليه السلام، كما هو مذكور في سفر التكوين (2) . وقد عاصر إيراهيمُ النمرود الذي بنى برج بابل العظيم.

            وبداية قصة إبارهيم في »أور« الكلدانية، رغم أن الإنجيل لم يأت على ذكرها، إلا أن المؤرخ اليهودي المشهور يوسف فلافيوس قام بتدوينها في كتابه الذي سماه »العصور القديمة« وهي أيضاً واردة في القرآن الكريم، وينص الإنجيل (3) بصراحة على أن أبا إبراهيم، وكان اسم »أتيرا« أو »آزر«، كان يعبد الأصنام (يوشع 14: 2-24). وأعلن إبراهيم عن إيمانه وتعلقه بالله حينما دخل إلى معبد الأصنام وحطمها كلها، وبذلك كان إبراهيم النموذج الأصلي الحقيقي الأول عن حفيده محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء بعده بزمن طويل، وقد نجا إبراهيم من النار، وخرج منها سالماً منتصراً، بعد ما ألقي فيها بأمر من النمرود. وبعد ذلك غادر وطنه برفقة أبيه وابن أخيه لوط متجهين جميعاً إلى حاران، وكان إبراهيم قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره عندما توفي أبوه في حاران. وبدافع من الطاعة لله والتوجه المطلق للدعوة الإلهية المقدسة، غادر إبراهيم بلاده مبتدئاً برحلة طويلة نحو أرض كنعان ثم إلى مصر وبعدها إلى شبة الجزيرة العربية. ومع أن زوجته سارة كانت عاقراً فإن الله أعلن إليه بأنه قد قدّر له أن يصبح أباً لأمم عديدة، وأن كل المناطق التي سوف يجتازها سوف ترثها ذريته من بعده، »وإن جميع أمم الأرض سوف تكون من ذريته وسوف تكون مباركة«. فهذا الوعد الإلهي الفريد العظيم في تاريخ الأديان يتقبله إبراهيم بإيمان لا يتزعزع، رغم أن لم يكن له ذرية حتى ذلك الحين ولم يكن له ولد. وعندما أوحي إليه أن يتطلع إلى السماء أثناء الليل أعلمه الله بأن ذريته سوف يتكاثر عددها حتى تصبح كعدد النجوم وكعدد حبات الرمل على شواطئ البحار.

            آمن إبراهيم بهذا الوعد الإلهي، وكان هذا الإيمان بالله هو الإيمان المستقيم »الصادق« كما يذكره الكتاب المقدس.

            أما تلك الفتاة المصرية الفقيرة، واسمها هاجر، فقد كانت تعمل في خدمة سيدتها أمَةً وخادمة. وبأمر وبموافقة من سيدتها سارة تصبح الخادمة زوجة للنبي إبراهيم، فيثمر هذا الزواج بميلاد إسماعيل، تماماً كما تحدث الملاك بهذا إلى إبراهيم مسبقاً.

            وعندما يبلغ إسماعيل الثالثة عشر من عمره يوحي الله مرة أخرى إلى إبراهيم بواسطة الملاك ويعيد عليه الوعد  القديم بما في ذلك الأمر الختان الذي تم تنفيذه بالنسبة لإسماعيل وكافة الذكور في البيت، وبذلك يكون ميثاق الله لإبراهيم قد تمّ الوفاء به، وتم ختان ولده الوحيد إسماعيل، وكأنما كان دم الختان علامة للميثاق الذي أعطاه الله إلى إبراهيم. وكان ذلك نوعاً من المواثيق أبرمَت بين السماء والأرض الموعوة متمثلة في شخص إسماعيل؛ لأنه الذرية الوحيدة للشيخ الجليل الأب الذي يبلغ التسعين ويشارف على المائة من عمره. فيقوم إبراهيم بتقديم الوعد لخالقه بالطاعة والولاء، ويعده الله بأن يكون حامياً لإسماعيل وذريته من بعده. وبعد ذلك، أي عندما بلغ إبراهيم التسعين من العمر وبلغت زوجته سارة التسعين أيضاً، نجد أن سارة قد حملت ولداً، فأسمَياه إسحاق لكي يتم أمر ُ الله ووعده الإلهي.

            ولما كان الترتيب الزمني أو التاريخي غير مقيّد أو ملاحظ في كتاب سفر التكوين، فقد قص علينا هذا السفر أن إسماعيل وأمه هاجر قد طردهما إبراهيم وأبعدهما بطريقة هي غاية في القسوة، وذلك استجابة لرغبة سارة لا أكثر على إثر ولادتها إسحاق. ولقد اختفى إسماعيل وأمه في الصحراء وأوشك الغلام على الموت عطشاً، لولا أن تفجرت عين من الماء بين يديه فبشرب منها الغلام وينجو من الموت. ولا نسمع شيئاً بعد ذلك عن إسماعيل وأخباره، حيث لم يرد شيء في سفر التكوين، غير زواجه من امرأة مصرية وأنه كان حاضراً مع إسحاق عندما توفي أبوهما إبراهيم وقاما بدفنه معاً.

            ويواصل »سفر التكوين« ليسرد قصة إسحاق وولديه وقصة نزول يعقوب في أرض مصر ثم ينتهي الكتاب بقصة وفاة يوسف.

            أما ما تلا ذلك من حدث هام في تاريخ إبراهيم كما جاء في سفر التكوين، فهو قصة تقديم إبراهيم ابنه الوحيد إسماعيل ضحية لله، وكيف أن الملاك جاء بكبش قدمه إلى إبراهيم كفي يفتدي به الغلام. وهذا ما قصه علينا القرآن الكريم. وكان ذلك امتحاناً لإيمان إبراهيم (القرآن الكريم سورة الصافات، الآية: 102) (4) فأثبت بذلك أن حبه لخالقه فاق كل عاطفة؛ ولهذا السبب تمت تسميته بخليل الرحمن (5).

            ويستمر التاريخ على هذا النحو المختصر لحياة إبراهيم فيما يتعلق بموضوعنا هذا حول حق الابن الأكبر في وراثة عهد أبيه وحكمه. وهناك ثلاثة نقاط مميزة توجب على كل مؤمن بالله أن يتقبلها كحقائق صادقة:

            فالنقطة الأولى: هي أن إسماعيل هو الابن الأكبر الشرعي لأبيه إبراهيم، واعتماداً على هذا الأساس فإن حقه في ميراث عهد وحكم أبيه هو حق شرعي وعادل.

            أما النقطة الثانية: فهي أن العهد المبرم بين الله وإبراهيم كان في نفس الوقت عهداً مبرماً بين الله وإسماعيل، لأن العهد قد أبرم قبل ميلاد إسحاق. والعهد وتشريع الختان كان يمكن أن يكونا دون قيمة أو معنى، لولا تكرار الوعد كما جاء في الكلمات المقدسة: »من خلال ذريتك سوف تتبارك كل الأمم على وجه الأرض لأن هذه الأمم قد جاءت من ذريتك«، وتعبير الذرية على الأخص وبالذات كانت واردة في سفر التكوين (15/4): »الذرية التي سوف تخرج من أحشائك سوف ترثك«. وقد تم تحقق هذا العهد عندما ولِد إسماعيل (سفر التكوين 16). وكان ذلك عزاء لإبراهيم؛ لأن كبير الخدم أليعازر لم يعد بإمكانه أن يرث إبراهيم. ولذلك وجب أن نعترف بأن إسماعيل كان الوريث الحقيقي والشرعي المميز لحكم وعهد أبيه إبراهيم. فالامتياز الخاص الذي حظي به إبراهيم من ربه والذي تكرر بصيغ مختلفة، مثل: »كل الأمم على وجه الأرض من ذرية إبراهيم سوف تكون مباركة«. هذا العهد جعل الميراث الذي تفرضه الولادة هو من حق إسماعيل البكر، وهذا الميراث الذي يستحقه إسماعيل لكونه الوليد البكر، لم يكن يُقصَد به الخيمة التي عاش فيها إبراهيم، ولا البعير الذي كان يركبه، وإنما عني به إخضاع كل الأرض الممتدة من النيل إلى الفرات، واحتلالها إلى الأبد، حيث كان يسكن هذه الأرض عشر أمم مختلفة (17-18/21) وهذه البلاد لم تخضع أبداً لذرية إسحاق، ولكنها خضعت لذرية إسماعيل، وكان هذا تحقيقاً حرفياً وفعلياً لأحد الشروط التي قام عليها العهد بين الله وإبراهيم.

            أما النقطة الثالثة: فهي أن ميلاد إسحاق كان ميلاداً إعجازياً ومباركاً بصورة خاصة بأمر الله، ولذلك اعتقد أتباع إسحاق أن أرض كنعان هي الأرض الموعودة لهم فاحتلوها فعلاً تحت إمرة يوشع، ولا يستطيع أي مسلم أن يفكر في انتقاص وذم الصفة الرسولية المقدسة لإسحاق وولده يعقوب، فهما نبيان، والانتقاص من قدر نبي من الأنبياء يتنافى مع مقتضى الإيمان الصحيح. وعندما نقارن بين إسماعيل وإسحاق لا نستطيع إلا أن نبجلهما ونحترمهما كرسولين من رسل الله. وبالحقيقة شعب إسرائيل وقوانينه وكتبه المقدسة تحمل تاريخاً دينياً فريداً في العالم القديم، فقد كان بنو إسرائيل فعلاً شعب الله المختار (6)، وبالرغم من أن هذا الشعب قد عصى الله كثيراً وعبد الأصنام، إلا أنه قدّم للعالم عدداً كبيراً من الأنبياء، ومن الرجال والنساء الأتقياء!

            وحتى الآن لا يوجد نقطة خلاف حقيقية بين ذرية إسماعيل وبين شعب إسرائيل، وذلك لأنه إذا كان أمر الخلاف يتعلق بمباركة الله، وحقوق الميلاد، فإنه يعني أنه خلاف فقط على النفوذ والممتلكات، وهذا النوع من الخلاف يمكن تسويته، وقد سُوِّي فعلاً بالسيف، والدليل على ذلك الحقيقة الساطعة ألا وهي احتلال العرب لكل الأرض الموعودة. ولكن هناك نقطة خلاف جوهرية بين الشعبين مضى على وجودها حتى الآن ما يقرب من أربعة آلاف عام، وهذه المسألة هي »المسيح ومحمد«، فاليهود لا يعترفون بتحقيق ما يسمى بالنبوءات المسيحية لا في شخصية »عيسى« ولا في شخصية »محمد«، ولقد كان اليهود دائماً وأبداً على غيرة من إسماعيل، لأنهم يعرفون جيداً بأنه كان يجسّد ويمثّل »العهد« وبختانه أبرم وخُتِم هذا العهد. وإنه بدافع من ذلك الحقد وتلك الضغينة قام النسّاخ وفقهاء الشريعة عند اليهود بتحريف وإفساد الكثير من صفحات كتبهم المقدسة، فشطبوا اسم إسماعيل من العبارات الثانية والسادسة، والسابعة من الفصل الثاني والعشرين في كتاب سفر التكوين ووضعوا اسم إسحاق بدلاً منه، وقاموا أيضاً بحذف الوصف الخاص بإسماعيل »ولدك الوحيد« وذلك إنكار لوجود إسماعيل، فلقد ذكر الله تعالى بوضوح في هذا الفصل مخاطباً إبراهيم: »لأنك يا إبراهيم من ذريتك قبلتَ أن تضحّي بابنك الوحيد من أجلي، فسوف أزيد وأضاعف من ذريتك ليصبح عددها كعدد النجوم، وكعدد حبات الرمل على شاطئ البحر«، وكلمة »أضاعف« جاءت خطاباً من الملاك إلى هاجر وهي في البرية على هذا النحو: »إن الله سوف يضاعف ذريتك إلى عدد لا يحصى وسوف يصبح إسماعيل ذا ذرية كثيرة« (سفر التكوين: 16/12). وقد قام المسيحيون الآن بترجمة نفس هذه الكلمة العبرية التي تعني »وفير« أو »كثير« من الفعل Para الذي يرادفه بالعربية لفظ »وفير أو وافر« ترجموها إلى معنى مغاير لحقيقة اللفظ ألا وهو »الحمار المتوحش«!.. أليس من العار والكفر أن ينعَت إسماعيل »بالحمار المتوحش« وهو النبي الذي كرّمه الله فنعته »بصاحب الذرية الخصبة الكثيرة العدد«؟.. وإنه لما يسترعي الاهتمام أن المسيح نفسه، وكما ورد في إنجيل برنايا، قد عنّف اليهود الذي قالوا بأن الرسول العظيم الذي يدعونه المخلّص ينحدر نسله من ذرية الملك داود، فوضّح المسيح لهم بصراحة بأنه لا يمكن أن يكون »ابن داود« لأن داود نفسه يعتبر هذاالرسول سيّده، وأضاف موضحاً لهم كيف حرّف آباؤهم الكتب اليهودية المقدسة، وأن العهد لم يكن من نصيب »إسحاق« كما يزعمون، بل كان العهد من نصيب إسماعيل البكر، وهو الذي تقبّل راضياً أن يضحّي به أبوه لله، وأن التعبير الذي ورد في العهد »ولدك الوحيد« كان المقصود به »إسماعيل« وليس »إسحاق«.

            والقديس بولس الذي يدّعي أنه من حواريي المسيح عيسى، استعمل كلمات غير محترمة بحق هاجر »سفر الغلاطيين 6/21-31) وبحق ولدها إسماعيل, وهو بهذا يكون قد ناقض وخالف سيده المسيح صراحة، وهذا الرجل فعل كل ما بوسعه كي يضلل ويفسد النصارى وهم الذين كان يضطهدهم قبل اعتناقه الدين المسيحي. وبسبب ادعاءات بولس الباطلة فإني أشك كثيراً بأن المسيح الذي آمن به بولس ليس إلا المسيح الذي شُنِقَ على شجرة قبل حوالي قر، أو كثير من الميلاد وكان يدعى عيسى وابن ماري وذلك بسبب ادّعاءاته اليسوعية آنذاك. وفي الحقيقة فإن رسائل القديس بولس كما نقرأها تغصّ بعقائد باطلة متناقضة ومتنافرة تماماً مع روح وعقائد سفر التكوين، ومع روح وعقائد النبي الناصري المتواضع أيضاً. ولقد كان القديس بولس هذا رجلاً يهودياً ومتعصباً من الفريسيين، وقد كان محامياً أيضاً. ويبدو أنه بعد تحوله إلى الدين المسيحي أصبح أكثر تعصباً من ذي قبل. وبسبب حقده وكرهه لإسماعيل وادّعائه بأحقية إسحاق في وراثة حكم وعهد أبيه بدلاً من إسماعيل، نسي متعمداً، بل وأهمل وصايا موسى التي تحرّم زواج الرجل من أخته، تحت طائلة العذاب والعقاب الكبير. ولو هدى الله بولس هذا لرفض كتاب سفر التكوين وأعلن أنه مملوء بالتزوير والأباطيل حيث ينص مرتين (12/10-20، 20/2-18) أن إبراهيم كان زوجاً لأخته، أو لَمَا جعل من النبي إبراهيم كاذباً وهو المعصوم عن ذلك، ولكنه بالعكس يؤمن بكل كلمة جاءت من كتب سفر التكوين ولا يعذّبه ضميره مطلقاً عندما يصف هاجر بأنها تائهة في صحراء سيناء المقفرة، بينما يصف سارة بأنها القدس الذي يحلّق في السماوات (سفر الغلاطيين 25-26)، فهل قرأ القديس بولس في حياته عقاب الملعونين التالي: »ملعون ذلك الذي يضطجع مع أخته ابنةأبيه، وابنة أمه، والناس أجمعين يقولون آمين«. (سفر تثنية الاشتراع 27).

            وهل يوجد قانون بشري أو سماوي يعتبر ولادة ابن العم والعمة أكثر شرعية من ولادة من كان أبوه كلدانياً وأمه مصرية؟

            وهل يستطيع أي إسنان أن يطعن في عفة وتقوى هاجر؟ بالطبع لا، لأن هاجر هي زوجة نبي وأم نبي، وهي نفسها قد خصها الله بوحي مقدس من  عنده (7).

            والله الذي أعطى إسماعيل العهد قد أنزل قانون الوراثة بنصه التالي:

»إذا كان لرجل زوجتان، وكانت إحداهما مفضلة عنده على الأخرى، وكان لكل واحدة منهما ولد، وإذا كان ابن غير المفضلة هو الولد الأكبر، فإن الولد البكر هو المرشح ليحلّ محلّ أبيه في تحمل الحكم وولاية العهد وليس ابن الزوجة المفضلة، وعليه فإن الولد البكر سوف يرث ضعف ما يرث أخوه« سفر تثنية الاشتراع (21/15-17).

            وعلى ضوء ذلك، أليس هذا القانون من الوضوح بما يكفي لِيُخْرس جميع الذين يختلفون ويتنازعون حول أحقية إسماعيل كي يأخذ مكانة أبيه في الدعوة وولاية العهد.؟

            والآن دعونا نناقش مسألة أحقية إسماعيل في الحكم أو العهد بصورة مختصرة وبقدر ما نستطيع. نحن نعلم أن إبراهيم كان شيخ قبيلته التي كانت تنتقل من مكان إلى آخر، وفي نفس الوقت كان رسول الله، وكان يعيش في خيمة، ويملك قطعاناً كثيرة من المواشي مع ثروة كبيرة. ومن المعروف أن رجال القبائل لا يرثون الأرض والمرعى، ولكن الشيخ الأمير يخصص لكل ولد من أبنائه قبيلة معينة تخضع له وتتبعه. وكذلك فإنه من المعروف كقاعدة متبعة بين القبائل بأن الابن الأضغر يرث خيمة والديه، أما الابن الأكبر فإنه يخلف أباه على عرشه، ما لم يكن غير صالح لهذا المنصب.

            .. فإسحاق أصغر الولدين ورث خيمة أبيه وأصبح مثله، ينتقل من مكان إلى آخر، بدوياً يعيش في الخيام. لكن إسماعيل أرسِل إلى الحجاز ليحرس بيت الله الذي كان قد بناه مع أبيه، كما يذكر القرآن الكريم(القرآن: 2) (8)، وهناك استقر وأصبح نبياً وأميراً على القبائل العربية التي آمنت به. وفي مكة أو بكة أصبحت الكعبة قبلة للحجاج. ونشر إسماعيل دين الله وسنّ مشروعية الختان، وتكاثرت ذريته بسرعة وصار عددها كعدد نجوم السماء. ومنذ أيام إسماعيل وحتى قدوم محمد [صلى الله عليه وسم] كان عرب الحجاز واليمن وآخرون غيرهم شعوباً مستقلة وأسياداً في أوطانهم. وقد عجزت إمبراطوريتا الروم والفرس عن إخضاع شعب إسماعيل، وبالرغم من انتشار عبادة الأصنام فيما بعد إلا أن اسم الله واسم إبراهيم واسم إسماعيل وعدد قليل من الأنبياء بقيت بين العرب تذكَر ولا تنسى. وحتى عيسو الابن الأكبر لإسحاق ترك خيمة أبيه لأخيه الصغير يعقوب وسكن في »إيدوم« حيث أصبح زعيم شعبه، وامتزج بسرعة مع قبائل إسماعيل العربية، وهو الذي كان من حيث النسب عمه وحماه أي أبا زوجته. وأما قصة بيه عيسو حقه في تولي مكانة أبيه إلى يعقوب مقابل طبق من الحساء، فهي حيلة شريرة أختُرعَت كي تبرر المعاملة السيئة التي نُسبَت لإسماعيل. فقد زعموا أن »الله كره عيسو وأحبّ يعقوب« وهما ما زالا توأمان في رحم أمهما، وأن على الابن الأكبر أن يخدم أخاه الأصغر، التكوين (25، الروم 9/12-13) ولكن من الغريب أن هناك قصة أخرى قد تكون من مصدر آخر تبين أن الأمر كان على عكس ما جاءت به النبوءات المذكورة آنفاً..!

            إننا نجد في الفصل الثالث والثلاثين من التوراة وفي سفر التكوين بالذات اعترافاً واضحاً بأن يعقوب كان يقوم على خدمة عيسو ويقدم له الخضوع سبع مرات دلالة على الولاء والطاعة، مخاطباً إياه بـ»سيدي«، ومعلنا عن نفسه قائلاً: »عبدُك يا سيدي«!

            وقد ورد عند ذكر إبراهيم أنه كان له العديد من الأبناء الآخرين من »فيتورا« ومن »محظياته« وقد أرسلهم إلى الشرق بعد أن زودهم بالهدايا والمنح العديدة، ومن ذرياتهم تكونت قبائل كثيرة وقوبة. وقد ورد بالنص أسماء اثني عشر من أبناء إسماعيل مع أوصافهم، وكان كل واحد منهم أميراً على مدنه ومعسكراته وجيوشه الخاصة به، وكذلك من أبناء فيتورا وغيرها من النساء الأخريات، ومن أولاد عيسو الذين وردت أسماؤهم جميعاً.

            إننا حين نعلم أن عدد أفراد عائلة يعقوب عندما ارتحل إلى مصر كان لا يزيد عن سبعين نفراً، وهنا خفّ عيسو إلى لقائه ومعه أربعمائة من الخيالة المسلحين. وحين نعلم أن القبائل العربية القوية خضعت لحكم الاثني عشر أميراً الذين يعود نسبهم إلى إسماعيل، ثم إن محمداً صلى الله عليه وسلم بعد بعثته قام بالدعوة إلى الإسلام واعتنقت رسالته، وانطلقت تفتح البلاد التي وُعِد بها أبناء إبراهيم من قبل.

            إننا حين نعلم ذلك، نقف على الحقيقة الساطعة التي لا يجوز أن نتعامى عنها، وهي أن العهد قد نفذ وتحقق لحساب إسماعيل، وأن الوعد قد تم تحقيقه على يدي محمد صلى الله عليه وسلم.

            وقبل الإتيان على نهاية هذا المقال أود أن ألفت نظر الطلاب الذي يدرسون التوراة والإنجيل، وعلى الأخص أولئك الذي يتخصصون في الدراسات العليا في نقد هذا الكتاب بقسميه، ألفِتُ نظرهم إلى حقيقة هامة، وهي أن التنبوءات المسيحية المزعومة تتعلق بدعاية ضالة، كُتِبَتْ لصالح عائلة داود بعد موت سليمان الذي انقسمت مملكته إلى قسمين؛ فالنبيّان العظيمان إلياس واليسع اللذان اشتهرا في زمن مملكة السامرة أو إسرائيل، لم يذكرا حتى اسم داود أو سليمان. ولم تعد القدس مركزاً دينياً للقبائل العشر، ولذلك فإن المزاعم أو الادعاءات اليهودية القائلة بدوام واستمرارية الحكم، إن هي إلا مزاعم مرفوضة بصورة قاطعة.

            ولكن الأنبياء من أمثال إشعيا وغيرهم ممن ارتبطت أسماؤهم بهيكل القدس وبيت داود، كانوا قد أوحي إليهم بقدوم نبي عظيم، صاحب سلطان كبير.

            وكما ذكرتُ في المقالة الأولى، فإن هناك علامات معينة واضحة سوف يعرف بها خاتم الأنبياء، وسوف نحاول دراسة هذه العلامات المعينة في الحلقات القادمة.



المصدر: كتاب »محمد في الكتاب المقدس« للبروفسور عبد الأحد داود، ترجمة فهي شما. ص55-65 بتصرف يسير. الطبعة الثالثة 1410هـ/قطر.



(1) وهو –سابقاً- القسيس دافيد بنجامين كلداني، عالم لاهوتي متبحر، من طائفة الكلدانيين الموحدين، التابعة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وكان يحمل شهادة الليسانس في علم اللاهوت. اعتنق الإسلام في أوائل القرن العشرين، وألف كتابه (محمد في الكتاب المقدس) باللغة الإنجليزية، والذي اقتبسنا منه هذا المقال. [الفسطاط]

 

(2) تعتبر التوراة عمر الإنسان على الأرض بضعة آلاف سنة حسب ما جاء فيها، ونحن لا نسلم بهذا، لأن آدم عليه السلام عاش ألف سنة، ونوح كذلك، ولا بد أن ذريته طالت أعمارها أيضاً، ولا شك أنهم رأوا أحفادهم وأحفاد أحفادهم لطول عمرهم. وبهذا لا يصح ما تقوله التوراة عن أن إبراهيم هو الابن العاشر لآدم عليهما السلام. [الفسطاط]

(3) يقصد »العهد القديم«.

(4) (قال: يا بنيّ إني أرى في المنام أني أذبحكَ فانظرْ ماذا ترى. قال: يا أبتِ افعلْ ما تؤمرُ ستجدني إن شاء اللهُ من الصابرين).

 (5) (واتخذ اللهُ إبراهيمَ خليلاً) سورة النساء: 125 (المترجم).

(6)  شعب الله المختار: يزعم اليهود أنهم شعب الله المختار وأن باقي الشعوب في نظرهم عبارة عن جوييم أي بهائم ومطايا لهم. وهذه الفكرة لها نتائجها الخطيرة التي تتلخص فيما يلي:
(أولاً): تشجع معتنقيها على العدوان واستغلال الآخرين،وارتكاب الآثام استناداً إلى هذا التفضيل.
(ثانياً): تدفعهم إلى احتقار الشعوب الأخرى والاستهانة بهم.
(ثالثاً): فيه مساس بكرامة الشعوب الأخرى وحط من شأنهم. والحق أن التفضيل الذي قصد إليه القرآن بقوله تعالى: (.. وأني فضلتكم على العالمين) [البقرة: 47] هو تفضيلهم لا على المؤمنين العاملين بشريعة الله، بل على فرعون وحاشيته، وسبب هذا التفضيل أنهم كانوا مظلومين وكان هو الظالم..وكانوا يؤمنون برسالة أنبيائهم بينما كان فرعون طاغوتاً يدّعي الألوهية لنفسه..
            وقد علل بعض العلماء هذا التفضيل بكثرة أنبيائه، ولكن هذ الكثرة هي حجة عليهم ودليل اتهام على سوء عنصرهم، إذ كانوا سرعان ما يرتدون ويكفرون، فيرسل الله إليهم الرسول تلو الرسول للتذكير والإصلاح ومحاربة الفساد، وليس فيه ما يدل على تخصيص النبوة فيهم أو تفضيلهم على غيرهم، بل إن معنى النبوة في التراث اليهودي اتسع ليضم إلى قائمة الأنبياء المعروفين عدداً لا حصر له من أصحاب الرؤى والمتنبئين ومفسّري الأحلام والعرافين والكهنة والسحرة.. إلى غير ذلك. وقد أنكر عليهم القرآن ما يدّعون أنهم من أبناء الله وأحباؤه، فقال: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلمَ يعذّبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء..) المائدة: 18. ولو جاز لأمة أن توصف بالخيرية لكانت هي الأمة الإسلامية حين تقوم بحق دينها كما ينبغي. قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله..) آل عمران: 110.
(انظر: اليهود في القرآن، عفيف عبد الفتاح طبارة، ص42-44) و(مقالاً بعنوان: "تقييم إسلامي لتاريخ أنبياء بني إسرائيل" للدكتور محمد خليفة حسن أحمد، منشور في مجلة "الفيصل" عدد 84 جمادى الآخرة 1404هـ). [المعلّق]

(7)  هذا خطأ، فإن الله لم يختص هاجر بوحي من عنده، وإنما الوحي خاص بالأنبياء، وهي ليست كذلك، وإن كانت زوجة نبي وأم نبي. (المعلّق على الكتاب)
(8) لعله يريد ما جاء في القرآن الكريم في سورة البقرة: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت إسماعيل..) الآية: 127 [المترجم]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق