السبت، 27 يوليو 2013

في وجه التبسيط 2/2

د. عبد الكريم بكار

1/4/1425
20/5/2004
كنت قد ذكرت في المقال السابق أني سأقدم مثالاً تاريخياً حول تبسيط بعض الناس لأمور هي في غاية التعقيد، واليوم أحاول الوفاء بذلك، وسيكون هذا المقال عن شيء يتعلق بتاريخ الرجل الكبير عمر بن عبد العزيز – رحمه الله-؛ حيث إن عدداً غير قليل من الإسلاميين يعتقدون أن الدولة الإسلامية بإخلاصها وصدقها وإمكاناتها الهائلة تحمل معها أينما قامت مفاتيح الحلول الجذرية المذهلة لكل مشكلات الأمة. وهم يبرهنون على ذلك بالإصلاح الواسع النطاق الذي قام به ذلك الرجل في فترة زمنية قياسية لا تزيد على سنتين إلا قليلاً. وكان من جملة إصلاحاته الباهرة قضاؤه على الفقر في الدولة الإسلامية.
ويستندون في ذلك إلى خبر يفيد أن الخير فاض في زمن عمر إلى درجة أن بعض الولاة أرسلوا إليه يستشيرونه فيما يفعلونه بأموال الزكاة التي جمعوها ولم يجدوا فقراء يوزعونها عليهم، فما كان منه إلا أن أرشدهم إلى أن يشتروا بهم عبيداً ويقوموا بإعتاقهم
والحقيقة أنني شخصياً لا أكاد أحصي الذين سمعت منهم هذا الكلام من أبناء زماننا. وأجزم أن كل الذين يقولون ذلك لم يفكروا في يوم من الأيام في الآليات التنفيذية . وفي حجم الأموال الهائلة التي يتطلبها القضاء على الفقر في دولة تحكم أجزاءً واسعة من العالم خلال مدة زمنية قصيرة جداً في عمر الشعوب والحضارات.
إن هذا الخبر الذي يعتمدون عليه لو صحّ، فإنه في نظري لا يعدو أن يكون حدث في حي من الأحياء أو قرية من القرى أو قبيلة من القبائل، وليس هناك أي فرصة موضوعية لوقوعه فيما هو أوسع من ذلك وذلك للأسباب الآتية:
1-إن الخلاص من الفقر في دولة منتشرة على مساحات ممتدة في آسيا وأفريقيا في سنتين أو عشر سنوات أمر في غاية البعد إن لم نقل إنه في حيز المستحيل العادي؛ لأنه يستلزم أولاً تعريفاً للفقر تجري على أساسه مساعدة الفقراء. وهذا التعريف معقد – كما هو الشأن في تعريف البطالة- ولم يكن متيسراً آنذاك.
ويتطلب ثانياً القيام بمسح واسع النطاق لمعرفة مستحقي المعونة، وهذا يتطلب تشكيل مئات ألوف اللجان التي تقوم بذلك. وبما أن أقاليم الدولة متفاوتة في الغنى والفقر تفاوتاً شديداً؛ فإن عوائد الدولة وجباياتها في الأقاليم الفقيرة لا تسد حاجة الفقراء، ومن ثم فإن هذا يعني القيام بعمليات نقل واسعة ومكثفة للأموال والأشياء والأرزاق من الأقاليم الغنية إلى الأقاليم الفقيرة. وهذا كله على افتراض وجود فائض في بعض الأقاليم؛ وهذا غير ثابت. وعلى كلٍّ فليس لدينا أخبار تاريخية تدل على أن ذلك النقل الكثيف قد تم فعلاً، وهو في أحيان كثيرة لم يكن ممكناً بسبب الحكم (الفيدرالي) الذي كان سائداً، وبسبب صعوبة المواصلات بين الأقاليم الإسلامية المختلفة.
2-هناك ألوف الأخبار المنثورة في كتب التاريخ والتراجم والتي تدل على أن رجالاً كثيرين من أعلام الأمة وعلمائها وصالحيها كانوا يشكون في فترة حكم عمر بن عبدالعزيز من الفقر وقلة ذات اليد. والذين لم يذكر لنا التاريخ عنهم أي شيء يبلغون مئات الأضعاف لهؤلاء. فهل نصدق خبراً واحداً ونضرب بتلك الأخبار الكثيرة جداً عرض الحائط؟!
3-بعض فقر الفقراء يحتاج إلى علاج خاص، وبعضه لا يستطيع أحد علاجه حين يكون فقر الإنسان بسبب كسله وعدم رغبته في العمل؛ فإن الناس يعرضون عن مساعدته، بل يشعرون بأن مساعدته خطأ. وحين يكون فقره بسبب سفهه وتبذيره وسوء إدارته للمال؛ فإن هذا لا يساعده الناس. وإذا ساعدوه لم ينتفع بمساعدتهم.
بعض الفقراء يكونون أيتاماً أو أرامل ومعوقين، وهؤلاء يحتاجون إلى ملاجئ ودور رعاية وجمعيات خيرية ومن غير ذلك تصعب مساعدة العديد منهم.
4-من أين جاءت الأموال لعمر بن عبدالعزيز رحمه الله- حتى أغنى الناس، ولم يبق فيهم من يأخذ أو يستحق الزكاة؟
الذين يقولون بذلك يذهبون إلى أن عمر حسَّن نظام جمع الزكاة والخراج والجزية فصارت الأموال تذهب إلى خزينة الدولة عوضاً عن أن يضيع كثير منها بسبب الرشوة أو بسبب سرقة الجباة. كما أن الله – تعالى- يبارك في الرزق وينشر فضله ومعونته حين يسوء الصلاح ويتولى الأمور رجال أخيار من نوعية عمر بن العزيز.. وهذا الكلام صحيح جزئياً.
وقد كان إصلاح الأحوال في الأقاليم البعيدة عن مركز الخلافة –ومعظمها كذلك- أعظم مشقة بسبب صعوبة الاتصال. لكن الهدر الذي كان يحدث بسبب فساد نظام الجباية لا يشكل في أي حال رقماً ضخماً، ينقل الأمة من حال الفقر إلى حال الغنى.
5-علينا بعد هذا أن نتساءل هل فريضة الزكاة شرعت أو روعي في مشروعيتها ألا يبقى في المجتمع المسلم فقيراً؟ وهل هذه النسبة القليلة كافية لسد حاجات الفقراء في كل الأحوال؟.
لا أعرف آية أو حديثاً فهم منه أئمتنا أن الزكاة إذا أديت على أكمل وجه في مجتمع أو إقليم تم القضاء على الفقر فيه. ولا أعتقد أن من يملك درجة متوسطة من الفقه يُقدم على القول بذلك. إن أفضل عصر أديت فيه الزكاة، وكانت الرغبة فيما عند الله أو أوجها هو عصر النبي – صلى الله عليه وسلم-، ثم عصر الخلفاء الراشدين . ولم يتم الفضاء على الفقر لا في مركز الدولة (المدينة المنورة) ولا في غيرها. وفي أمريكا أو أوروبا يدفع المواطن أحياناً ما يصـل إلى 60 أو 70% من دخله ضرائب للدولة، أي عشرات أضعاف الزكاة، ومع هذا فإن في تلك المجتمعات فقراء وبائسين كثر.
إنني أعتقد أن شعيرة الزكاة جزء من النظام الاقتصادي الإسلامي وهذه الشعيرة لا تحقق أغراضها بكفاءة إلا إذا اشتغلت باقي أجزاء النظام مثل: القرض الحسن، والكفارات، وتوفير فرص العمل، و... على نحو جيد. والنظام الاقتصادي هو الآخر جزء من النظام الإسلامي العام، فإذا كان هناك فساد إداري أو سياسي، أو كان هناك ظلم اجتماعي فادح، أو تحلل أخلاقي؛ فإن النظام الاقتصادي لا يعمل بالكفاءة المنشودة. ومع كل هذا فإن الأعمال الخيرية لا تشكل متن الكفاية المعيشية لأحد، وإنما هي عبارة عن كرّة أخرى من أجل تلافي قصور النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في توزيع العدالة. إنها تساعد النظم المعمول بها، وتسد فجواتها لكنها لا تكون أبداً بديلة عنها. ويجب أن يكون هذا واضحاً.
6-لنا أن نتساءل: هل قضى عمر بن عبدالعزيز على الفقر –على رأي من يدعي ذلك- بسبب صلاحه وتقواه أو بحسب حسن إدارته؟ إن كان ذلك بسبب صلاحه وتقواه، فالنبي صلى الله عليه وسلم- ثم الخلفاء الراشدون أفضل منه وأصلح. وإن كان ذلك بسبب حسن إدارته وتدبيره، فعمر بن الخطاب حكم أضعاف مدته وهو الإداري والاستراتيجي الأول، ومع هذا فلم يتم القضاء على الفقر في عهودهم الميمونة.
7-إن الله- تعالى- جعل الحاجة والعوز ونقص الأموال أداة ابتلاء واختبار لعباده، وسوف تستمر هذه الأداة إلى أن تنتهي حياة البشر على هذه الأرض؛ قال سبحانه: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين)[سورة البقرة:155].
إن هذا التفنيد لتلك المقولة على هذا النحو من التدقيق والتفتيش يستهدف تمرين الذهن على النظر العميق وتحريضه على عدم الاستسلام للمقولات الشائعة، كما أنه يستهدف تكوين بنية عقلية معقدة، تتجافى عن السطحية والتحليلات المستعجلة.
والله الهادي إلى سواء السبيل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق